الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

هاروناب: ثنائية

هاروناب: ثنائية: " كثيرون استوقفتهم هذه الثنائية التى وسمت هذا الوطن والتى لم تقف عند حدود الطبيعة التى جادت عليه بالغابة والصحراءوانما مضت..."

ثنائية

                   كثيرون استوقفتهم هذه الثنائية التى وسمت هذا الوطن و لم تقف عند حدود الطبيعة التى جادت عليه  بالغابة والصحراءوانما مضت لتتجلى فى سلسلة طويلة من مناحى الحياة تبدو فى احد وجوهها ممتدة من القدم ولكن ابرز حلقاتها  كانت فى اتفاقية يناير 1899 الموقعة بين بريطانيا ومصر لأدارة شئون السودان والتى عرفت بأتفاقية الحكم الثنائى او المعادلة الموضوعة ليدور فى ظل طرفيها نشاطنا السياسى والاقتصادى والاجتماعى وحددت عبرها منافذنا للتواصل مع العالم وقد استقر عليها الوضع فى السودان بمثلما استقرت عليها حياة السودانيين  طيلة فترة الحكم الثنائى والى ما بعد الاستقلال دون ان نغفل حركة 1924 احدى الحلقات البارزة التى تجلت فيها هذه الثنائية بين السودانيين فى الفرز الذى اعقب نهاية الحركة ليصعد الى الساحة السياسية التيار الاتحادى والتيار الاستقلالى اللذين استلبا الحراك السياسى ليمضى معهما الوطن فى ظل هذه الثنائية الى لحظة اعلان الاستقلال. ولم تخرج الصورة العامة لأنظمة الحكم من هذه الثنائية منذ الاستقلال والى يومنا هذا سواء اكانت عسكرية ام ديمقراطية بل ظل تعاقب الانظمة بين عسكرى شمولى الى ديمقراطى ثنائية بارزة فى حراكنا السياسى.
                 واكثر ما يستوقف المرء هنا انه بقدر تراجع تأثير هذه الثنائية او هذه المعادلة التى استقر عليها الوطن ردحا طويلا من الزمان فأنه يواجه بقدر تراجعها مخاطرا و اختبارات قاسية فى مجمل اوجه نشاطه وفى وحدته وفى استقراره وفى وجوده ايضا وكلما اقترب منها كلما ابتعد عن المخاطر حتى بدت هذه المعادلة  خلاصنا الوحيد كأنها قدرنا الابدى،ويبدو اننا لسنا وحدنا فى هذا الامر فما حدث فى كينيا التى حاولت مع اودينقا - كما اعتقد - الخروج من اسارها الخاص واجهت اولى الفخاخ التى تنتظر مثل هذا الخروج فتحولت كينيا بين ليلة وضحاها الى مجزرة طعنت الضمير الانسانى فى الصميم فأى الفخاخ ترى تنتظرنا مع هذا الخروج المتعدد الذى اخذ يحيط بالوطن من جنوبه وشماله ومن غربه وشرقه ؟
                 لا مناص من معادلة جديدة قادرة على استيعاب المتغيرت التى طرأت على الوطن دون حجر او اقصاء لأحد ودون المساس بحقوق الآخرين ، معادلة تكون فيها حقوق السودانى مصانة وموضع احترام ابا كان عرقه او دينه او موطنه .
                
                  
                  

