الاثنين، 30 ديسمبر 2013

الغسل بالكلمات


                          (سأعلّق السنة الجديدة من اقدامها على حبل غسيل وانتظرها حتى تجف من بلل الماضى) هذه كلمات القاص و الشاعر اللبنانى الجميل باسكال عساف ، بنفسه يريد ان يصنع سنته القادمة نظيفة كصحراء الربع الخالى ، نظيفة كدواخله ، تعجبنى هذه الارادة الممتلئة بالتفاؤل والعزيمة ، ويخيفنى بشدة الانتظار طوال الوقت الذى تحتاجه السنة القادمة لتجف فيه من بلل الماضى ، فالانتظار هنا ذاكرة تفتح نوافذها على جراحات نازفة تحتاج الى بحر ليغسلها ، والى ملح يعصر عويلها الذى كان يسلمّك كل ليلة الى ليل مجنون ، فالانتظار هنا يعنى الجلوس على جرح والبلل عويل طويل من نزيفه الحارق ، ولكنها فى الآخر ستجف وستخرج بيضاء ككف موسى عليه السلام ، لم تكن حالما ابدا ايها الشاعر الجميل وانت تنظر الى سنتنا القادمة ، الآن انظر من خلال عينيك وارى كم العوالق المتراكمة فى نفوس الكثيرين ، العوالق التى تبنى داخلهم منفى موحشا لن يروا العمر فيه سوى عام جاف ممتد بلا نهاية ، نفوس تحتاج ان تغطس فى  محيط وبحر لتغتسل منها ، تحتاج لكل الملح فيهما ليتغلغل داخل كل الجراح ليوقظها من شرودها داخل هذا الموات المقيم .

                           فكرة ان العمر عام جاف ممتد بلانهاية ، فكرة حية لدى الملايين فى اوطان العذاب ، يعمل الشعراء فيها جهدهم لغسلها رأس كل عام ، ينجحون حينا وياخذهم الواقع المر احيانا كثيرة الى تغذيتها بعوالق جديدة تزيد منفى النفس اتساعا :
( اردت ان اطلب شيئا من العام الجديد كما يطلب الاصدقاء :
ما اريده من الوقت السريع هذا هو ان يلتصق 2014 فى جاره القريب 2015 وادخل مباشرة فى ال 16 فيكون لا بأس به ويطول قليلا .. ولكنى اخاف ان ادخله فعلا فلا اعمل عملا حتى يطل علىّ احد الاصدقاء ويقول : عام سعيد علىّ وان شاء الله يكون 2017 افضل مما سبقه ) هذه كلمات الشاعر الجزائرى على بهنس ، ولن اجانب الصواب ان فلت انها كلمات الكثيرين فى اوطان العذاب ، كلمات لن تجعل سنتك القادمة كما تريد ولكنها تعزيك فى مصابك بها ، وتقول لك لست وحدك ، ما يحبسك فى الجدب هناك يحبسنى فى الجدب هنا ، و القدر الضئيل من التحريض فيها هو ما يبقى جذوة الامل حية فيك ويمنعك الاستسلام وان اضطررت الى الارتماء  فى احضان الحلم .

                            غدا اول السنة الجديدة ، لن اسمح لشىء ايّا كان ان يفسد علىّ سنتى الجديدة ، لا الحكومات الفاسدة التى تنتزع حقوق و احلام وتطلعات الشعوب وتمنحهم بدلا عنها صدمات متتالية تشج الرأس بحيث لا يعرفون معها رأس السنة من اقدامها ، ولا غيلان المجتمعات المتباهية بحفلاتها الزاهية المدفوعة القيمة سرا من قسمة الثروة والسلطة الظالمة ، ولا اسواق الظلام المخادعة التى تحاول ان تسرق ما فى جيبى بما تروجه من احتفالات زائفة ، لن ادعهم يستأثرون وحدهم بالجمال المتدفق على هذا الكون البديع ، سأوقد شمعتى اينما كنت ، مع اسرتى الصغيرة ، او وحدى فى غرفة منعزلة ، او امام باب بيتى ، او حتى فى مكان العمل ، واقول لأجمل خلق الله ، اولئك الذين يصنعون الفرح بكلمة او اغنية او لوحة او نغم يهدهد متعبى الحياة قبل النوم ، اقول لهم : كل سنة وانتم طيبون ، العالم بكم يظل جميلا ، العالم اجمل لأن خالقه جميل يحب الجمال ، سأوقد شمعتى واحتفل بسنة جديدة سعيدة ، وكل سنة وانتم طيبون .
                           

الجمعة، 27 ديسمبر 2013

حنايا الكون


                       واسعة هذه النفس البشرية ، واسعة بقدر اتساع الكون ، تستطيع وهى متكئة على عنقريب فى غرفة طينية صغيرة ، ارضيتها مفروشة برمل ناعم ، تستطيع وهى تتفقد بيوت النمل المنتشرة عليها مثل شامات على الوجه ، تستطيع ان تنتقل مع الأسئلة اليومية عن الخلق و المتنقلة على مدار اللحظة ما بين العقل والقلب ، تستطيع ان تنتقل الى عوالم مزدحمة بالجمال وتموج بالحركة ، عوالم تحيا بقربك ولكنك لا تعيرها التفاتة لضيق فى النفس او ضيق فى القلب او ضيق فى العقل ، او ببساطة لأنك بعيد عن الله .

                        التيجانى يوسف بشير اكتشف سر القرب من الله ، القرب الذى يفتح ابوابه على عوالم متسعة بالجمال وينقلك اليها اينما كنت :
                                       
                                             الوجود الحق ما اوسع فى النفس مداه
                                             والسكون المحض ما اوثق بالروح عراه
                                             كل ما فى الكون يمشى فى حناياه الأله
                                             هذه النملة فى رقتها رجع صداه
                                             هو يحيا فى حواشيها وتحيا فى ثراه
                                             وهى ان اسلمت الروح تلقتها يداه
                                             لم تمت فيها حياة الله ان كنت تراه

                         كل المكان حولك ما هو الا عرش للرحمن ، فأن لم تره فهو يراك ، لا تلفظه ولا تفسده ، اقترب منه وتأمل ، سيدهشك الجمال المختبىء فيه ، وستجد ان نفسك فى ظله تغتسل وتتطهر رويدا رويدا من عوالقها ، وستجد نفسك قريبا من الله ، وعندها ستندفع الى عشق الهى لكل خلقه حتى لو اتجه هذا العشق بكلياته الى احد مخلوقاته ، حتى لو اتجه هذا العشق الى الآخر الذى تتحاشاه  :

                                              آمنت بالحسن بردا وبالصبابة نارا
                                              وبالكنيسة عقدا منضدا من عذارى
                                              وبالمسيح ومن طاف حوله واستجار
                                              ايمان من يعبد الحسن فى عيون النصارى
                                     
                        لقد اقترب التيجانى كثيرا من الله حتى رأى اثر الله فى تلك الحنايا المنتشرة فى هذا الكون الواسع ، ونظر الى هذا الاثر ( نظرة كالصلاة  .. زلفى الى الله وقربى الى عزه واقتداره ) ، انظر الان حولك وتقرّب الى الله بعشقك لخلقه .
                       

الاثنين، 23 ديسمبر 2013

لغة النوبة هذّبت العالم


                        النوبيون معجزة البشرية على مر العصور ، ليس لأنهم أول من بنى الاهرامات ، ولا لأنهم أول من اهتم بالفضاء ، ولا لأنهم أول من ابتدع الكتابة ، ولا لأنهم اول .. واول.. واول الى آخر ما اسفرت عنه الحفريات والبحوث التى تناولت هذا التأريخ المجيد المبدع الخلاّق ، ولكن لأنهم لا يزالون يتحدثون اللغة التى تحدث بها من قبل نبى الله وسيدنا نوح عليه السلام ، ولأنهم لا يزالون يتحدثون بذات اللغة التى كتب بها نبى الله وسيدنا موسى عليه السلام على الألواح والصحف .

                         كل الأنبياء كانوا هنا ومروا من هنا ، وعرفوا هذه اللغة التى ابدعت فى تهذيب البشر ، فترجموها الى اكثر من لغة واكثر من كتاب ، هذه اللغة ، هى النافذة الأولى التى نظر عبرها ملايين الملايين من البشر الى السماء ، الى حيث الجمال الخالد ، الى النور الذى يضىء ظلمة الاكوان ، الى رب العزة والجلالة ، الى الله ارحم الراحمين ، هى النافذة الاولى التى نقلت البشرية الى ثقافتها السائدة اليوم .

                          هذه اللغة تنطوى على سر اولى الحضارات واعظم الحضارات ، ولا يزال العالم المستنير ، يبحث ويحفر ويبحث ثانية لمعرفة اسرارها ، لمعرفة سر ذلك العقل النوبى الذى واجه وحشة الحياة الاولى وانتصر عليها بالخلق والابداع ، ابنية عظيمة وصناعات حجرية وخشبية وحديدية وزجاجية وغيرها ، معامل لعبت فيها الكيمياء اعظم ادوارها فى حفظ الجسد ، وفى ابداعات اللون ، وفى السموم ايضا ، انها اللغة الاولى التى  اسسّت قواعد العلم .

                           هذه اللغة هى الاولى التى طهرّت النفس البشرية من امراضها ، ولولاها لكان الجنون اليوم سيّد البشر ، وهى التى دفعت (بيّا) او بعانخى العظيم ان يغزو قوما لتجويعهم الجياد ، وهى التى ابتدعت مائدة الشمس حتى لا يصبح الجوع ابتزازا واستغلالا وقهرا للأنسان .

                            هذه اللغة لا يخشاها الا اولئك الذين سرقوا جهد اسلافنا النوبة ونسبوه الى انفسهم ، لا يخشاها الا اولئك الذين انكروا على اسلافنا انهم سادة ثقافتهم الراهنة واساس علمهم الذى يبحث الآن فى اغوار الفضاء ، لا يخشاها الا اولئك الذين ظلوا على مدى قرن من الزمان يدفنون مواقعها تحت المياه ، فأكتبوها الآن الى ان تعثروا على حروفها الاولى . 

السبت، 21 ديسمبر 2013

مأوى جرحى الروح


                         الرصيف ثقب ارضى ابيض ، يجذب جرحى الروح الى عالم من فراغ ، او هكذا نراه عالما من فراغ ، مثلما نرى على رصيف شارع النيل وحيدا جالسا على كنبة من اسمنت وخشب ، نراه تمثالا يحدق فى الفراغ القائم بين الماء والسماء ، يحدق طويلا طويلا كأنه يفرغ فيه حملا ثقيلا ادمى روحه ، اى مدخل على هذا الثقب سيفضى بك الى فضاء مزدحم بالألم والعذاب ، سيفضى بك الى انسانية تتجرح فى اللحظة آلاف المرات جراء عالم متوحش ، يدوس وهو يركض نحو الخراب النهائى على اجمل وانبل خلق الله ، فلا مفر سوى الهروب منه الى الارصفة ، لا يهم ان كانت ارصفة على ضفاف النيل او امام البنايات العالية ، المهم ان يكونوا خارج مدى نظر هؤلاء البشر المسكونين بالوحوش .

                          فى البنايات العالية وحينما يموت احد المقيمين على ارصفتها او يعجز عن النهوض صباحا ، لا يطلب سكانها - بشر من جلدة اسمنتية مطابقة لمواصفات البناء - لا يطلبون الاسعاف وانما يهاتفون مسئول البلدية مستفسرين عن اسباب تأخر عربة نفاياتهم هذا الصباح ، ويبدون تاففهم من كومة الخرق المرمية على رصيفها ، ويا حزنى على الخرق المرمية على الرصيف ، على الوجع الانسانى المرمى على الرصيف ، على الجمال المحبوس فى وجدان الخرق المرمية على الرصيف ، والجمال المتدفق من اصابعها احرفا وانغاما والوانا تسر الناظرين .

                            الرصيف قبر ارضى حى ، اشهد ان الانسان الحق ينام تحت الخرق المتناثرة عليه ، وان الانسان الظل يمر عليه كمروره على اللاشىء ، فأرقدوا بسلام آمنين ، الاحياء منكم والاموات .

                            الى روح السابقين لبهنس واللاحقين له اذا وسعتهم الارصفة 

الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

قبل ان تصل القبيلة


                       لو كانت الامنيات تجدى ، لتمنيت ان تسيطر حكومة الجنوب على الاوضاع فى هذه اللحظة ، لا لشىء الا لكى لا تنتقل هذه الصراعات الى القبيلة ، وما يثير القلق فعلا ان بوادر هذا الانتقال تبدوقائمة فى انقسام الحرس الرئاسى الذى يخشى ان يتمدد عموديا داخل الجيش ثم ينتشر بين القبائل ، وفى هذا الافق المزدحم والمنذر بفوضى قاتلة ، تتردد انباء عن احتلال بور من قبل قوات ينتمون الى قبيلة النوير ، ولأن بور هى عاصمة القسم الثانى من قبيلة الدينكا ، فيبدو اننا على موعد مع داحس وغبراء جنوبية ، ثم يضيف توجيه الحكومة الامريكية لرعاياها مغادرة جوبا فورا ، ترقبا قلقا للقادم من الدماء المراقة ، ليختتم الامين العام للأمم المتحدة هذا المشهد المأساوى بمخاوفه عن اقتراب الجنوب من الانزلاق فى حرب اهلية .