الجمعة، 20 أغسطس 2010

قراءة فى آليات الجهود الامريكية من اجل السلام فى السودان

                      يبدو العقل السياسى الامريكى فى تعاطيه مع مشاكل السودان مسكونا بخيار وحيد يتمثل فى العقوبات والحوافز كآلية وحيدة للضغط على السلطات للأستجابة لمتطلبات السلام وفق المنظور الامريكى وكانت هذه الآلية قد صاحبت رحلة المفاوضات الطويلة من ابوجا الى نيفاشا التى تمخضت عن اتفاقية السلام الشامل الموقعة فى 2005 والتى ما زالت جهود تطبيقها تمر بدروب وعرة وقاتلة احيانا وتنذر بحرب اشد ضراوة وبشاعة من الحرب التى ظلت تدور من قبل ،الا ان ما حققته الاتفاقية على الصعيد السياسى من انفراج على هامش الحريات اغرى الواقفين خلف آلية العقوبات والحوافز بأعتمادها خيارا وحيدا، اذ ظلت تشكل  لدى المؤسسات الامريكية الرسمية منها والمستقلة  حلا مضمونا متى اصتطدمت جهودهم بعقبة كؤود امام المفاوضات الجارية لأستكمال تنفيذ بنود الاتفاقية.
                    ولكن هذه الآلية تبدو فى ظل الاطار الضيق الذى تدور فيه المفاوضات بين المؤتمر الوطنى وحكومته مع الحركة الشعبية لتحرير السودان عقبة كؤود فى نظر القوى السياسية التى اقصيت من المشاركة فى المفاوضات والتى تدرك تماما ان نتائجها الاخيرة تحدد مصير الوطن ومصيرها داخله فالعقوبات المطبقة وتلك التى تلّوح بها الادارة الامريكية وتسندها فى ذلك بعض المؤسسات المستقلة المهتمة بالشأن السودانى يتسع مداها ليطال معظم السودانيين بأستثناء الجنوب بينما تبدو الحوافز قاصرة على صناع القرار فى المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية وحكومتيهما كأنما بقية مكونات الشعب السودانى اسقطت تماما من حسابات الواقفين وراء هذه الآلية .وبوعى من الادارة الامريكية او بغير وعى استقطبت هذه القوى فى صفوف اعداء اتفاقية نيفاشا او على الاقل فى صفوف الرافضين  لحجر مخرجاتها على طرفيها وهى قوى لها وزنها سواء بالشمال او بالجنوب .
                    قد يتفهم المرء حاجة الجهود الامريكية لقوى داخلية على قناعة بجدوى توجهاتها على صعيد السودان وعلى الصعيد الاقليمى والدولى وقد يبدو مفهوما ان تبذل الادارة الامريكية ما فى وسعها لتمكين هذه القوى لتصبح مصدر القرار النافذ ولكن لكى تنجز ذلك لا بد لها من توفير الشروط الذاتية والموضوعية لهذه القوى ودفع كامل مستحقاتها لتضمن شرعيتها واستدامتها واستدامة اسهامها فى توجهاتها تجاه السودان والاقليم والعالم من حوله ،اما ما لا يستطيع  المرء ان يتفهمه هو ان يعاقب شعب بأكمله نتيجة فشلها فى تحقيق هذا الهدف؟

الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

الى اين تقودنا ازمة مياه النيل ؟

                    صمت مريب يطبق على الجهات الضامنة لأتفاقيتى مياه النيل الصادرتين فى 1929 و 1958 تجاه مشروع الاتفاقية الجديدة التى وقعت على بنودها مبدئيا دول الحوض بأستثناء السودان ومصر المتمسكتين بحقهم التأريخى فى حصصهم من مياه النيل المبينة فى الاتفاقيتين اعلاه ولا يلوح فى الافق اى تحرك للمنظمات الدولية المعنية بهذا الامر لحصار هذا المشروع فى مهده قبل ان يتحول الى مشروع حرب تغرق معه دول الحوض فى انهار من الدماء.
                 و من المبررات التى ساقتها الدول الواقفة وراء مشروع الاتفاقية الجديدة تقول انهم غير ملزمين بقبول اتفاقيات تم ابرامها فى ظل الاستعمار الذى لا يعبر عن ارادة وتطلعات دول الحوض فى استثمار موارده لسد حاجاتها  وتقول الآن ان التغيير المناخى يفرض واقعا جديدا يقتضى اعادة النظر فى هذه الاتفاقيات وتطالب كلا من السودان ومصر التراجع عن موقفهما والازعان للاتفاقية الجديدة التى تحظى بشرعية جميع دول الحوض بأستثنائهما .
                 حتى لا نغرق فى تفاصيل مبررات كل طرف او فى دحضها علينا ان نتناول موقفنا كسودانيين من هذه القضية التى تلوح فى آفاقها اشباح حرب لا تتوقف عند حدود حصص المياه وانما تتخطاها الى حدود البلدان السياسية التى خطها الاستعمار , ولا يخفى على كثير من المراقبين ما يعنيه جنوب السودان بالنسبة لمنطقة البحيرات التى تم ترتيبها وفقا لأستراتيجية خاصة يبدو معها مشروع الاتفاقية الجديدة واستفتاء جنوب السودان ذراعين فاعلين فى تحقيق اهدافها الاخيرة والتى تمتد آثارها الى منطقة الشرق الاوسط لذا علينا ان نبقى فى حدود مخاطر مشروع الاتفاقية الجديدة على السودان.
               من المعروف تأريخيا ان لا شىء شغل فراعنة مصر بخلاف انشغالهم بصراع العرش مثل ماء النيل الذى اقاموا له احتفالا سنويا يهدى اليه اجمل بناتهم حتى لا يتوقف فيضانه وتتوقف حياة مصر تبعا لذلك ، وكان محمد على باشا اكثر حكام مصر فى عهدها الحديث اهتماما بالنيل حيث افرد له ميزانيات استدعى لها معظم مفامرى العالم  لأكتشاف منابعه وواصل خلفاؤه وكانوا اول من اقام مشروعا مائيا خارج حدود مصر لتأمين وصول المياه لأراضيها (خزان جبل اولياء) ومد النفوذ المصرى الى داخل يوغندا لذات الهدف ، وفى عصرنا الحالى يعلم المهتمون بقضايا الرى وجغرافية السودان المسوحات التى اجرتها مصر داخل السودان لتحديد موارده المائية التى لا علاقة لها بمياه النيلين الابيض والازرق وروافدهما وهى مسوحات تبدو فى احد وجوهها حماية لأى تغول مستقبلا على نسبة مصر العالية فى حصتها من مياه النيل مقارنة بحصة السودان ، وفى الثمانينات اشارت احدى المجلات المصرية الى ان المخططين الاستراتيجيين للامن القومى المصرى كانوا قد وصلوا لقناعة مبكرة بضرورة وجود جيش سابع بمصر تقتصر مهمته الى حماية تدفق مياه النيل ويكون قادرا للوصول الى منابعه  فى اقصر وقت واختيرت اسوان مقرا له.
                اما فى السودان فأن اهتمامنا بقضايا المياه لم يتجاوز مجرى النيلين ولا تتعدى منشآتنا المائية عليهما اصابع اليد الواحدة ويفصل بين بناء كل منشأة والاخرى عقود من الزمن فمن خزان سنار الى الروصيرص وخشم القربة واخيرا سد مروى عبرت مياه كثيرة من حصتنا كان من الممكن ان تقلل كثيرا من خسائرنا الناتجة عن حالات الجفاف والتصحر وشح الامطار وها نحن الآن مواجهون بأخطر تحد يهددنا حتى فى نسبة حصتنا التى ظل يدور حولها جدل طويل منذ 1929 هذا اذا وقف عند حدود مشروع الاتفاقية الجديدة اما اذا مضى الاستفتاء الى غايته التى يسعى لها بعض هنا وهناك وحول العالم والرامية لفصل الجنوب فأننا بلا شك سنكون وحدنا امام هذا التحدى .
                ويبدو ان  مجريات الامور الآن تجرفنا الى تلك النقطة التى سنواجه فيها هذا التحدى المصيرى وحدنا لذا يتوجب علينا بعد ان فاتنا الكثير ان نلحق وحدتنا من التداعى مهما كان الثمن والا فأن ما يتبقى منها اذا وقع الانفصال بقضاياه العالقة لن تمكننا من تثبيت حقوقنا فى مياه النيل او حمايتها دع عنك استغلال ما تجود به الطبيعة من موارد مائية فضلا عن تلك التى تختزنها الارض فى باطنها والتى اصبحت من السهولة بمكان ان تنهب من ابعد المسافات بفضل التكنلوجيا المتقدمة ، لاشىء يمكننا من مواجهة هذا الخطر القادم سوى الوحدة فعلى الوحدة يدوم السلام وعلى الوحدة تدوم المياه وعلى الوحدة تستمر الحياة .