                        لو كنا فى روما القديمة ، سنصف هذا المشهد الذى يحيط بأرض الجنوب الآن ، بأن هذه الارض تستعد لأستقبال اله القتل والدمار ، ومتى حلّ هناك فستصبح كل من الحكومة فى جوبا والمعارضة لعبتين دمويتين فى يده ، وسترتوى يده العطشى دوما للدماء وللحريق بأبرياءالجنوب ، بغابات الجنوب ، ببلدات الجنوب ، وسيترك فى كل مكان احرقه واباد اهله تذكارا ، مرة بوجه سلفا كير ومرة بوجه رياك مشار ، وسيختم جولة دماره وقتله بعبارة صغيرة تقول : كانت هنا دولة .

                        الجنوب الآن يقف عاريا يتربص به وحش قاتل ، اتمنى ان يعى ابناؤه ما ينتظره ويعملوا جميعا على ستره .

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013

لنحرق هذه الحقائب


                      موانى الدخول فى الدول الافريقية ، تبدو معابرا سهلة  لأسلحة خطرة ، اسلحة لا تطلق الرصاص ولا الغازات القاتلة ، اسلحة ورقية شديدة الخطر ، محمولة على حقائب انيقة بأقفال عالية التقنية ، وموصولة باقمار اصطناعية ترشدها الى مكاتب او منازل او فنادق يتواجد بها مسئول افريقى و توقيع معتمد و ختم ، هذه الحقائب الملأى باليورو والدولار ، هى التى اشعلت الحروب فى معظم بلدان افريقيا .

                        الحرب فى افريقيا تكون بدايتها فى هذه الاماكن ، تفرغ الحقائب محتوياتها من اليورو او الدولار وتضع مكانها شهادة بحث بارض تقاس مساحتها بخطوط الطول والعرض ، ارض كل الكنوز التى فى باطنها سر محفوظ فى قرص صلب داخل قمر اصطناعى ، هذا القمر الساحر الذى يعلم بدقة متناهية ، حجم النفط داخلها وعمره الانتاجى ، ويعلم حجم المعدن داخلها وعمره الانتاجى ، ويعلم مدى خصوبتها وحجم انتاجها ، ويعلم ان الحقيبة الملأى باليورو او الدولار التى استحوزت عليها ، ستفرغ نفسها اولا هناك فى بنوكهم ،  وستفرخ لاحقا الآلاف امثالها ، وستجعل الحياة هناك فى اوروبا او امريكا او فى بلاد اللاعبين الجدد اكثر رفاهية .

                         اما هنا فى ارض افريقيا الغنية ، فلن تخلّف هذه الحقائب سوى الاحتراب ، لن تخلّف سوى اسراب الذباب الملتفة حول الجثث الملقاة على ضفاف الانهار بدلا من قناديل الذرة والقمح ، لن تخلّف سوى الجهل والجوع والمرض والغبائن ، اما هنا فى ارض افريقيا الغنية ستسخر هذه الحقائب من آبائها الذين قدموا ارواحهم ودماءهم لتكون هذه الارض حرة ويكون خيرها لأبنائها ، وستمد لسانها عليهم قائلة : نحن ابناء المستعمرين تخلصنا من المسئولية الاخلاقية التى الزمت اباءنا ان يبنوا لكم مدارسا ومستشفيات وخطوط سكك حديدية الى آخر ما انجزوهوا لكم مقابل ما اخذوه من ثروات ، نحن ابناء المستعمرين نأخذ ما نريد من ثروات متكئين على اخلاق ابنائكم التى تساويها هذه الحقيبة الصغيرة .
                    
                          هذه الحقائب التى قتلت الملايين فى افريقيا ، هذه الحقائب التى سرقت حلمنا ، هذه الحقائب التى احاطتنا دوما بالرعب من بعضنا البعض وبالكراهية لبعضنا البعض ، يجب ان تحرق على الملأ ، يجب على افريقيا ان تقيم فى كل ميناء دخول محرقة لهذه الحقائب ، لقد اعادتنا عبيدا داخل اسوار بلادنا ، فلنحرق هذه الحقائب .

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

فى البدء كانت صرخة


                      الصرخة الاولى التى واجهنا بها الحياة ، هل كانت استغاثة ؟ ام كانت تعبيرا عن الألم ؟ كم عدد المرات التى صرخنا فيها طيلة مسار حياتنا ؟ وكم عدد المرات التى وجدنا فيها استجابة رؤوم كتلك التى وجدناها لحظة الميلاد وعلّقتنا على ثدى بدأ عطاءه على الفور من اجل بقائنا فى الحياة ، كأن بينه وبيننا عشرة طويلة ؟ لا ابحث عن اجابات هنا بقدر ما اسعى للتأمل فى عالم الصرخة ، اذ كثيرا ما تراودنى فكرة ان رائعة الطيب صالح (عرس الزين) مصدرها صرخة ، صرخة خرجت عفوا فى زمن ما من مكان ما واضاءت مخبأ امرأة جميلة فى مجتمع محافظ ، فرأى فيها اداة لتحرير ظلمة تلك المخابىء المنتشرة فى المجتمع ، لتجىء رواية (عرس الزين) محمولة على هذه الصرخة .

                      ترى من اى نواح النفس تخرج هذه الصرخة المتعددة النبرات والاهداف ؟ تصرخ لتستغيث ، وتصرخ تعبيرا عن الجزع ، وتصرخ تعبيرا عن الألم ، وتصرخ تعبيرا عن الفرح ، وتصرخ ضجرا من الحياة ، ولكنها فى عمومها تبدو لى تعبيرا عن ضعف انسانى ، او نداء لأحتياج عاجل لدعم او لمواساة او لمشاركة ، بل تبدو اعترافا قاطعا بأنك لن تستطيع وحدك ان تواجه هذه الحياة والا صارت حياتك صرخة متواصلة .

                       انظر حولى وارى انفسا تكتم داخلها صراخا مؤلما ، تكاد ترى نزيفه على وجوههم ، وأسأل ما الذى يخشونه اذا ملأوا الدنيا صراخا ؟ ما الذى يمنعهم من التعبير عما بداخلهم ليشاركهم الآخرون فيه ؟ لماذا يخشون الآخرين ؟

                        للكاتمين الصرخة ثمة حبل انسانى يربط البشر بعضهم البعض فمتى اهتز لصراخك اهتز معه آخرون فى جميع انحاء هذا العالم ، فأصرخ لتختبر هذا العطف الانسانى ، واصرخ لتشيعه بين الناس .   

الأحد، 15 ديسمبر 2013

انى اعتزر فهل تصالح ؟


                      حبى لشعبى السودانى بلا حدود ، فهو احدّ الشعوب ذكاءا ، لا كما تشيع الاستطلاعات المضللة التى تختبىء وراءها اجندة تستدهفنا فى وجودنا وثرواتنا ، احبه لأنه علّمنا منذ زمان بعيد ان العقل هو عصمتنا عند المكائد ، تماما كالصبر عند الشدائد ، انظر الى هذا المثل الرائع الذى يقول (الأضينة دقوا واعتزر ليهو) ما اجمل هذا التحريض الذى يدفعك ان تنأى سريعا من تأثير ثقافة الاعتزار على ما فيها من نبل ورقى انسانى حتى لا تكون (اضينة) ، ولكنه تحريض ضد اولئك الذين يتخذون من الاعتزار مطية لتبرير افعالهم المتعمدة التى الحقت الكثير من الاذى بالناس من اجل مصالح ضيقة ، وضد اولئك الذين يلجأون الى الاعتزار بعد ان يكونوا قد فقدوا القدرة على اصلاح الاذى الذى الحقوه بغيرهم ، غنى يا (وردى) غنى ( اعتزارك مابفيدك ..ودموعك ما بتعيدك  العملتو كان بأيدك .. انا ما لى ذنب فيه ) قمة الطرب فى هذه الايام ان تستمع لراحلنا المقيم (وردى) وهو يصدح بأغنية (بعد ايه) .

                        ومع ذلك فأن التحية واجبة لمن اعتزر ، بدءا من السيد النائب الاول لرئيس الجمهورية سابقا ، مرورا بدكتور نافع على نافع الى آخر من طالته قائمة الاعتزار ومن ستطوله لاحقا ، التحية لهم لأنهم اكدوا لنا ان الجموع الغفيرة من ابناء الشعب السودانى التى نأت بنفسها عن مظلة سلطتهم رغم اغراءات السلطة وارهابها ، كانت على حق ، ان غالبية شعبى العظيم كانت على حق .

                         والتحية لهم ثانية لأنهم بأعتزارهم هذا اضاءوا لخلفهم حقيقة ما كانوا عليه من ظلام انتهكت فيه من حقوق الشعب السودانى الكثير ، واهدرت فيه من ارواح الشعب السودانى الكثير ، وان على خلفهم ان يرى حقيقة ان لهذا الشعب رؤوسا ملأى بأفكار نيّرة ومحبة لهذا الوطن واهله اجمعين وليست (قنابير) يسهل التلاعب بها .

                          ثقافتنا وديننا يقول لنا ان من يعفو ويصلح فأجره على الله ، واجر الله اعظم من كل ما تدفعه خزائن الارض ، ولكن العفو يشترط المقدرة والشعب السودانى فى اسوأ حالات الفقر والانهاك والغبن للدرجة التى لم يعد يرى فيها ما تم من انجازات هى بكل المقاييس تعتبر نقلة نوعية ، وللصلح استحقاقاته اولها هذا الاعتذار وآخرها رفع المظالم ورد الحقوق لأهلها وجبر اضرارها ، هذا هو الارث الثقيل الذى يواجه من يحكمون الآن وسيواجه من يحكمون لاحقا .

                           هذا الشعب حلمه بقدر اتساع ارضه ، وصيره بقدر اتساع ارضه ، وعنفوانه كعنفوان الطبيعة ، فهو يستحق ان ينعم فى هذه الارض بالأمن والسلام وان ينال نصيبه بعدل من خيراتها ، فاللهم اجعله بلدا آمنا وارزق اهله بالثمرات .

الخميس، 12 ديسمبر 2013

لا يسعها شىء


                     ما اسم ذلك الشاعر الانجليزى الذى قال مرة انه اذا اعياك عشق امرأة فحوّلها الى ادب ؟ اظنه (كيتس) ، يا له من رجل يستحق من العزاء مقدار حمى العشق التى انهكته واستهلكته حتى الموت ، وربما كانت حمى العشق هى التى اوهمته ان كل العاشقين يمتلكون مثله ذلك الألهام الذى استطاع به ان يكتشف حبال الوصل الممتدة بين جمال الطبيعة وجمال المرأة التى عشقها حتى الموت ، للدرجة التى يعجز معها ان يفرز عما اذا كان الجمال الجالس معه هو امرأته ام مرج مزدحم بزهر وورد بألف لون وألف عطر ، ثم يهرب منه محموما ويصيغه شعرا يثبت ان وراء كل شعر جميل امرأة ، ثم يصير الشعر الذى صاغه ضلعا ثالثا فى هذا المثلث المتساوى الجمال .

                      (حوّلها الى ادب) هى قاعدة ليست بالضرورة ان تكون شعرا او قصة او رواية او نثرا مرسلا الى ما لانهاية فى عالم العشق ، فلوحة منسية فى غرفة رجل منسى يعيش فى حى منسى ، تحكى خطوط اللون فيها وتلك الاضواء التى تسطع فجأة بينها ، تحكى ايضا قصة عشق مشتعلة بالحمى ، او مقطوعة موسيقية تتسلل الى خلاياك مثل تيار كهربائى خفيف كذلك الذى تحسّه لحظة اقترابك من لقيا حبيبة ، فهذه الموسيقى التى تاتيك من فضاء بعيد لا تعرفه ، تحكى ايضا قصة عشق ملتهبة بالحمى ، فكل ادب وفن يلامس دواخلك بدبيب ناعم من حمى ، فأعلم ان وراءه امرأة ، فحين تحسّه أرسل سلاما الى (كيتس) وقل له لا زالت الحمى مشتعلة .

                       ولكن ايها الشاعر النبيل ،  ماذا يفعل العاشقون مع امرأة لا يسعها الادب ولا الفن ، امرأة لا يسعها شىء ؟.

                    
جون كيتس

الاثنين، 9 ديسمبر 2013

عودة تيموثى عبد القيوم


                        تيموثى هو تيموثى ماكفاى ألامريكى الذى قام بتفجيرات اوكلاهوما فى 19 ابريل 1995 ، التفجيرات التى راح ضحيتها 168 ابن آدم ، وطيلة الفترة من 19 ابريل 1995 تاريخ تنفيذه لهذه التفجيرات وحتى تأريخ اعدامه فى 11 يونيو 2001 بذلت السلطات الامريكية جهودا مضنية ومغرية ليبدى شيئا من الندم على جريمته النكراء ، الا انه ظل ثابتا ومتمسكا بتلك الفكرة التى استولت عليه ودفعته دفعا لتنفيذ عملية التفجير ودفعته اخيرا الى قبره ، وتلك الفكرة ليست جديدة على البشر ، فكرة الانتقام من نظام قائم داخل دولة او فى المجتمع او حتى داخل مؤسسة عمل صغيرة ، فهى فكرة حيّة داخل النفس البشرية على مر العصور ، ليس فيها بحث عن بطولة وانما معنى للوجود ، ولو قدر لهذا النظام او ذاك داخل الدولة او داخل المجتمع او داخل مصنع صغير ان يسمع وسوساتها ليلا ونهارا ، لأعاد النظر فى مفاهيمه واساليبه التى يدير بها شئون البشر ، ولقام بأعادة تأسيسها على معايير عادلة وشفافة ، لا تهضم حقا ولا تهدر روحا وتبقى ابواب الامل مشرعة دوما ، حتى لا تتفاجأ يوما بتيموثى آخر .