             

                  
                


                  

السبت، 14 أغسطس 2010

بكتيريا هندية

( رفضت الهند النتائج التى توصل اليها علماء بريطانيون عن شكل جديد من البكتريا مقاومة للمضادات الحيوية تصيب المرضى الذين سافروا الى الهند فى جنوب آسيا لتلقى العلاج واصرت وزارة الصحة الهندية ان مثل هذه الكائنات موجودة عالميا وقد تكون من امعاء البشر والحيوانات على الصعيد العالمى وليس الهند تحديدا فيما من الممكن ان يكون هناك مليارات من هذه الاحداث فى اى لحظة ، وحسب الخبراء تفرز هذه البكتريا انزيما يطلق عليه اسم (ان دى ام - ون ) يعمل على زيادة مقاومة البكتريا لأقوى المضادات الحيوية ،ووفقا لتقارير اخبارية سابقة فقد اكتشف الباحثون نوعا واحدا على الاقل من العدوى ناتجا عن انزيم ( ان دى ام - ون) مقاوم لكل انواع المضادات الحيوية المعروفة وظهرت حالات مماثلة فى كل من الولايات المتحدة الامريكية واستراليا وهولندا وبالطبع بريطانيان ويحذر الباحثون من ان انزيم ( ان دى ام - ون ) قد يصبح خطرا يهدد الصحة العالمية .- تلخيص لأصل الموضوع على موقع السى ان ان العربية  - )
  • والموضوع يذكرنا بقصة انفلونزا الطيور وانفلونزا الخنازير وانفلونزا المعيز التى ماتت فى مهدها . فهل ترى ان شركات الادوية التى حققت ملايين الدولارات من الرعب الذى بثته الميديا العالمية  عن هذه الانفلونزات قد استمرأت استثمار رعب البشر من المرض اما بخلق قصة جديدة عن مرض جديد او بأطلاق فيروس معملى  فى احدى الدول البعيدة عن اراضيها لينشر قدرا من الرعب يعود عليها بمكاسب مالية تفوق فى سرعة الحصول عليها سرعة عائدات النفط ؟ وما قصة (الايبولا) ببعيدة . 
  • لست هنا بصدد البحث عن صحة هذه القصة من عدمها فلا املك مؤهلات ذلك من قدرات فنية او مهنية ولست بصدد البحث عن اطراف  هذه القصص من مراكز ابحاث الى مستشفيات الى وسائل اعلام واسعة الانتشار الى غيرها من مؤسسات داعمة والتى تبدو فى صورتها اشبه بأذرع لشركة متعددة الجنسيات قادرة على ان تتحرك فى انحاء العالم بحرية .
  • ولكننى اصدق ما ساقه هؤلاء العلماء من قدرة هذه البكتريا ( الهندية ) على خلق وسائل دفاع  فاعلة لحماية بقائها كأفرازها لأنزيم (ان دى ام - ون) الذى يقاوم كل المضادات الحيوية الهادفة الى قتلها رغم ان معظم البكتريا والكائنات الدقيقة التى اتخذت من جسم الانسان مستعمرة للعيش فيها - وحسب دروس مادة الاحياء فى المدارس الثانوية - تحرص على بقاء هذه المستعمرة حية وآمنة لتضمن بذلك شروط بقائها وليس هذا ما يهمنى فى هذه القصة .
  • ان اكثر ما يثير الدهشة فى هذه القصة هو قدرة هذا الكائن المجهرى الذى لا يساوى شيئا مقارنة مع البشر فى دفاعه المستميت لحماية بيئته من اى تدخل خارجى حتى وان كان وجوده نفسه يشكل خطرا على هذه البيئة وما يثير الدهشة هنا ان البشر الذىن اصبح وجودهم مهددا ومهددا لحياة هذا الكوكب الذى تأذى كثيرا من انشطتهم التى استنزفت بيئتهم حتى اصبحوا فريسة سهلة للامراض والاستنزاف بسبب هذه الامراض لم يرق تفكيرهم فى اسلوب حمايتهم لبيئتهم حتى هذه اللحظة لتفكير هذا الكائن المجهرى ، فالخطر الاكبر فى منظورهم هو انفسهم كبشر بحكم ما تختزنه كل دوله من اسلحة موجهة الى بعضهم البعض ووصل تطور بعضها الى حد الدمار الشامل الذى يطال مستخدمها عاجلا ام آجلا فأى جنون هذا ؟
  • واكثر ما يثير السخرية فى هذه القصة هو نسبة البكتريا الى الهند ولا يخفى على المرء دلالات ذلك والتى يمكن ان نلخصها فى جملة من كلمتين ( تنافس اقصائى ) يحمل فى طياته اشكالا جديدة لحروب الالفية الثالثة .