                         اما عبد القيوم فهو بطل قصة بشرى الفاضل (حملة عبد القيوم الانتقامية) التى اتحفنا بها فى اواخر السبعينات او اوئل الثمانينات على ما اذكر ، فذات الفكرة التى استولت لا حقا على تيموثى ماكفاى كانت قد استولت على عبد القيوم السودانى الذى فعل (ببلدوزره) ما فعله لا حقا تيموثى من قتل وهدم ، الا ان عبد القيوم امتد انتقامه ليشمل نفسه المقهورة ايضا حتى لا يخلّف وراءه اثرا لهذه الحملة يقود اعداءه واعداء امثاله يوما لأكتشاف اسرارها ، اولئك الاعداء القابضون على مفاصل كل شىء والمصابون بالعمى والتبلد عن رؤية ما فعلته اياديهم باحتياجات الناس و ما ولّدته فيهم من آلام ، وآثر ان يختار لها فى الختام مهدا رفيقا رقيقا ، هو ذات الماء الذى حمله وهو جنينا فى بطن امه ، كأنما حياته وحياة امثاله ما هى سوى رحلة للأنتقام .

                          فللطاقم الحكومى الجديد ، ثمة خوف كبير يحيط الناس فى هذا البلد من عودة تيموثى عبد القيوم ، اذ كل الطرق الجاذبة لعودته تكون  عادة مغطاة بركام من الظلم والعوز والانتهاكات ، ازيلوا هذا الركام حتى ولو كلفكم الميزانية بأكملها ، فليس هنالك مشروع اعظم من تنمية البشر ، لتكن ميزانيتكم المقبلة موجهة لمشروع وحيد هو (رفع الظلم وجبر الضرر) .

الخميس، 5 ديسمبر 2013

مانديلا مات


                 



                         مانديلا مات

             اى اخدود عظيم سيسع هذا الرفات

الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

كسلا ام القبيلة ؟


                        ما يجرى من هجوم على البصات السفرية المتجهة الى كسلا ، لا يبدو لى حدثا محليا مرتبطا بموقف قبلى من السلطات ، ففى الصورة العامة تبدو كسلا والقبيلة هدفا مزدوجا من وراء الهجمات على البصات السفرية المتجهة اليها ، فمثل هذا الهجوم عند تصاعده يؤدى الى عزلة المدينة ونزوح سكانها اذا استحكمت هذه العزلة ، فمن هو المستفيد من موت هذه المدينة ؟

                          السلطات الامنية تعلم ان حدودنا الشرقية ظلت محل نشاط لجماعات مسلحة منذ امد بعيد ، ولكننا كعادتنا حاصرناه داخل مصطلحاتنا المحببة (شفتة ، مهربون ، تجار ممنوعات ) الى آخر تلك المسميات الهاربة من حقيقة تلك التشكيلات المسلحة واهدافها وما انجزته من مهام على مدى تلك العقود الطويلة من نشاطها المسلح على تلك المساحات من ارض الوطن ، فثمة مساحات تبدو فى ازدياد وتتجه الى التحرر من اى ظل رسمى كمقدمة للتحرر من اى ظل سيادى .

                           ولكى نتمكن من الرؤية الصحيحة لما يجرى فى كسلا ، علينا ان نصطحب التأريخ والجغرافيا معا ونضعهما تحت مجهر النظام الدولى الجديد ، فمعلوم ان كسلا كانت احد ميادين الحرب العالمية الثانية كمنطقة نزاع بين المستعمرين الايطاليين المحتلين لاثيوبيا واريتريا وبين بريطانيا المحتلة للسودان ، وثمة دماء ذكية اريقت على هذه الارض وارواح طاهرة ازهقت من اجلها وخلّفت وراءها ذكريات متخمة بالكثير ، لم تقتصر على البريطانيين والايطاليين فحسب وانما طالت السودانيين والاريتريين ايضا ، وهو تأريخ قريب تشهد عليه حتى اغنيات لا تزال حيّة ، فالمستعمرون تركوا فى كل ارض خرجوا منها بؤرا للنزاع ، ومهما طال سكونها تجدها تلوّح دائما بأنفجار ولو بعد حين ، وكسلا ليست استثناءا ، بل تبدو فى ظل النظام الدولى الجديد بؤرة محفّزة لخريطة جديدة ، خاصة اذا اخذنا فى الاعتبار هبة الطبيعة التى جعلت من اراضينا سهولا زراعية خصبة لم ينقطع عنها نظر جارتينا اثيوبيا واريتريا ، اللذين لم يكفا عن لعن الجغرافيا السياسية التى رسمها الاستعمار ومنحتهم جبالا بلا سهول ، فاى فعل مسلح على تلك المساحات لا يعدو الا ان يكون تعبيرا لتلك اللعنة سواء ان جاء بأرادة رسمية او ارادة شعبية .

                           ان اكثر ما يقلق المرء فى هذه الهجمات ، ليس الهجمات فى حد ذاتها ، وانما التوقيت ، فهو مؤشر الى تفكك تماسك الجبهة الداخلية التى اثخنتها الصراعات حول السلطة حتى باتت اشبه بالجزر المعزولة ، الى الحد الذى يشجع قبيلة ان تزج بأبنائها فى معترك اذا بلغ نجاحاته سيخرج كسلا من خريطة الوطن وسيخرج القبيلة نفسها من ارض كسلا ، فثمة معايير عرقية ودينية وثقافية جارية الان فى اكثر من بقعة فى العالم ، هى التى ستحدد الارض ومن يسكنها ، ولن نستطيع مواجهتها ونحن بهذا التشتت ، ولن نستطيع معه ان نصل الى اتفاقيات مع جارتينا يجعل من هذه السهول محل استثمارات مشتركة تغطى كثيرا من احتياجاتنا جميعا ونضمن بها امن وسلام واستقرار المنطقة . 

                           ان ما يجرى من هجوم على البصات المتجهة الى كسلا ، فعل يستهدف كسلا والقبيلة معا ، فهل يستيقظ اللاعبون المنفردون والمتكتلون والقابضون على السلطة والمتطلعون اليها ، هل يستيقظون من هذا الكابوس الدامى والمدمر الذى يخوضون فيه ، قبل ان يأتى عليهم يوم يجدون فيه انفسهم لا يستطيعون عبور نهر او جبل او سهل من ارض الوطن الا بتأشيرة دخول .
                            

اغنيات الشعب لا ترحل


                        من بطن حوارى منسية ، خرج ضياؤه اول مرة نجما فى سماء مصر ، ثم اتسع ليشع فى الأرض التى تتكلم عربى ، ولأن الارض التى تتكلم عربى ظلت ولا زالت فى حاجة الى أغنية او موال يخرج من اوجاعها ويعود اليها ثانية مواسيا ومشجعا ومحرضا ايضا ، لم تصدق ان كل الذى تحتاجه ، هو ان ترفع رأسها لترى نجما يغنى لها ، هكذا بدأ اوّل تعلقها بصوت انهكه حبه للأرض المزدحمة بالوجع والموجوعين :

                        الخط دا خطى             والكلمة دى لىّ
                        غطى الورق غطى        بالدمع يا عينىّ
                        شط الزتون شطى          والأرض عربية

                         احمد فؤاد نجم ، هو احمد الأغنية العربية الشعبية ، هو اغنيتى فى وجعى هنا واغنية لفلاح فى وجعه المعتاد فى حقل عنيد مقسط ، واغنية لعامل فى وجعه المستفحل مع حديد لا يعرف لغته ولا يرأف به ، انه اغنيتك اينما كنت مع وجعك الملازم .

                         اليوم رحل صاحب هذه الاغنية ، لكنّ صوته سيبقى يؤآنسنا ويغرد لأوجاعنا دوما ، رحل هذه المرة دون ان يمارس طقس عمره المعتاد فى الرحيل ، الطقس الذى علّمه كيف يراوغ خطوط المنع المفروضة على خطاويه ، على غنائه على كلامه :
       
                           منوع من السفر
                           ممنوع من الغنا
                           ممنوع من الكلام
                           ممنوع من الاشتياق
                          ممنوع من الاستياء
                          ممنوع من الابتسام
                          وكل يوم فى حبك تزيد الممنوعات
                          وكل يوم بحبك اكتر من اللى الفات
                    
                     اربعة وثمانون عاما علّمته وعلّمتنا ، ان السجن يستطيع ان يحجز الشاعر ويعزله عن الحياة ، لكنه لا يستطيع ان يحجز اغنياته ويعزلها عن الحياة ، وان المنافى وان بعدت لا تستطيع ان تمنع تواصل اغانيه مع الموجوعين فى المدن والارياف على ظهر هذه الارض الواسعة  ، فلأغنياته اجنحة سرية لا يحجزها شىء ، ولأغنياته مسارات سرية لا يعترضها شىء ، حتى ان الموت الذى يستطيع ان يغيبه فى تلك الحفرة التى تنتظر الجميع ، حتى الموت القادر على ذلك لا يستطيع ان يغيّب معه اغانيه ، فأغنيات الشعب لا تموت ولا ترحل .

                        رحم الله الشاعر احمد فؤاد نجم رحمة واسعة .

السبت، 30 نوفمبر 2013

امرأة ككل النساء


                      يمر يوميا بعشرات النساء ، وكان قد مر من قبل بمئات منهنّ ، بل مر بآلاف ، وكل واحدة منهنّ تشعره بالرضا وان الدنيا ما زالت ملأى بمن يحتفى بالجمال ، كل واحدة منهنّ حين يراها فى الطريق ، يرى لمحات جميلة عالية التكلفة مصحوبة برسالة قصيرة تقول : التجمّل واجب بشرى ، رسالة تذكرك بقول حبر الأمة عبد الله بن عباس رضى الله عنه وارضاه (كنّا نتجمّل لهنّ كما يتجملنّ لنا) .

                       لكن كل هذا العدد من النساء الذى صادفه لم يجد بينه تلك المرأة التى حكت له جدته عنها فى الطفولة ، ولا تلك التى ضجت بها كتب كثيرة ، ولا تلك التى كانت تلوح له فى صباه كل ليلة على نجمة بعيدة وتختفى ، ثم تظهر وتختفى ، حتى يغلبه النعاس ويأخذه الى صبح مشبّع بالأمل ، ولا تلك التى رسمها بنفسه بكل تفاصيلها الدقيقة وخزّنها فى مخيلته فى اقرب جزء للعين  حتى اذا رآها ، شحذ نفسه وانغمس فيها ، ومع ذلك ظل شعوره اليومى واعدا بان روحه على موعد قريب مع رفيقتها ، رفيقة يعرفها من الحلم ، ويعرف ان بينهما لقاءات سابقة غامرة بذكريات حميمة وبوعود صادقة لم تخب ابدا  .

                        قال لى ان (حياة) كانت جنونه الأول ، وانه بعد خمسين عاما من آخر يوم رآها فيه ، اخذته حالة من العشق المنفلت ، فوجد نفسه يطرق باب بيتها بلهفة وشغف محموم ، وحين علم انها رحلت مع زوجها منذ عقود الى حى بعيد لم ييأس ، وكاد ان يثقب آذان ذلك الحى البعيد بطرقاته الشغوفة ، من فتح الباب كان فتى يرتدى ملابس المرحلة الثانوية ويبدو انه كان عائدا لتوه من حصص مسائية ، سأله : استاذة حياة موجودة ؟ صرخ الفتى : ( يا حبوبة  فى واحد عايزك بره ) لم ينتظر اذنا بالدخول ، كانت تجلس على سرير قرب الباب ، فأندفع نحوها والدمع يملأ عينيه وهو يسألها : عرفتينى ؟

                         اكاد اجزم بأن هذه المرأة عرفت فى تلك اللحظة ولآول مرة فى حياتها معنى الهلع ، لكنه بعد ان حكى لها قصة حبه الاول معها ، بكت واحتضنته كأحد احفادها ، وتذكرت كيف كان هذا الطفل الشقى يتعب امه فى العصريات ويجبرها لتقطع ذلك المشوار الطويل كى تشبع شوقه الى رؤية مدرسته فى الروضة ، واعلم علم اليقين انه لم يكن وحده فى هذا الجنون ، ولا امه كانت وحدها فى مشاوير الشوق تلك ، ولكنه الوحيد من بينهم الذى اشتعل شوقه ثانية مثل بركان راوغ خموله الدنيا سنينا طويلة وانفجر فجأة ، اردف زيارته هذه بأخرى اصطحب فيها امه وزوجته وابناءه وكل منهم يعلم القصة بتفاصيلها ، وبينما هو يترجى فىّ ان نذهب سويا لزيارتها مرة اخرى ، كنت قد سرحت هائما فى قداسة عالم الامهات ذاك .

                         قال لى ان الشعور الذى احسه تجاه مدرسته وهو طفل لم يتعد الرابعة من العمر بعد ، هو ذات الشعور الذى احسّه تجاه زوجته منذ اللحظة الاولى التى التقى بها ، وهو ذات الشعور الذى احسّ به تجاه اخريات صادفهنّ فى شبابه ، ثم تسآل متعجبا : اين اختفن ؟ اين اولئك اللواتى ملأننى بالعشق حد الأعياء ؟

                          خفت ، خفت على ابواب هادئة فى احياء هذه المدينة من طرقات فجائية ، وخفت عليه اكثر من سوء ظن القابعين خلفها ، فمع (حياة) كان فرق العمر عاصما من سوء الظن ، وامتلأت خوفا حد الارتباك والتيه حين ملأت يقينى فجأة فكرة ان جنون العشق هذا خاصيّة حيّة داخل كل انسان ، وان منظومة الكبت والقهر التى اعتمدتها كثير من المجتمعات لن تقوى فى لحظة انفلاته من السيطرة عليه ، فما هو مصدر هذه الجاذبية الهائلة التى تجمع رجلا بأمرأة دون اى اعتبار للسن او العرق او الدين او اللون ، دون اعتبار لأى شكل من اشكال التمييز التى الفتها المجتمعات ؟

                           لا علم لى ، ولكن شيئا ما يكمن فى روح المرأة ، وشيئا ما يكمن فى جسدها ، وشيئا ما يكمن فى عقلها ، او هذا الشىء الموزع فى كل نواحى المرأة هو مصدر الجاذبية ، وتلك المرأة التى طافت بها الحكايات ، وتلك المرأة التى تلوح للمرء ليلا من نجمة بعيدة ، وتلك التى ترسمها فى رأسك ما هى الا امرأة ككل النساء .

الجمعة، 29 نوفمبر 2013

احتيال شبه رسمى


                         ظاهرة استقطاعات الاموال من مرتبات العاملين والمتقاعدين والتى تقوم بها بعض النقابات والاتحادات دون اخذ الاذن منهم ، ظاهرة تدعو للقلق والمخاوف على منظومة القيم والاخلاق والقوانين التى حكمت تأريخ الخدمة العامة فى السودان منذ مطلع القرن الماضى ، واذا احسن المرء الظن بمقاصدهم وراء هذا الاستقطاع ، فأن الاسلوب الذى تم به اجراء هذه الاستقطاعات يفسد لدى المرء اى حسن ظن فى تلك المقاصد لما فيه من تعسف ، ولأن أخذ الأموال دون علم اصحابها ، لا فرق بينه وبين أخذ الاموال خلسة ، ولست هنا بصدد تناول لجوء النقابات لهذا المسلك فى دعم ماليتها ، فهذا امر اولى به عضويتها .

                         ما يثير القلق والمخاوف اكثر هو موقف السلطات ، واخص منها سلطات حراسة المال العام كالمراقبين الماليين بمراجعاتهم الداخلية ، وسلطات المراجع العام ، وسلطات القائمين على شئون العاملين والمعاشيين ، المفترض فيهم وبحكم القانون حماية اموال الدولة والعاملين والمعاشيين من اى استقطاع مخالف للقانون او تجاوزات اواختلاسات ، فهل هنالك ثمة تعديلات ادخلت على القانون تبيح للنقابات والاتحادات استقطاع مبالغ من مرتبات العاملين والمعاشيين دون اخذ الأذن منهم كما فى حالة الاحكام القضائية ؟

                          فاذا لم يكن هنالك تعديل قد تم على القانون ، فأن الأجراءات التى صاحبت استقطاع تلك المبالغ فى اى مرفق من مرافق الحكومة ، تعتبر اجراءات باطلة قانونا ، وان المسئولين فى الشئون المالية وشئون العاملين والمراجع العام الذين اشتركوا او اغمضوا اعينهم عن هذه الاجراءات سهوا او خلافه ، يعتبروا مسئولين مسئولية مباشرة عن فساد هذاه الأجراءات ، فلا طاعة فى امر مخالف للقانون ولن تنجى زريعة (التعليمات العليا) كل من ضلع فى مثل هذه الاجراءات من المحاسبة .

                           واذا لم يكن هنالك تعديل قد تم ، فان اقبح ما فى هذا الاجراء بجانب انتهاكه السافر للقانون ، انه يجعل من النقابة اوالاتحاد والسلطة شريكان فى فعل مخالف للقانون بتقاعس كادر السلطة المناط به تدارك مثل هذا الأجراء حماية للمال العام ومال العاملين والمعاشيين ، ويضفى على الاجراء شبهات احتيال شبه رسمى .

                            فى 8\8\2011 كنت قد اثرت هذا الموضوع بهذه المدونة تحت عنوان (ضباط تحت الاهانة والانتهاك) وحتى هذا التأريخ ، لا تزال الاستقطاعات جارية ، فليت من بيده العلم ان يفيدنا عما اذا كان قد استحدث للنقابات والاتحادات حقوق اصيلة فى استقطاع ما تراه مناسبا من مرتبات العاملين او المعاشيين ؟ .
                            

الخميس، 28 نوفمبر 2013

الشاهد الثالث


                      يقولون ان للقدر تصاريف مبدعة فى الانتقام ، لكنه اعتبر هذا القول محاولة خبيثة من الظالمين لتحييد او تعليق ردة فعل المظلومين الى اجل غير مسمى ، ومضى فى طريق مظلم لا يستطيع ان يرى فيه مجرد لمحة من جمال الحياة ، لم يستطع ان يرى فيه حتى اشراقها واشراقاتها كل صباح ، اصبح خليلا مخلصا لليل ، يبحث فى عتمته عن كهف او مخبأ سرى يجدل فيه حبالا من مسد اعدها ليشنق بها ذلك المسئول الذى سلّمه قرار فصله وشماتته النتنة كانت تتدفق من كل منفذ فى جسده ، من اعلى الى اسفل ، حتى بدا فى نظره (قربة) بأكثر من ثقب ، (قربة) مصنوعة من جلد نتن ، كانت تلقى باقبح فضلات البشر فى تلك اللحظة ، تلك اللحظة التى استولت عليه بالكامل ودبغت عقله وقلبه بالحقد والكراهية والرغبة المنفلتة فى الانتقام .

                     لم يدر ان الكهوف والمخابىء السرية التى يبحث عنها فى عتمة الليل ليكمل مشهد انتقامه المرتجى بعيدا عن خائنة الاعين ، قد سبقه اليها كثيرون على مر العصور ، بعضهم تغلّبت عليهم انفسهم الملهمة بالتقوى فأتخذوها معزلا لهم من ظلم الناس فى الدنيا ومن نصبها ، وحين خرجوا منها ، اضاءوا دروب البشرية بالخير والجمال ، وبعضهم تغلّبت عليهم انفسهم الامارة بالسوء فأتخذوها مطبخا لتغذية الشر المتفشى وباءا على الطرقات ، وحين خرجوا منها كانوا شياطين الانس الذين ينتمى اليهم امثال ذلك المسئول ، المتمترس بعضهم فى اكثر من مفصل من مفاصل الدولة ، هؤلاء لايخيفهم شىء سوى الطهر والعفاف والنزاهة ، فمتى اجتمعت هذه الفضائل فى احد زملائهم صار على الفور عدوا لهم ، وعلى الفور يبدأون العمل على شطبه نهائيا من سجل الوظائف .

                        الوظيفة ، هذا السجن الفقير الذى يشدهك بتفاصيل كثيرة حتى لا ترى تراتبيتك فى سلك العبودية الرسمى ، لا تستحق ان تمارس من اجله هذا الطقس الليلى الذى يأخذك من كهف حاقد الى مغارة ممتلئة بالكراهية الى مخبأ مكتظ بالغل والغبن ، لا تستحق ان تسمح لها ان تشحنك حتى النخاع بفكرة الانتقام ، لاتستحق حتى ولو بدت لك رمزا صغيرا يتيح لك خدمة وطن تحبه ، وحتى لو بدت لك حقا من حقوقك التى يكفلها لك حق المواطنة ، وحتى لو بدت لك معنى زاهيا للكرامة ، فهى فى الآخر ، سلسلة طويلة من القيود التى تمتد حتى حياتك الخاصة وتدمى جسدك وروحك طوال فترة خدمتك ولا تمنحك فى الختام سوى معاش بائس وذكريات بئيسة ، ولكن هذا المسكين لم يفهم ذلك ولم يستطع صبره ان ينتظر عدالة السماء ، بل اخذ يحرق سنوات ما تبقى من شبابه فى ممارسة طقسه الليلى آملا فى ان يكون صباح الغد موعد انتقامه المقدس ، ولكن الصباح فى كل يوم يتركه فريسة لأرهاق السهر الطويل ويغيبه فى نوم عميق بينه وبين النهارات قطيعة تامة .

                          الصباح الوحيد الذى بدا فيه ان قدرته على الانتقام قد بلغت تمامها وانتفض من سريره وحشا مرعبا متلهفا لتنفيذ خطة  انتقامه المحكمة التى راجعها فى عقله طيلة تلك الليالى الطويلة ، اتاه خبر وفاة ذلك المسئول فى حادث حركة شديد البشاعة ، فازداد حقده حقدا على حقد وهرع سريعا ليلحق بمراسم تشييعه ودفنه ، وكان من الغرابة بمكان ان يبقى بعد انصراف المشيعين وهو منشغل بتحديد معالم موقع القبر .

                           بعد ثلاثة ايام ، عاد الى القبر وهو يحمل شاهدا رخاميا كتب عليه (هذا قبر المرحوم ... اسأل الله ان يغفر له ما ارتكبه من مظالم ويحاسبه فيما يخصنى حسابا عسيرا) وغرزه شاهدا ثالثا فى منتصف جانب القبر . 

الأحد، 24 نوفمبر 2013

عضو نووى جديد


                        الاتفاق الذى توصلت اليه دول مجموعة 5 + 1 مع ايران ، هو فى واقع الامر اعلان ترحيب بعضو جديد فى النادى النووى خاضع لفترة اختبار لمدة ستة اشهر ، تستحق ايران عليه التهنئة لما بذلته من جهد صبور على مدار السنوات الفائتة وهى تصارع فى غيلان الاحتكار من اجل حقها المشروع فى امتلاك التقنية اللازمة لترقية انشطتها العلمية فى كافة المجالات ، وعلى ايران ألا تأخذها النشوة بأنها حققت انتصارا بالمعنى الكامل للكلمة ، فهو فى تقديرى لا يعدو ان يكون سوى خطوة اولى خارج دائرة الحصار المضروب على الدول الاسلامية والعربية ، الحصار المناط به الحيلولة دونها والنهوض قوى اقليمية تربك المعادلات القائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية فى ادارة وتقاسم مناطق الثروة والنفوذ .

                       ولكنه من جانب آخر يعد انتصارا حقيقيا لمبدأ التفاوض كآلية ناجحة وقادرة على ان تقود الخصوم الى اتفاقات مرضية تجنبهم شرور الحرب ، وتجنب العالم تبعاتها القاسية ، فالتحية ايضا لمجموعة 5 + 1 على جنوحها الى العقل بصبر طويل على غير عادتها فى مثل هذه الحالات التى تهدد مصالحها بتسارعها الى آلتها العسكرية .

                         لا تبدو لى الاجندة التى تم الاتفاق حولها ايّا كانت طبيعتها سببا يدفع الدول العربية فى خط المواجهة مع ايران للتحفظ على هذا الاتفاق ، فقد كان بالامكان لولا مجاهرتها بمواقفها المعارضة لأمتلاك ايران التقنية النووية ، لولا مجاهرتها هذه  لكان بالامكان ان تكون جزءا من هذه المفاوضات ولو بصفة مراقب ، ولكنها ومنذ بدء الصراع حول هذا الملف اوكلت امرها الى حلفائها فى الغرب ، وحلفاؤها فى الغرب اداروا صراعاتهم حول هذا الملف وفقا لمصالحهم بما فى ذلك مصالحهم القائمة فى دول الخليج والتى ظلّت لعقود طويلة آمنة تحت ادارتهم ، فليتهم يستغلون هذه السانحة للتعبير عن موقف جديد يمكنهم من فتح الملفات العالقة مع ايران مباشرة للوصول معها الى اتفاق مهما طال امد التفاوض .

                           امام ايران نصف عام لتثبت فيه للعالم ولدول الخليج انها فعلا على قدر هذا التقدم الكبير الذى احرزته على صعيد علاقاتها بالعالم ، فهى حقا وبحكم التأريخ وبحكم الواقع لديها كل مقومات النهوض كقوة اقليمية لا تبعد المسافة بينها وبين الدول التى شكلت مجموعة العشرين كثيرا ، ولتبدأ اولا بدول الخليج وتقديم الضمانات الكافية لطمأنتها ، فدول الخليج اقصر الطرق لتبلغ بها ابعد الغايات .

السبت، 23 نوفمبر 2013

من ابكى ارض المسيح ؟


                      البابا فرانسيس بابا الفاتيكان ، اكد ان الكنيسة الكاثوليكية لن تقبل بشرق اوسط خالى من المسيحيين ، وذلك فى كلمة القاها بالفاتيكان امام جميع بطاركة الكنائس الشرقية واساقفتها (بى بى سى العربية) ، جاء ذلك بعد لقاء البابا مع قادة كنائس من عدة دول من بينها مصر والعراق ولبنان وسوريا ، وهى الدول التى شهدت مناطقها المسيحية عنفا من ذلك النوع الذى يقود الى التهجير .