الاثنين، 9 أغسطس 2010

ظل لا يموت ( الجزء الثانى )

الموقف الثانى :
الاعتراف والقبول :
                    لا يستطيع المرء ان يحسب اعتراف مصر وقبولها بأسرائيل والدخول معها فى اتفاقية سلام موقفا مقابلا للموقف العربى والاسلامى الرافض لقرار التقسيم وقيام دولة اسرائيل ، فالقضية الفلسطينية لا تزال قائمة ولكن معطيات اعتراف مصر وقبولها باسرائيل اضاءت زوايا هامة فى هذا الطريق الذى تدفع المنطقة للسير فيه وشكلت فى مجملها اسئلة محرجة اجبرت العقل الوقوف عندها طويلا برغم الصعاب والمخاطر التى تحيط بها ولكن لأن هذه الصعاب والمخاطر لم تعد تعنى شيئا مع ما يدبر للمنطقة من سيناريوهات شهدنا بعضها وبدت نذر الاخرى تلوح قريبا من كل شبر فى اراضيها فأن تناولها يصبح امرا واجبا وملحا .
اضاءة اولى :
                 لقد شكل خروج مصر من منظومة الرفض العربى والاسلامى صدمة شبيهة بالصدمة التى احدثها قرار التقسيم وشغل عقل المنطقة ردحا طويلا من الزمن ومع ذلك لم يكن خروجها فى تقديرى خصما على تلك المنظومة فقد كان خروجا من جبهة عسكرية رأتها مصر بحكم تجاربها المريرة جبهة محاصرة ومكلفة وخاسرة فتركت الظل لتواجه الفيل او جبهة الشرعية التى صنعت اسرائيل ، الجبهة التى تملك القدرة الكافية لحسم الصراع الذى صنعته. وهى خطوة جريئة تنم اما عن وعى دقيق بطبيعة واطراف الصراع وبقدرتها على مواجهة تحدياته بادواته الجديدة السياسية والدبلوماسية واما ان تكون قد اعياها الصراع فودعت السلاح كارهة او طائعة وما يهمنى هنا هل حققت خطوتها هذه اى مكاسب خدمت القضية الفلسطينية وقضايا المنطقة؟
               تبدو الاجابة محاطة بقدر كبير من الصعوبة والتعقيد خاصة مع استمرار القضية الفلسطينية فى اشكالها المتفجرة ولكن المؤكد فيها ان مصر وبحكم موقعها الجديد داخل هذه الجبهة اصبحت محطة رئيسة ملمة بكل المشاريع المستهدفة المنطقة سواء اكانت حربا تلك المشاريع ام سلما وظلت تتعاطى معها بأدواتها السياسية والدبلوماسية بنهج حافظ للمصالح العربية والاسلامية وكان عطاؤها فى هذا الجانب هو الذى اعادها ثانية لموقعها القيادى وسط الامة بالرغم من علاقاتها القائمة مع اسرائيل وبالرغم من استمرار القضية الفلسطينية فى اشكالها المتفجرة.
              فأذا كانت العلاقات مع اسرائيل لم تمنع استمرار علاقة العرب والمسلمين مع بعضهم البعض وان يتبادلوا المصالح فيما بينهم فهل بعد هذا يحتاج المرء لكبير عناء حتى يكتشف ان القضية الرئيسة متمركزة فى اجندة لا يمثل الوجود الاسرائيلى القائم فى قلب المنطقة سوى معبر لها .
اضاءة ثانية :
              بما ان الارض ظلت تلوح فى الافاق محورا رئيسا فى الصراع فقد شهدنا عودة الاراضى المصرية المحتلة لسيادتها مرة اخرى دون اى حشد عسكرى وبغض النظر عن دلالات عودة هذه الاراضى فأن الحقيقة الساطعة هنا ان الارض ليست محورا فى هذا الصراع طالما ان عودتها قائمة بشكل او بآخر وفقا لشروط بعينها ، فالشروط التى اعادت اراضى مصر المحتلة لسيادتها مرة اخرى قادرة على اعادة الاراضى العربية المحتلة للسيادة العربية وقادرة اذا اتسعت المصالح التى تنتجها ان تطال الوجود الاسرائيلى ايضا فلعبة الارض تبدو لدى الغرب لعبة ناجحة فى الضغط على الدول والشعوب التى لم تلحق بركب الغرب الحضارى كما بان ذلك جليا فى الحراك الدائر بين امريكا والصين حول تايوان.