                       حديث البابا هذا جاء قبيل الزيارة المقررة له الى روسيا ، القوى العظمى الداعمة للمسيحيين الكاثوليك فى الشرق الاوسط ، والحديث فى مجمله كما ورد بالبى بى سى يشى بحراك مسيحى يجرى بزهد تام فى جدوى اى مساهمة لحل هذا الصراع من قبل المؤسسات الرسمية او من قبل القوى الدينية او القوى الاجتماعية داخل الدول الاسلامية التى تحتضن الاقليات المسيحية كالمذكورة اعلاه ، فثمة تأريخ طويل من حراكات مسيحية اسلامية سابقة سعت لتمكين التعايش الا انها اصطدمت فى خاتمتها بصعود حالات العنف الى مستويات مهددة لوجود الاقليات المسيحية ، وفى هذا اشارة مقلقة للمجتمعات الاسلامية بالشرق الاوسط الى ان حالة العجز التى لازمتها طويلا فى التعامل مع هذه المشكلة ستقودها فى مقبل الايام للتعامل مع حلول مفروضة عليها من الخارج ، ومحاولة تصور ما ستكون عليه مآلات هذه الحلول ، لن يبعدنا كثيرا عن مناخات ميادين الحروب الصليبية التى لا تزال تتدفق حلما داميا من بعض العقل الغربى ، للدرجة التى طفح به يوما الرئيس الامريكى السابق جورج بوش عقب تفجير برجى التجارة العالمية ، فثمة مشهد يلوح فى الآفاق ، تبدو فيه عملية اعادة التوطين باستقطاع الاراضى معركة دامية لا تقل مآسيها وآلامها عن عملية اعادة التوطين بالترحيل القسرى لمجموعات عرقية ودينية تنتمى لثقافة واحدة ، فهذه المجموعات عليها ان تبكى فى كل مرة ذكريات حياتها المرتبطة بارض لن تدخلها ثانية الا كالأجانب .

                         لاشك ان البابا والاخوة المسيحيين الذين شاركونا الحياة فى هذه البلدان ، على علم بالعوامل الداخلية التى فجّرت مثل هذا الصراع العنيف بين مجموعات اسلامية متشددة والاقليات المسيحية ، ويعلمون ان ما طالهم من جراء تلك العوامل التى ولّدت ذلك الصراع العنيف الذى اخترق قدرة المسلمين والمسيحيين فى التعايش الآمن المستقر الذى امتد قرونا من الزمن ، طال ايضا كثيرا من المسلمين بمختلف مذاهبهم ، فهذه قصة طويلة لم تنته بعد ، ولكن لنناقش المشكلة على ضوء العوامل الخارجية ، فالأجندة التى تقف وراءها تسعى  الى اعادة تخطيط العالم استنادا على العرق والدين والثقافة ، فمشروعها لأعادة تخطيط العالم على هذا النحو ، هو المشروع الاقوى الذى يجرى فى الشرق الاوسط والذى تاذت منه الاقليات المسيحية بشدة ، فاذا كان الفاتيكان بكل ما يمثله من ثقل يغطى اكثر من 33 % من مجموع البشرية ، خارج اطار هذا المشروع ، فأن الصراع الحقيقى ليس ذلك الواقع بين مجموعات اسلامية متشددة واقليات مسيحية ، لأن الجماعات الاسلامية فى ظل هذا المشروع لن تكون وفى احسن الاحوال سوى ادوات مضللة لخدمة اجندة غربية تجرى بمعزل عن اكبر مراكزها (الفاتيكان) ، لذا فالصراع الحقيقى هو بين تلك الاجندة الغربية والديانات بما فيها الدين المسيحى ، بمعنى اكثر دقة ، فأن تلك الاجندة تسعى الى قفل خريطة كل دولة عند آخر نقطة وصل اليها دينها الرسمى وشكل فيها غالبية ، او بمعنى اكثر صراحة ، انتهاء عصر التبشير ، على الاقل فى الدول التى يغلب فيها احد الاديان بحيث لا يجتمع فيها دينان ، ويبدو لى اعلان اسرائيل القاضى بيهودية الدولة اولى تجليّات هذا المشروع بشكل طوعى ومتلهف ، والفكرة الاساس قال بها صمويل هنتجتون منذ الثمانينات من القرن الماضى ، (راجع قول صمويل هنتجتون فى مؤلفه صراع الحضارت ص169 الطبعة الاولى من دار الامل للنشر والتوزيع 2006 ، القول وارد بهذه المدونة فى موضوع (دولة الجوهر ودولة الخلافة ) .

                        روسيا لن تستطيع ان تفعل شيئا فى ظل صراعها القائم مع الشعوب المسلمة هنالك كما فى الشيشان ، فهى كقومية كبيرة ، تلتقى مع هذا المشروع فى مسألة اعادة ترسيم الحدود بناءا على العرق والدين والثقافة ، لأنها ترى الوجود الاسلامى المنتشر فى اراضيها وفى دول الاتحاد السوفيتى سابقا ، مصدرا دائما للصراعات والحروب ، ولن تجد سانحة افضل من هذا المشروع للتخلص منهم ، وهو المشروع الذى يجرى هنالك وجسّدته حربها فى الشيشان فى اكثر صوره جلاءا ، وكذلك حروب دول منظموتها السابقة فى مناطق اخرى ، وصار حال المسلمين هنالك مثل حال المسيحيين فى الشرق الاوسط .

                          فالفاتيكان احد اكبر المراكز الدينية فى العالم مثله مثل غيره من المراكز اسهم بوعى منه او بغير وعى فى بناء هذا المشروع الذى يجرى الآن فى اكثر من منطقة بالعالم ، فتأريخ البعثات التبشيرية حافل بسعيها المحموم لتوطيد دعائم الفرز العرقى والدينى والثقافى ، وخير مثال لذلك ما حدث بجنوب السودان طوال القرن الماضى ، حيث شكلّت عقبة كأداء امام اندماجه فى مجتمع الغالبية فى الشمال المسلم ، حتى تكللت مساعيها اخيرا بخروجه دولة ستعانى طويلا من مسألة الهوية فى ظل غابة اعراقه الكثيفة ، فثمة تناغم بين رغبات دينية ذاتية ومشروع اعادة بناء العالم ، فمثلا لا يمكننى ان اتصور بأى حال من الاحوال ان يسمح المسلمون لغيرهم ان يشاركوهم شعائر الحج حتى لو كان لهذا الغير تأريخ قديم فى اداء هذه الشعائر ، ولا اعتقد ان قوى دينية او غربية بخلاف الاقلية من اصحاب الديانات القديمة ستمتلك الجرأة للأحتجاج على هذا الموقف ، فثمة صراع مؤجل حول القدس ينتظر محاكاة الآخرين من اصحاب الاديان .

                           فالرغبات الذاتية هى الثغرة التى ينفذ منها مثل هذا المشروع تماما مثلما ينفذ منها شيطان الشر الاكبر الذى ادمى قلوبنا بما فعله بأقلية الروهينيغا المسلمة ببورما ، فالبوذيون فى كل بقاع العالم يتباهون بقدراتهم  على خلاص الروح من آلامها وفتحها كما يقول شاعرنا ضلفتين على فضيلة التسامح ، لكنهم فى بورما لملموا كل آلام الدنيا وحرقوا بها هذه الاقلية المسلمة واجبروها على مغادرة اراضيها وهو الهدف المبتغى من وراء كل تلك البشاعات التى شهدناها ، فالرغبات الذاتية حينما تتغطى بالدين تتصادم بشدة مع فكرة الخلق التى بيّنها الله عزّ وجل فى قوله (انا خلقناكم شعوبا وقبائلا لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) وللأسف فأن الرغبات الذاتية ظلت حصنا حصينا احاط بكل دين على مر العصور .

                           لقد اهدرت المراكز الدينية من قبل وقتا ثمينا وجهدا كبيرا فى ما يسمى بمؤتمرات حوار الاديان ، فهى فى تقديرى جلسات تنافسية تشغلها الاحصاء والمساحات الدينية لتفادى مواضع الاحتكاكات اكثر من التكليف الحقيقى المناط برجال الدين وهو بسط القيم النبيلة التى جاءت بها الاديان لتهذيب البشرية ، فالاصل ان اى مساحة يغطيها الدين الحق المجرد من الرغبات الذاتية ، ومهما كان هذا الدين فهى ارض تخشى الله وتتعاون على البر والتقوى ولا تأبى اخوانهم فى الله ولا اخوتهم فى البشرية كما قال الامام على بن ابى طالب رابع الخلفاء الراشدين ، وهذا هو المفهوم الذى يجب ان تدعو اليه المراكز الدينية و تبحث فى ضوئه عن اسباب العلة التى عكست مقاصد الدين من الخير الى الشر ، وجعلت منه سلاحا لكل صاحب هوى كم اذاق به البشرية الوانا من الألم والعذاب .

                          كل الانبياء والرسل بكوا من قبل لحال البشرية ، وبذلوا انفسهم رخيصة لتنجوا هذه البشرية من عذابات الدنيا والآخرة ، وكل الارض تبكى الان انبياءها فى ظل الجحيم المشتعل هنا وهناك و ليس ارض المسيح وحدها .
                           

                           

                            

                           

                    

الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

وللمافيا نصيب مما يسرقون


                      اكثر ما يعجب المرء فى النظام الامريكى ، هو عملية الفحص التى يجريها الكونجرس الامريكى للمرشحين للمناصب السياسية ، خاصة تلك التى تمس سيادة ومصالح الدولة والمواطنين ، فهو نظام يثير حقا الاعجاب والاحترام لحرصه الصارم على تنقية مؤسسات الدولة وكوادرها من شبهات التصاقها بالفساد وعدم الكفاءة ، وحرصه الصارم على جودة ادائها فى كل ما يهم مصالح امريكا وشعبها ، وحرصه على سلامة ناتجها من اى تغوّل خارجى ، الى آخر ما يعكسه هذا الحرص من مزايا فاضلة لسلطة وصورة الدولة ، ولقد ظل يخطر ببالى هذا التقليد الراسخ فى السياسة الامريكية كلما تناولت وسائل الاعلام والمجالس قصص الفساد وضعف الاداء فى المرافق العامة فى بلادنا ودول العالم الثالث ، وكلما خطر ببالى ، كان يصيبنى مرة بالغضب ومرة بالحرقة ومرة بالسخرية وفى كل مرة بالغثيان جراء ما نعانيه من الفساد وانعدام الكفاءة ، لكنه فى النهاية يقتحم مخيلتى بسيناريو ارى مشاهده امام عينى حيّة بكل ما فيها من خزى وعار ملتصق بجبين ابناء بلدى وبلاد العالم الثالث الذين فاقت مرونتهم الاخلاقية اى تصوّر يمكن ان يلمسه دين او قانون .

                      واكثر ما يعزز فكرة ان يكون هذا السيناريو امرا محتملا ان لم يكن قائما بالفعل ، ان ثمة مؤسسات او منظمات او دوريات معنية بمتابعة شئون المال والاعمال كمجلة (فوربس) ظلّت تتحفنا بين الفينة والاخرى بتسريبات عن ارصدة مهولة لملوك وامراء و مسئولين كبار فى عالمنا الثالث بمختلف بنوك العالم ، وهى ارصدة يفترض ان تكون محمية بحكم قانون المصارف بسرية تامة ، ومحاطة بأجراءات عصيّة على الاختراق والتسريب ، ولكن نشرها على العلن فى كل مرة لم يعن لى شيئا سوى ان للمافيا جنود مصرفيون ايضا ، او بالاحرى للمافيا جنود اينما وجد المال واينما وجد رجال المال واينما وجد المسئولون الفاسدون ، بل فى الواقع للمافيا جنود فى كل منفذ ، وهى بهذه القدرة لا بد ان تكون على علم بمصادر هذه الاموال المنهوبة من بلدان العالم الثالث ، فقدرتها هذه بتأريخها المعلوم تجعلها ابا روحيّا لكل الاموال التى تندرج تحت دائرة انشطتها ، بدءا من السرقة وانتهاءا بالمتاجرة فى كل ما هو ممنوع ، اى ان لها من كل نشاط نصيب معلوم او من كل رصيد نصيب معلوم ، والذين يفلتون من اتاوتها هذه بحكم تواجدهم فى مواقع المسئولية المحمية بأعراف دبلوماسية وقانون دولى ، سينتظرهم يوم لا يقال فيه سوى (المال تلته ولا كتلته) .

                       الان لا يحتاج هذا السيناريو لتفاصيل لمعرفة مشاهده فالعنوان وما ورد اعلاه يبدو كافيا لفتح مخيلتك على كل الصور ، وكل الصور التى تبدو لك لا يجانبها الصواب كثيرا ، فالأمم المتحدة نفسها كانت قد ابانت فى احد تقاريرها المتعلق بالتنمية فى افريقيا ، ان تخصيص ما نسبته  25% من اعتمادات اى مشروع انمائى توجه للمسئولين الفاسدين يعد احد محفزات نجاح ذاك المشروع ، وانا احترم واقعية الامم المتحدة هذه واطالب بتقنين الفساد وذلك بمنح المسئولين من اصحاب المرونة الاخلاقية العالية شرعية فساد شريطة ألا تتجاوز نسبته من اعتمادات اى ميزانية تحت سلطتهم نسبة ال 25 % وله ان يودعها ببنوكنا المحليّة وبالعملة الصعبة كمان ، فنحن اولى من المافيا بأموالنا .

                      

الأحد، 17 نوفمبر 2013

ملمح سودانى غامض


                فى 30 يونيو 1989 قام افراد القوة المشاركة فى الانقلاب والمرتكزة امام كبرى امدرمان بزراعة شتلات اشجار(النيم) و(دقن الباشا) حول موقع ارتكازهم ، والقول الذى شاع عنهم ، انهم باقون هنا الى ان تصير هذه الشتلات ظلا دائما لهم ، والشتلات الآن صارت دغلا صغيرا يوزع فى ظله عليهم شرقا وغربا وبالكاد ترى من خلاله مدرعاتهم التى اتخذت موقعها هناك فى ساعة الصفر .