اضاءة ثالثة :
ان التزام مصر باتفاقها مع اسرائيل على مدى اكثر من ربع قرن من الزمان دون اى خروقات تذكر يبدو فى احدى دلالاته انه لم يؤد الى اى تغيير فى شخصية مصر العربية الاسلامية بالقدر الذى جسدته مخاوف منظومة الرفض العربى والاسلامى وصعدت به كاحد محركات الصراع ، بمعنى آخر ان الوجود الاسرائيلى غير منتج دينيا وثقافيا فى وسط عربى اسلامى او بمعنى ادق ، هذه الامة محصنة بدينها الحق وبثقافاتها من اى اختراق وتكفى فترة الاستعمار بكل طولها وثقلها شاهدة على ذلك والحمد لله الذى تكفل بحفظ الدين.فاذا كانت مصر الدولة الاكثر حداثة من بين الدول العربية والاسلامية ظلت على مدى ربع قرن ويزيد محافظة على شخصيتها دون ان تتأثر بتبعات علاقاتها مع اسرائيل فى ظل العزلة  العربية والاسلامية التى فرضت عليها نتيجة لهذه العلاقة فأن المخاوف القائلة بخطر الاستلاب الدينى والثقافى غير واردة فى هذا الصراع ولا هى واردة فى نشاط هذه الامة عند تواصلها مع الاخرين وكان نبينا نبى الرحمة عندما اقام مدينته فى سنوات الدعوة الاولى جعل فضاءها العام متاحا للآخر المسيحى وللآخر اليهودى وللآخر المجوسى وللاخر اللادينى جنبا الى جنب مع المسلم  وظل ذلك المسلم رغم حداثة عهده بالاسلام يعيش فى فضاء يعج بمختلف الاديان و الاعراق والعادات والتقاليد ومع ذلك لم يستطع هذا الفضاء المتعدد والمتنوع ان يهز قناعته وايمانه فى صدق ما جاء به دينه ولم يستطع ان يحد من نموه وانتشاره فمن اين جاءت هذه المخاوف التى ظلت تتخذ موقفا ثابتا معاديا للآخر ؟ ايا كان مصدر هذه المخاوف فأن رفض الآخر يبدو علة هذه الامة القاتلة ويبدو المكمن الاساسى لأستهدافها لا كزريعة كما يبدو فى الظاهر ولكن لأن الاجندة التى تقف وراءه تكون فى حالة صدام مع اكثر وجوه الدين سماحة وتواضعا وهو وجه التعايش وبالتالى تكون فى حالة صدام مستمر مع انسانها المسلم المتمسك بدينه الحق ومع غير المسلم وتكون كذلك فى حالة صدام مستمر مع العالم المحيط بها لأن مصالحه تقتضى ان يكون الفضاء العام لأى بلد متاحا للاخر بكل محموله باعتباره الضامن الاقوى لتبادل المنافع ومن هنا تبدو هذه الاجندة مهددا رئيسا لشعوبها وللعالم لذلك يلحظ المرء ان محاولات استهدافها من الداخل تاتى مصحوبة دائما بعون خارجى ومحاولات استهدافها من الخارج تاتى مصحوبة دائما بعون داخلى بما فى ذلك قيام دولة اسرائيل، ويتجلى هنا عظم المأزق الذى تعيشه هذه الامة فمعظم الدول العربية والاسلامية ان لم تكن جميعها هى دول تعدد وتعانى فى داخلها من الصراعات الاثنية والعرقية والمذهبية الا انها عجزت فى ادارة تنوعها رغم ارثها فى ذلك النهج العظيم فى ادارة التنوع الذى تركه نبى الرحمة حينما كان قائما على المدينة وظل هذا العجز يتجسد فى سلسلة طويلة متكررة لصراع دموى حول السلطة خلف مجازرا وحروبا وصمت تاريخها بالعنف والانتهاكات حتى قبل قيام دولة اسرائيل.