                          بعدها صعد الاسلاميون بزعامة الجبهة الاسلامية سابقا باناشيد واقوال من بينها القول المشهور (لن نسلمها الا لعيسى) ، وشهدنا ابتداءا من عقد التسعينات ، ضروبا من القمع والانتهاكات والتشريد لم يشهد السودان مثيلا لها من قبل ، وكان الاسلاميون حينها يقفون بكل انفة على رأس المشهد السياسى ، الاسلاميون بأطيافهم ، السابقون بقيادة الدكتور الترابى ، واللاحقون مؤخرا بقيادة الدكتور غازى صلاح الدين ، والواقفون الآن بين بين ، يدغدغون فى مشاعر الشعب السودانى بأحاديث الاكتاف التى يعلمون جيدا كيفية نتف لحمها حتى العظام ، نستثنى منهم رجالا محترمين كان موقفهم منذ البدء جليا فى انحيازهم للحق والعدل والحريات ، امثال الدكتور حسن مكى والدكتور الطيب زين العابدين والدكتور عبد الوهاب الافندى ، وربما ثلة اخرى بعيدة عن دائرة الضوء .
                           قرابة ربع قرن من الزمان والقوى السياسية الاخرى فى السودان تصارع فى نظام الانقاذ الذى دمغته بوليد الجبهة الاسلامية ، واصطفت فى اكثر من تشكيل مستهدفة القضاء عليه ، فشارك منهم من شارك الانقاذ لهذا الهدف ، واختلفت مستويات مشاركة بعضهم ، واكتفى بعضهم من غنيمة الاتفاقيات المبرمة بالاياب ، والاسلاميون الآن بات اكثرهم فى العراء بلا تغطية من السلطة التى طالما التحفوا بها فى غدوهم ورواحهم ، والمتبقى منهم فى مقاعد السلطة لا يزيد او يقل عن الآخرين المشاركين فيها , ومع ذلك لا يزال خطاب القوى الاخرى فى معظمه متمسك بصيغته الاولى ، بينما الاسلاميون الذين خرجوا من السلطة اخذوا يحتلون فى مقاعد المعارضة خطوة خطوة بذات الاسلوب الذى احتلوا به من قبل مقاعد السلطة حتى صاروا الآن صوت المعارضة العالى ، فى مشهد يبعث على الحيرة ويثير شهية البحث عن ملامح لصفقة خروج آمن مختبئة خلف هذا التحوّل الدرامى .

                           الحركات المسلحة تسير فى تقديرى على خطى الحركة الشعبية الأم ، وتحلم بجغرافيا جديدة يرفرف فيها اكثر من علم ، وليس ذلك ببعيد فى ظل اوضاعنا المثيرة للشفقة وفى ظل اوضاع الاقليم المضطربة والتى مدت كثيرا من اصابعها الى الداخل ، وفى ظل اوضاع العالم النهم المتأزم ماليا واقتصاديا والذى ظل يحلم بخريطة جديدة للمنطقة بأثرها تتيح انقساماتها له مزيدا من قسمة الثروة .

                            كل هذا الحراك الذى دار والدائر الآن فى قلب الحالة السودانية ، لا ثابت فيه سوى ساعة صفر انقلاب 30 يونيو 1989 التى نشاهدها عيانا بيانا فى مواقع ارتكاز قواتها ، وهى الساعة التى ادت لها معظم القوى السياسية التحية ولعبت فى ظلها بما فى ذلك معظم الحركات المسلحة ، ألا يشى هذا الملمح الغامض فى السياسة السودانية ان ساعة الصفر دائما ما هى الا انعكاسا لأزمة مستفحلة داخل قوى المجتمع السودانى ايّا كانت واينما كانت ؟ فعلى اى الميادين يحتاج هذا الوطن ان يدير عقله وقلبه ليخرج من هذه الازمة المتطاولة والمهددة لبقائه ؟

                              الخطوة الاولى للحل تبدأ بتحديد ميدان الازمة وهو بأى حال من الاحوال ليس الجيش ، فالجيش مهما تكاثف وجوده فى الشارع ، فأن امرا لا تحتاج صياغته لأكثر من كلمتين يكفى لكى يعود فورا الى ثكناته .
                             

الخميس، 14 نوفمبر 2013

فقر الفكر وجهل المبدعين


                      فى اليومين الماضيين ، اثارت مسألة لاعب النادى الاهلى المصرى احمد عبد الظاهر جدلا جديدا فى حياة مصر التى لم يتوقف الجدل فيها منذ فض اعتصام رابعة العدوية ، فاللاعب المذكور كان قد رفع علامة رابعة التى صارت رمزا للأسلاميين المصريين عقب فوز النادى الاهلى ببطولة افريقيا ، ونتيجة لذلك قرر النادى الاهلى معاقبته بحرمانه من اللعب فى بطولة العالم للأندية ، وحرمانه من مكافأة الفوز ببطولة افريقيا ، وعرضه للبيع .

                       العقوبة بما فيها من قسوة واجحاف واهانة للاعب مبدع ، الا ان رفعه لعلامة رابعة عقب فوزناديه ببطولة قارية ، كان استغلالا مبتذلا سعى لتجيير نصر كبير لصالح اخوان مصر وحلفائهم دون ان يكونوا قد بذلوا فى هذا النصر مثقال ذرة من جهد ، ودفع بمؤسسة رياضية عريقة كالنادى الاهلى الى اتون المعترك السياسى المشتعل بمصر ، هذا فضلا عن آثار اخرى اهمها فى تقديرى خواء هذا الفكر الذى يرى فى تعلّقه بأرجل لاعب كرة قدم مبدع سانحة للترويج عن اهدافه ، فكر يترك ميدان المنازلة الحقيقى لينتظر انتصارات ميادين الرياضة او الفن او الادب ليسوّق لرؤياته ورؤاه  بجهد الآخرين ، فكر يحمل رجل و يد و عقل المبدع ليقتله بها ويقتل ابداعه معه ويحرم مجتمعه من انبل واسمى انواع العطاء .

                       لا ادرى لماذا يلجأ بعض المبدعين ممن يحظون بشعبية متعددة الأطياف الى ان يكونوا مطيّة صارخة لتيار سياسى ، اسلاميا كان هذا التيّار او علمانيا او ايّا كان ، ولماذا تقبل تلك التيارات ان يكون عطاء ذلك المبدع خاضعا بأكمله لتوجهاتها ؟!

                         مما يحكى عن الفنان الكبير الراحل المقيم محمد وردى ، انه كان متحسسا لهذه المسألة بشدة عند اول نشاطه بالحذب الشيوعى السودانى ، وانه ناقشها مع سكرتيره الاسبق الراحل عبد الخالق محجوب الذى احلّه فى ان يغنى ما يشاء ، فغنى (جميلة ومستحيلة) و (بناديها) وسلسلة من الاناشيد التى تهز الارض ، وغنى (المرسال) و(الحنينة السكرة) و (الناس القيافة) وكان عطاؤه مرشدا الى ان ما يجمع الآخرين مع بعضهم البعض يمكن ان يكون صوت شيوعى او اسلامى ، او كما قال محمود درويش ( وصوت فيروز الموزع بالتساوى بين طائفتين يرشدنا الى ما يجعل الاعداء عائلة) .

                        ايتها التنظيمات السياسية ، ايتها الحكومات ، دعوا المبدعين فى حالهم فهم ملاذ الغالبية المكتوية بنيرانكم .

الأحد، 10 نوفمبر 2013

ضجر الليل


                       هذه الليلة اولها ضجر ، ضجر يزحف امواجا امواجا ويضرب فى الداخل مباشرة ، يضرب مثل (تسونامى) قادم من فوضى فلكية اهتزت لها الكواكب ، يضرب ويضرب ثم يبدأ انحساره كأبن آدم يخارج فى الروح ، و يمضى مخلفا حولك كل دواخلك ، يا للهول ! انت الآن حبيس فى وسط (خرابة) نفسك ، كل هذا (الكرور) الذى يحيط بك لا يغرى بالأستمرار ، كل هذا (الكرور) الذى يحيط بك ، يغرى بالرحيل الى بدايات جديدة ، بدايات تفتح ابوابها على المجهول ، اقربها اليك ، تلك التى تلفك فى كفن وتعود بك الى اصلك ، لا تتهرّب ولا تتضارى ولا تحتال ، هذا انت او هذا تأريخك الذى كنته حتى هذه اللحظة ، انفجر فيه او فجّره حولك ، او اعمل بقول كريم الوجه (رض) الامام على ( ليلزم كل بيته ويبكى خطيئته) .

                      ابك واسأل دموعك ان تغسل خطاياك وان تغسل خساراتك وان تغسل ما خلّفه القهر والظلم والحرمان المستوطن داخلك من سواد ، ابك واسأل دموعك ان تسيل خمرا فى طريق العاشقين او ان تسيل نارا فى طريق الطغاة المستبدين ، هل تعرفهم ؟ اعنى الطغاة المستبدين ، هل تعرفهم ؟ اوّلهم ذلك المدرّس الكريه الذى استقطع من نمرك العالية وفاءا لوعد فاجر ، ليعلو عليك تلميذ فى صفّك ، معرفته بفك الخط كمعرفته بتنظيف مناخيره المتخمة بالقذارة ، هذا المدرّس الكريه الذى قابلك اوّل عهدك بالمدرسة ، هو اول الطغاة المستبدين ، واول الخونة الفاسدين ، والبقية التى صادفتها فى تأريخك الذى يحيطك الان بكل هذا الكم الهائل من (الكرور) ، هذه البقية من اصغرها الى اكبرها والى اكبر اكبرها ، صورة مستنسخة من ذلك المدرّس الذى خان امانته وجعل سلطته اسيرة لهواه ، هكذا حمى و يحمى عالمنا اساسه الفاسد .

                    لا تلتفت الى هذا (الكرور) الذى يحيط بك ، فهو ليس لك ، انه مخلّفاتهم ، تشبههم تماما ، اصففها على حبل وعلّقه على سور منزلك حتى يروا عوراتهم معروضة على الشارع ويروا كيف يتأفف المارة من نتانتها او من نتانتهم ، ثم احمل عشقك الاكبر فانوسا يخرجك من عتمة هذه الليلة المضجرة ، وناجى مع مولانا جلال الدين الرومى (ايها العشق اما ان تسقنى المزيد من الخمر او تتركنى وحدى) ولكنك لست مثله ، فهو يقف فى لحظة مناجاته خارج كوكبنا هذا ، خارج زحامه وتزاحمه ، خارج حلاله وحرامه ، خارج موته وحياته ، فهو يقف فى تلك اللحظة امام من بيده بداية كل شىء ونهايته ، وانت تقف الآن وسط هذا (الكرور) الذى يحيط بك ، فليس امامك سوى ان تحمل عشقك الآصغر فانوسا يخرجك من عتمتك الى حيث وجهها المضىْ ، ثم غن لها بشغف فتى (تعالى .. تعالى) .

الخميس، 7 نوفمبر 2013

دفاتر التاجر المفلس


                      المعروف ان التاجر حينما يفلس يقوم بمراجعة دفاتره القديمة ، اما بحثا عن ديون مرجأة او معطّلة او مراوغة ، او ربما بحثا عن جمايل سابقة جاء وقت استردادها ، ولقد كان من الغرابة بمكان ان تتعامى وزارة المالية عن هذا المبدأ وهى فى عمق ازمتها المالية ولا تنظر الا الى جيوب غالبية الناس الخاوية ، وحسنا فعلت فى موجهات موازنتها للعام المالى 2014 بأدراج مراجعة الاعفاءات الضريبية ضمن بنود موجهاتها ، وبالرغم من انه جاء بندا خجلا متواريا داخل حزمة الموجهات ، الا ان مجرد ادراجه يعد عملا تستحق عليه الثناء بغض النظر عن كونه واجب ضرورة .

                       ولكى يكون الناس فى هذا البلد على بيّنة من امور اموالهم ، فأن الواجب يحتّم على وزارة المالية نشر بيانات مفصلّة بحجم الاعفاءات ونسبة ما تشكله من فاقد على الخزينة العامة ، ونسبة ما حققته على صعيد الانتاج والانتاجية فى المجالات التى تمت فيها الاعفاءات ، وليس هنالك فى تقديرى موضوع على قدر عالى من الاهمية يستوجب المناقشة المستفيضة والمفتوحة مثل موضوع الاعفاءات الضريبية .

                         فبجانب الازمة الاقتصادية القائمة الآن، فأن المراجعة لهذه الاعفاءات تحرر ادارة اقتصاد ومالية البلاد من العراقيل التى تدفع البعض للتهرب الضريبى والبعض الآخر للهروب نهائيا من انشطته بسبب ازدواجية معايير الاعفاء التى تمنح للبعض وتمنع عن البعض الآخر فى ذات النشاط الذى يشتركون فى ممارسته ، فثمة مسألة اخلاقية هنا لابد من حسمها لتحقيق مناخ عادل للمنافسة بأعتبارها احد اهم محفزّات انعاش الاقتصاد سواء على صعيد الانتاج او الخدمات .

                        وبلغة رجل الشارع البسيط ، اذا كانت المالية لم تنفك طوال ايام هذه الازمة تصرح بعجزها المالى فما معنى هذه الاعفاءات ونحن جميعا نعلم ان (العفو عند المقدرة) ؟

                         ليس من العدل سوق الاتهامات جزافا ، ولكنى على يقين ان المراجعة لهذه الاعفاءات الضريبية وغيرها من اعفاءات اذا تمت وفق معايير قانونية واخلاقية صارمة ، فأن العائد منها سيرفع عن كاهل المالية ثقلا مقدرا ، و يجفف فى بعضها من جانب آخر احد مصادر الثراء الحرام .