اضاءة رابعة :
                ان اكثر ما يشغل عقل المرء انه وبالرغم من وجود علاقات شاملة مع منظمة الامم المتحدة وعلاقات واسعة مع الغرب وعلاقات هنا وهناك مع اسرائيل الا ان القضية الفلسطينية لم تراوح مكانها فكيف اخفقت هذه الارادة العريضة المجتمعة فى هذه العلاقات ان توجد حلا للقضية الفلسطينية ؟ تحتاج الاجابة النظر فى ثنايا هذه العلاقات وهى مهمة شديدة الصعوبة والتعقيد لما يحيط  جوانبها كثير من دواعى الخصوصية وان شئت السرية ولكن المؤشرات الخاصة بقضية فلسطين يمكن تبينها بوضوح فى :.
(أ) منظمة الامم المتحدة :
ان اكثر ما يثير السخرية فى تاريخ العلاقات مع منظمة الامم المتحدة ان الدول العربية والاسلامية بما فيها دول الرفض ارتضت ان يجمعها مبنى واحد باسرائيل بأعتبارها دولة قائمة ذات سيادة ومعترف بها من الاسرة الدولية وحملوا فى ذات الوقت موقفهم الرافض لوجودها على الارض او بمعنى ادق موقفهم الرافض لشرعية قرارات المنظمة التى ارتضوا الانضمام اليها ليحتموا بشرعية قراراتها لذا لم تخرج مساعيهم منذ تأريخ انضمامهم اليها وحتى يومنا هذا عن حدود ما خطه قرار التقسيم وعجزوا لاحقا وحتى الآن عن تحقيق ما خطه قرار التقسيم .
              فاذا كان فى علم الدول العربية والاسلامية ان منظمة الامم المتحدة هى التى اصدرت قرار التقسيم وقيام دولة اسرائيل وقامت بمنحها العضوية الكاملة باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة يرفرف علمها فى سارية متساوية مع ساريات اعلام الدول الاعضاء وتحظى بكافة الحقوق الواردة فى مبادىء المنظمة ومع ذلك ارتضوا الانضمام اليها ليكونوا بذلك ملتزمين بكافة مبادئها التى من ضمنها الالتزام بحق اسرائيل فى الوجود ضمن حدود آمنة واذا كان قد ثبت لهم من خلال حراكهم حول هذا الامر داخل المنظمة  ان الوجود الاسرائيلى اصبح شرعية دولية يحظى بكافة الحقوق والمساندة ومع ذلك استمروا بها ، فأذا كان علمهم السابق بموقف المنظمة من الوجود الاسرائيلى وعلمهم اللاحق بثبات موقفها مع هذا الوجود لم يمنع النخب العربية والاسلامية الحاكمة من الاستمرار بها فما هى القناعة التى تجعلهم يقبلون بشرعية الوجود الاسرائيلى خارج نطاق المنطقة كما نشاهد مظاهره فى منظمة الامم المتحدة حيث تصاحبهم فى المقاعد وفى عواصم العالم حيث تصاحبهم فى السفارات ومع ذلك تابى عليهم قبولها على الارض ؟ ما الذى جعل الوجود الاسرائيلى يحظى بنصف القبول او بنصف الرفض ؟ فاذا افترضنا ان قبولها فى الخارج امر اقتضته مصالح المنطقة فكيف يكون قبولها فى الداخل امرا مهددا لهذه المصالح ؟ او بمعنى آخر اذا كان القبول بشرعية الوجود الاسرائيلى فى فضاء العالم امر يحقق المصالح فلماذا اكتفوا بنصف المصالح وحرموا المنطقة من نصفها الآخر؟ الا تشى ازدواجية المعايير هنا تجاه الوجود الاسرائيلى ان الاجندة التى تقف وراء الرفض او القبول تتخذ من رفض او قبول الوجود الاسرائيلى زريعة كافية لأستمرار وجودها هى ؟ الا يبدو هذا الامر برمته حلقة مفرغة من حلقات متاهة المصيدة المنصوبة بدقة وعناية متناهية ؟ فهل تنتج مثل هذه العلاقة ما يخدم القضية الفلسطينية ؟