الخميس، 31 أكتوبر 2013

غفلة اجرائية


                         لا اشك لحظة فى ان الحديث الذى ادلى به السيد وزير المالية حول ضرورة احالة الزيادات التى اعلنت على المرتبات والاجور الى المجلس الوطنى لتتم اجازتها ومن ثمّ العمل على تطبيقها على العاملين ، قد اثار من التسآؤلات القلقة عن الوضع المالى بالبلاد ما يدعو الى المخاوف من ان تكون صراحة السيد رئيس الجمهورية فى مؤتمره الصحفى الذى سبق انتفاضة الشارع فى اواخر سبتمبر الماضى والتى اشار فيها الى ان الاقتصاد السودانى على شفا الانهيار لولا ضرورة تداركه بحزمة الاجراءات المتعلقة برفع الدعم وزيادة الاسعار واخرى من بينها زيادة المرتبات والاجور ، ما يدعو الى المخاوف هو ان تكون تلك الحقائق التى ذكرها وكان قد هرب منها الجميع لا تزال قائمة  .

                          لا احد يجادل فى حق السيد وزير المالية بان يغطى اجراءاته التنفيذية لكل الحزم الاقتصادية الواردة بالميزانية العامة بشرعية قانونية ، بمعنى ان يكون تطبيقه لأى حزمة اقتصادية مستوفيا لكافة الاجراءات القانونية المطلوبة لأجازة الميزانية والتعديلات التى تطرأ عليها ، والتى تبدأ بعد اعدادها من وزارته بحكم العادة ، برفعها للحصول على موافقة مجلس الوزراء ، ثم الحصول على موافقة السيد رئيس الجمهورية ، ثم اجازتها من المجلس الوطنى لتصدر فى شكل قانون لا يجوز تعديله الا عبر ذات الاجراءات التى صدر بها .

                           ولكن السؤال الذى يطرح نفسه ، ألم تكن حزمة تعديل المرتبات والاجور ضمن الحزمة المتكاملة التى وضعت لتدارك انهيار الاقتصاد واجيزت من المجلس على هذا الاساس ؟ ام انها سقطت عنادا على طريقة ذلك المتسوّل الذى اوشك على الغرق ورفض ان يمد يده للآخرين لآنقاذه من كثرة تعوده لمدها على الأخذ منهم فقط ؟

                             على اى حال ارجو الآ يكون فى الامر زريعة لقتل هذه الزيادات خاصة بعد ان اكّد السيد الوزير على عزم المالية استرداد المبالغ التى صرفت لبعض العاملين والمعاشيين قبل عيد الاضحى خصما على الزيادات ، وارجو ألا نسمع ان المجلس ذهب فى اجازة قد تنتهى مع بداية السنة الجديدة فى يناير 2014 ليتيح مزيدا من الوقت حتى تتمكن المالية من اقناع الألف حلاّل ان يحلها من ورطة الزيادات ، وارجو ان يكون الامر مجرد غفلة اجرائية .

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

غار صدقى


                      خيبات العاشقين تحفر عميقا عميقا فى الروح ، وتبنى مزارا سريا اشبه (بتاج محل) يتسللون اليه خلسة عندما يأتى المساء ، وعندما يأتى المساء يبدأ مشوار يوم جديد شديد الوطأة على قلوب مفطورة ، تتحلّق فى غرفة صغيرة ضيّقة اطلقوا عليها اسم (الغار) ، كانت فى الاصل زريبة اغنام تتوسط حوش منزل اهل صدقى ، واستعلت عليها ثقافة الوظيفة الكاذبة ، فتراجعت الاغنام الى ركن المنزل واقام صدقى مكانها (الغار) ، فى هذه الغرفة او فى هذا (الغار) ، تبكى سرا قلوب شابة كل ليلة وتبث شكواها سرا ايضا مع الاغنيات ، ما اتحدث عنه هنا ، وقائع حقيقية لذوات منسية حرقت سنوات من عمرها فى الهيام  مع الاغنيات ، استدعاها الى الذاكرة خبر فريد من نوعه ، ليس هذا وقته ، المهم ان هذه المجموعة كانت حين يتقدم الليل بأقسى اسلحته ، يستدعون السيدة ام كلثوم ، سيّدة اغنية (الغار) المقدسة ، الاغنية التى تفتح مزاراتهم السرية علنا امام وحشة الليل ، انها (فكرونى) ، انا متأكد جدا ، انهم فى تأريخ اذاعة هذه الأغنية كانوا صبيانا يلعبون فى الشوارع لعبات شقيّة ، يلعبونها بلا استحياء بملابسهم الداخلية ، ثم ينامون ملء جفونهم حتى عن شوارد مطابخهم ، ان جاز تسمية تلك (الجخانين) مطابخا ، فما الذى زرع الليل فى نفوس هؤلاء الفتية خصما عنيدا اختاروا له (غار) صدقى ميدانا لمنازلته ، واعدوا له اسلحة تهزم الف ليل وليل ؟

                         لو امتلكت حوائط (الغار) القدرة على البوح بما اسرّه اولئك الفتية فى دواخلهم كما تفعل حوائط (الفيسبوك) هذه الايام ، لشهدت ليالى الانترنت فى السودان سرادق عزاء نوعية ، او لو كان (الغار) حاضرا فى زماننا هذا لصار مقهى اليكترونيا غير محكوم بمواقيت ، فقط يغلقه مدى قدرة الطرف الثانى على السهر ، المهم كل تأريخ (الغار) هذا بما حمله من لواعج العشق ، لم يستطع ان يستثنى تلك القلوب الفتيّة من الانخراط فى طقس زواج عمره قرون من الزمن ، صدقى اكتشف ان له ابنة خالة فى نواحى النيل الابيض فحزم حقيبة واصطحب معه عددا محدودا من كبار اهله وعاد الينا مقترنا بأمرأة لم يرها الا قبل كتب الكتاب بساعات قلائل ،
 وبدون ذكر اسماء ، كانت زيجات البقية على النحو التالى ، الثانى اختارها من خارج نطاق الاسرة لأنها لم تدخل سينما ولم تشاهد فيلما فى حياتها ، والثالث ترك الاختيار لوالدته ، والرابع اختارها قروية من ريف بعيد ، والخامس تعامل مع الامر كأنه يعنى شخصا آخر للدرجة التى كان ينسى فيها اسم خطيبته ، وتعايشوا جميعا فى سلاسة مع هذا الوضع الغريب واصبحوا آباءا يرددون اسطوانات الشكوى ذاتها التى لم تكف عن الدوران عقودا وعقودا  .

                         صدقى الذى كان يدعى سلطان العاشقين ، اول من برع فى استخدام الكمبيوتر ، واكثرهم نشاطا فى التجوّل على الانترنت ، ولا استبعد ان تكون له اكثر من صفحة بأسم مستعار فى كل موقع من مواقع التواصل الاجتماعى ، واعتقد مع قليل من الجزم ان للآخرين ذات النهج ، لكنى واثق تماما واجزم بشدة ان جميعهم اذا دخلوا عالم الاسافير هذا فسيكونوا قد دخلوا بحثا عن رفيق الروح المختبىء فى اعماق اعماقهم ، وليس هذا ما يدعو للمخاوف والقلق فمثل تلك العلاقات النقية اذا بعثت ،لا يمكن ان تؤدى الى هدم اسرة او شرخ فى منظومة الاخلاق ، فالأحترام دائما سيّدها ايا كانت اسباب الفراق .

                          ان الخوف الاكبر والفزع الاكبر والقلق الاكبر ، حدث عندما دخل احدهم صفحته ومن هول ما رآه ، احسّ كأن تيس اهل صدقى قد غرز قرنه فى قلبه فجأة ، وكان صراخه المكتوم داخله يحاكى ارخميدس (وجدتها  وجدتها) ويا لسخرية الاقدار ، فقد هدمت  صرخة ارخميدس هذه مزاره السرى فى رمشة عين ، ثم تدفقت مشاعر اعرفها جيدا من شغاف شغافه تناجى ( من اى سماء هبط علىّ هذا الملاك الأخير) (كيف استطاع هذا الجمال القادم من جنّات عالية ان يلغى تأريخ عشقى كله ويشدنى اليه فى صراط مستقيم ، يشدنى اليه وحده لا غير) (كل اللغات تصطف الآن معى وتعجز ان تقول له ما اريد) وقولا كثيرا يفضح حالة اللوعة  التى اعترته ، و القصة  ببساطة ان مهووسا بالجمال اكتشف صورة امرأة سودانية غاية فى الجمال وغاية فى الابداع ، وقام بمشاركتها مع قائمة اصدقائه حيث جاءت الى حائط احد هؤلاء الخمسة الكبار ، ففجرت فيه براكين العشق الخاملة سنوات وسنوات ، ثم اكتشف لاحقا انها سيّدة وان وعيها لايقل جمالا عن جمالها وان امومتها تشعل حنين المرء الى طفولته الباكرة وحنينه للأرتماء فى حضن رؤوم ، ولم يملك الا ان يضيف الى جراحه جرحا جديدا ويناجى (يا غار صدقى انجدنى) .

                        هذه الوقائع الحقيقية استدعاها الى الذاكرة ، خبر انتشر على مواقع التواصل الاجتماعى يقول ان شيخا سبعينى اتهم بالتحرش على تلميذة فى مرحلة الاساس ، وضبط خطاب غرامى او خطابات لا اذكر كان قد ارسله اليها ، فى بادىء الامر اصابنى الذعر ان يكون المتهم احد مجموعة الغار ، ولكن (سبعينى) طمأنتنى كثيرا وان كنت على يقين انه مستقبل منتظر لهم ، اما الآن ، فأن الفضول يقتلنى لقراءة سطر واحد او جملة او كلمة من تلك الرسالة حتى وان كانت كتلك الكلمات التى كادت ان تثقب طبلة اذنى من كثرة سماعها ، ان الفضول يقتلنى كى اعرف سحر المرأة الغامض الذى ينقلنا من الجمال الى الرعب مباشرة مثلما نقلتنا اولا من السماء الى الارض ، ومثلما نقلت هذا الشيخ المسكين الى رعب معطّن بالفضيحة ، ومن الحب ما فضح !!
                         

                       
 ،  

الاثنين، 21 أكتوبر 2013

رمل الكلوزيوم


                          (لا شىء يلهى روما مثل رمل الكلوزيوم )
                      
                        لا يمكن ان يصدر هذا القول من احد دهاقنة الترفيه ممن يزدحم بهم عادة بلاط القياصرة والاباطرة ، أولئك الذين اعتادوا تقديم ابهى صور الملهاة  واكثرها ابداعا ، اذ ان العبارة بجانب كونها تشى بعمق سياسى ماكر ، فأنها تؤرخ لزمان قيصرها بمتلازمة القتل والملهاة ، لتفصح ببراعة ان الجالس على عرش روما طاغية تتوقف حياة البشر على اشارة من ابهامه فى حلبة الكلوزيوم .

                        وفى حلبة الكلوزيوم يتقاتل العبيد مع بعضهم البعض من اجل البقاء ، ويتقاتلون مع فرسان روما من اجل الحرية ، ويتقاتل جميعهم قتالا متوحشا يحاكون به اساليب جيش روما العظيم فى الحروب ، وكل ذلك  لا لشىء سوى ان يستغرق شعبها فى هذه الملهاة الدامية بعيدا عن سجالات النبلاء فى مجلس الشيوخ ، السجالات الساعية لبناء حياة مدنية كريمة يحكمها القانون وليس ابهام قيصر الذى اعتاد ان يسقى رمل الكلوزيوم بالدماء .

                          احاجى القدم هذه ، تتراءى لى حيّة متقدة ، ليس فى شوارعنا فحسب وانما فى معظم بلاد الدنيا ، فمن هو هذا القيصر الكبير الذى يمسك بخيوط هذه اللعبة الدامية منذ ذلك الزمان ليحيل بها شوارعنا كرمل الكلوزيوم عطشى دوما للدماء ؟

                           بعض هذا القيصر يسكن داخلنا ، ويتسلل بوعى منا او بغير وعى الى سلوكنا مع الآخر ، حتى لو كان هذا الآخر طفلا من لحمنا ودمنا ، فبعض هذا القيصر الذى يسكننا هو الذى يعمى بصرنا وبصيرتنا ، ويجعلنا نتماهى معه حتى فى طريق بحثنا عن الخلاص ، الى ان صار طريقنا الى الخلاص هو ذات الطريق الذى سلكه (سيزيف) الى اعلى الجبل ، لم تعوزنا قوته فى حمل الصخرة  ولا نجاخه فى الوصول بها الى اعلى الجبل ولا قدرته فى تكرار المحاولة بعد تدحرجها الى اسفل فى كل مرة ، فمن اكتوبر 1964 الى ابريل 1985 وما قبلهما ، وما بينهما ، وحتى اواخر سبتمبر الماضى ، والى القادم من المحاولات ، تبدو عملية نقل الصخرة اعلى الجبل وتدحرجها ثانية ، هى العائد من كل تلك الدماء الذكية التى سقت شوارعنا وكل تلك الارواح الطاهرة التى ازهقت فى جنباتها ، كأن التأريخ فى وعينا مجرد احاجى للتسلية ، احاجى لن تتيح لنا ان نلحظ اوجه الشبه بين ما جرى فى العام 1924 وما جرى فى هذه الايام القريبة من عمر الانقاذ فى عامها رقم 24 - مع الاخذ فى الاعتبار الفوارق- فآنذاك ابتعد السيدان فأصبحت حركة التظاهرات والاحتجاجات معزولة عن السواد الاعظم من السودانيين وكذا الحال فى حراك الامس القريب .

                            ثمة بداوة متوحشة تمسك بتلابيب العقول ، تنظر الى الآخر كمشروع ورثة لا اكثر ولا اقل ، بداوة تتجلى فى خطاب السلطة حين يصف بعض شعبها بما يطعن فى الصميم ، الكرامة التى يجب ان يضفيها على هذا البعض حق الوطن ، وتتجلى فى افعالها حين تطال مصادرة ممتلكات الناس ، بداوة تتجلى فى خطاب المعارضة بأطيافها حين تصف النظام القائم كأنه مجموعة من الغرباء هبطت فجأة ارض الوطن وليست جزءا من مكونات هذا الشعب ونتاجا طبيعيا لحراكاته ، و تدعو الى اجتثاثه من جذوره ، ثم تتجلى فى افعالها حين تحمل السلاح لتحقيق ذلك ، وتصبح فكرة القضاء على الآخر نهائيا هى فى واقع الحال فكرة تشغل عقل كل منهما ، بحساب التركة التى ستؤول اليه عند نهاية هذا الآخر ، لعنة الله على الملكية والتملّك .

                           شعب ينام ويصحو على امان بسيطة فى الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية ، لايستحق بفعل طموحات هنا وهناك ان تصير شوارعه كرمل الكلوزيوم عطشى دوما للدماء .
                            

                           

الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

لاتهدموا ملاذاتكم


                       فى الحياة العادية لا تخلو بعض احاديث الناس من التحفظ على بعض اداء الشرطة ، سواء اكان هذا الاداء ناتج من حالات فردية او من شح الامكانات التى تعانى منها الشرطة او من طبيعة عملها المنفّذة لقوانين لم تحظ بالرضا والقبول من قطاعات مقدرة من الشعب السودانى ، ومجمل هذه التحفظات حتى وان تضاعفت لا تنفى الضرورة الحيوية لوجود اقسام الشرطة بالمدن والاحياء ، فهى الملاذ الذى يتوجه اليه الناس حينما تنتهك حرماتهم ، فضلا عن ان غيابها يعنى دعوة مفتوحة للجريمة .

                        من ضمن الملاحظات المؤسفة التى صاحبت التظاهرات القائمة الآن ، تبدو اخطرها على الاطلاق ، المحاولات المستميتة لأقتحام اقسام الشرطة ومقارها كما جرى ذلك بقسم شرطة الحارة الرابعة بالثورة بامدرمان ، وكأنى بالعقل الذى وجه مسار التظاهرات الى تلك الاقسام والمقار ، اغفل فى غمرة تماهيه مع التجربة المصرية القريبة ، العواقب والتبعات الجسيمة التى ترتبت على تلك التجربة قبل وبعد انتصار الثورة والتى شاهد مآسيها الملايين من الناس على القنوات الفضائية ، مثلما شاهدوا وتابعوا قدر الجهود التى بذلت حتى تتمكن الشرطة من استعادة وجودها ثانية فى الشارع المصرى .

                        القوة الموجودة داخل اقسام الشرطة مدربة ومؤهلة لأدارة نزاعات الناس حول ملكياتهم وامنهم واعراضهم بغض النظر عن اى تحفظات ، وهى بهذه الوظيفة تعتبر ملاذا آمنا للمواطنين ، فلا تهدموا ملاذاتكم بأيديكم وتزجوا بأبنائكم الى معترك استفزازى يستدعى عليهم عنفا معاكسا يزهق ارواحهم .

                         حتى نهار الامس ، ومن واقع مشاهداتى للتظاهرات التى قامت بالثورة شارع النص ، كان اداء القوة المرتكزة بكبرى النص غاية فى الحكمة وضبط النفس ، فقوام المجموعات التى تحلّقت على بعد امتار من القوة ، يغلب عليه اطفال دون الخامسة عشر  وشباب فى مقتبل العمر ، كل وسائلهم فى الاحتجاج حجارة لقفل الطريق وحجارة فى الايادى ، لم يلجا احدهم للتعدى على المحلاّت التجارية التى تفتح على الشارع ، ولم يبد احدهم نزعة للتخريب ، وكان تقديرا سليما ان تنسحب القوة دون ان تحدث خسائرا فى الارواح او تصعيدا يؤدى الى ما لاتحمد عقباه .

                          للثورة شرط واحد يؤدى الى انتصارها ، انه السلمية ، عدا ذلك فلن يعدو الامر ان يكون سوى دعوة للفوضى والعنف ، وتهيئة الارض لسيناريوهات نسأل الله ألا تغشى بلادنا .

الاثنين، 23 سبتمبر 2013

صهوة الحق الشفيف


                       ولى زمان الانتظار ، الساعات تدق على وتر النزيف .

                        الساعة الآن ، بيوت تفتح ابوابها على شوارع ملتهبة وشوارع متأهبة وشوارع منسلة من عقل مجنون تقذف فى الحجارة وتشعل فى النيران .

                       الساعة الثانية ، مدن محبطة تصحو متكاسلة على هتافات المدن القريبة و تمد اعناقها الطويلة لتسترق النظر والسمع وتسرق العدوى و الحريق .

                       الساعة الثالثة ، اقاليم مجروحة يجتاحها انتباه مثير ، تتسلل اطرافها خلسة وتطرق ابواب الجراحات طرقا عنيفا ، يستيقظ ماض محتشد بكل ما تخشاه كتب السلام .

                        الساعة الرابعة ، تزدحم ردهات البنوك بمسئولين ورجال مال واعمال قدامى وجدد ، التوتر على محياهم يتقطر فزعا وخوفا وبدت حالهم اقرب الى حالة لصوص على وشك الوقوع فى كمين محكم ، ينشط سرا حولهم سماسرة العملات وخطوط الطيران العالمية الموصولون بأجهزة رسمية ، فجأة تلاحظ شركات الاتصالات ان مكالمات خارجية جديدة طرأت على خارطة مكالماتها المعتادة .

                        الساعة الخامسة ، سائقون ماهرون يعرفون اقصر الطرق الى مطار الخرطوم ومطارات الولايات ، وسائقون آخرون متمرسون على السفر فى طرق الصحراء الغامضة وطرق الحدود المقفولة على مافيات سرية ، تمت مشاهدتهم يحملون عدة السفر وهم يرتدون ملابسا باهتة .

                        الساعة السادسة ، اكتشف كثيرون ان بيوتهم تخلو من اى مؤونة تكفى حاجتهم لأيام مقبلات الله وحده يعلم مآلاتها و مداها ، واكتشف كثيرون ان كثيرين مثلهم اكتشفوا ذلك .

                        الساعة السابعة ، البقوليات والزيوت والدقيق والسكر والتمر ترتفع الى اعلى سلّم المبيعات والاسعار .

                        الساعة الثامنة ، صلى كبار السن العشاء ثم ذهبوا الى اسرتهم لأول مرة دون ان يتفقدوا ابناءهم وبناتهم ، وبعد ان انتهوا من اورادهم المعهودة خرجت منهم زفرات حارة (آه يا بلد) .

                      الساعة التاسعة ، انتهى من الكتابة واعاد القراءة مرة واثنتين وقال ( ثمة عناصر هامة مفقودة فى هذا السيناريو ولكنه واقعى وقابل للتطور سريعا ) ثم طبّق الورقة ووضعها تحت مخدته ونام .

الجمعة، 20 سبتمبر 2013

للموظفين فقط


                     قضى الأمر ولم تعد هنالك جدوى من الخصام ، ستستيقظ فى صباح قريب وتجد ان الشوارع التى الفتها زمنا قد تغيّر شكلها وضجيجها وسحنات الحائمين والهائمين فيها ونواياهم ايضا ، الحى الذى تقطنه ستراه غريبا كأنك تراه لأول مرة ، والمتجر الصغير الذى اعتدت الشراء والاستدانة منه وبينكما اريحية لا يخدشها حياء او خجل ، سيحل محلها جفاء معلق على ظهر كرتونة بسكويت اطفال مكتوب عليها ( ممنوع الدين قطعيا ) منتهى الحزم والحسم ، بعدها سيصيبك الارهاق حين تنوى تحديد اولويات صرفك ، وستصل لتلك الحالة التى تصبح خياراتك فيها متصادمة بين حاجتك للصرف على المعدة وحاجتك للصرف على الوظيفة ، بمعنى ان يكون كل ما تبقى لك من المرتب يكفى قيمة مواصلاتك لمكان العمل لما تبقى من الشهر ، وهى قيمة تعادل قيمة ما تحتاجه من وجبات لما تبقى من الشهر ، لا تحزن ، لدى الله خزائن السموات و الارض فهى افضل من خزائن الدول المقدودة التى لم تسمن يوما ولم تغن عن جوع لأمثالك الطاهرين .

                       اكتب قائمة بضرورياتك ثم ابدأ الشطب ، انت الآن فى زمن الألغاء ، الصحيفة الصباحية ، القهوة ، السجارة وكيس التمباك ترف لا يليق بك ، اشطب بلا شفقة ، اما اغلى امانى العمر ، فأنت وهى تعلمان جيدا ان الوظيفة لم تعد  سوى سجن محكم بدقة ، لا يتيح لكما سوى هذا الامل المخادع الذى لازمكما منذ ايام الدراسة بأن الوظيفة ستحقق لكما ذلك الحلم الذى صوّره بنك (باركليز ) يوما قديما فى اعلان يمكن بناءا عليه ان تبنى منزلا وتقتنى عربة وتنشىء مزرعة وتجول العالم ايضا ، وقتها كانت البنوك قادرة على فعل ذلك بسلفيات على ضمان المرتب ، ووقتها كان المرتب قادر على تحقيق الضمانة الكافية لطمأنة البنك ، فوقتها كان المرتب يتم تحديده وفقا لمعايير عالمية وكان الجنيه يعادل 3 دولارات ونيف ، ووقتها كانت الطهارة هى معيار الحاكمين والعدل والانصاف اساس الحكم .

                        نعم ، اغلى امانى العمر ضمن القائمة ايضا ، فليعلق كل منكما صورة الآخر على نجمة قريبة ويزرف ما يشاء من الدموع كل مساء ويكتب ما يشاء من قصائد ثم يشطب بقوة ، او ربما تملكان الشجاعة لتعيشا معا مثل سارتر وسيمون دى بوفوار مع تعديل بسيط لا يكلفكما سوى مائة جنيها اجرة مأزون حتى لا تخرجا من الملة ، ملة القهر والعذاب المتوارث قرونا وقرونا .

                        اشطب .. اشطب .. اشطب واستمر فى الشطب الى ان تصل سريعا الى شطب الوظيفة من حياتك مرة والى الابد .
                         


                  
             
                   

الاثنين، 9 سبتمبر 2013

عقل روسى مبدع


                      عقل روسيا السياسى والدبلوماسى عقل مبدع ، ففى كل مناطق النزاع المستعصية من كوريا الى ايران الى سوريا ، ظلّ هذاالعقل يلوح ضوءا مبهرا فى نهاية انفاقها المظلمة المسدودة وذلك بتقديمه أطروحات سياسية ودبلوماسية تنقل اطراف النزاع الى فضاء سلمى مستقر او على الاقل تمنع ولوغهم فى الدماء والخراب ، وهاهو الآن والعالم يترقب محموما الضربة الامريكية الغربية المقررة على سوريا ، يخرج علينا بطرح عقلانى مبدع فى واقعيته ، من شأنه ان يجنّب الانسان السورى ويلات عذاب السلاح الكيماوى ، ويجنّب المنطقة والعالم تداعياته فى ظل الضربة المرتقبة ، ويوفّر على اصحابها جهدا ودماءا واموالا .

                      وضع الآسلحة الكيماوية السورية تحت الرقابة الدولية ، مقترح يقطع الطريق اولا على تلك الايادى الآثمة التى ادمت قلوبنا بأستخدامه فى ريف دمشق ويمنعها من استخدامه ثانية طالما ان المخزون الرئيسى بات تحت السيطرة ، ويمكّن بالتالى من الكشف عما اذا كانت هنالك جهة أخرى تمتلكه سواء عن طريق التسريب او الامداد من مصادر مجهولة وكبحها سريعا ، ويقطع الطريق ثانية على بارونات الحرب المنتشرين فى الغرب والذين يحسبون فى هذه الاثناء قدر الفوائد التى يمكن جنيها من الضربة المقررة على سوريا حتى وان كان ضحاياها بالالاف ، ويمكّن وهذا هو الأهم من معرفة ومعاقبة مرتكبى تلك المجزرة البشعة .

                      موافقة الحكومة السورية على المقترح الروسى ليست خطوة ايجابية فحسب وانما دعم مباشر للأمن والسلم الدوليين يأتى  فى اللحظات الحرجة ، فالمنطقة لا تتحمّل حرائقا جديدة ، يكفيها تلك التى تخوض فيها داخل كل قطر ، وعلى العالم ان يقول كلمته الآن بالشروع فورا بأتخاذ الترتيبات اللازمة لوضع تلك الاسلحة تحت الرقابة الدولية ليغلق نافذة من نوافذ الرعب فى المنطقة .

                      التحية والتقدير للحكومة الروسية على جهودها السياسية والدبلوماسية التى ما انفكت تدعم السلم والامن الدوليين بعقلها السياسى الدبلوماسى المبدع وبتوظيفها الدقيق لعلاقاتها التأريخية بالمنطقة من اجل ذلك .

                       

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...