(ب) العلاقات مع الدول الغربية :
شهدت المنطقة علاقات وثيقة مع العديد من الدول الغربية النافذة امتدت لعقود طويلة واثمرت مصالحا كبرى ولكنها على صعيد القضية الفلسطينية لم تثمر شيئا فلماذا ؟ لست هنا فى حاجة للبحث فى طبيعة هذه العلاقات للوصول الى اجابة بقدر ما اسعى لتبيين حقيقة هامة تتلخص فى ان انظمة الدول الغربية محكومة بقانون هو ثمرة لأتفاقيات ومعاهدات ومواثيق وعهود لم تقف عند تنظيم اوجه الحياة داخل شعوبهم واراضيهم فحسب وانما امتدت مع نشاطهم الممتد فى العالم كله واكتسبت شرعية دولية داخل منظمة الامم المتحدة وان اى علاقة مع هذه الدول يفتقد طرفها الآخر فى داخله بنيات نظامهم القائم التى قادتهم ليصبحوا اكثر الدول استقرارا وقوة ويفتقد فى داخله علاقات وثيقة مع تلك الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق والعهود التى اخذت تنظم شكل الحياة فى هذا العالم ستتصادم مطالبه مع روح وشكل قانونهم او بمعنى ادق سيكون مفتقدا للشرط القانونى والاخلاقى الذى يدفع مصادر قرارهم للتجاوب مع مطالبه مهما كانت عدالتها فقط يأتى تجاوبهم بالقدر الذى يخدم مصالحهم القائمة لديه فثمة معادلة هنا يبدو فيها غياب الوازع الاخلاقى عاملا مشتركا بين الطرفين وليس هذا المهم انما المهم هو ان معظم الدول الغربية صاحبة المصالح الكبرى اذا استثنينا امريكا قبل حربى العراق وافغانستان كانت قد انتهكت حرمة اراضى المنطقة مرة بأستعمارها الطويل لها واستنزاف مواردها ومرة ثانية بخلق الوجود الاسرائيلى داخلها اضافة لموقفها الثابت والمعلن والمعضد لهذا الوجود ، فاذا كان كل هذا التاريخ العدائى لم يمنع قدرة النخب العربية والاسلامية الحاكمة من اقامة علاقات مع هذه الدول الغربية فما الذى يمنع ان تستوف هذه العلاقات كافة شروطها لتستقيم اخلاقيا وقانونيا وفق المنظور الغربى حتى تتسع دائرة المصالح التى تنتجها وتسد الزرائع امام هذا الاستنزاف المريع لأنسان وثروات المنطقة ؟ ألا تبدو فى اطارها القائم هذا مجرد علاقات انتهازية تتقاسم فيها الدول الغربية مع نخب حاكمة غصبا عن ارادة شعوبهم ثروات المنطقة التى يرزح انسانها تحت وطأة القهر والفقر؟ ألا يبدو هذا الوضع منبتا خصبا للكراهية التى نشأت تجاه الغرب واتخذت اشكالها العنيفة التى شهدناها واصبحت مهددا رئيسا يواجهه العالم الآن ؟ ومع ذلك يبقى السؤال الاكبر وهو هل يلحظ المرء داخل هذه العلاقات اى وجود للقضية الفلسطينية؟ انها علاقات قائمة على معادلة السلطة مقابل الموارد ولا تستطيع على الاقل فى الجانب العربى والاسلامى ان تؤثر فى سياسة الغرب تجاه المنطقة .
(ج) اسرائيل : 
اما على سبيل العلاقات العربية والاسلامية مع اسرائيل فتبدو فى طورها الراهن مجرد هدنة لن تصمد طويلا لشرط الاعتراف والقبول حتى لو نجحت فى دفع كافة الدول العربية والاسلامية بالاعتراف والقبول باسرائيل وحتى لو نجحت فى اقامة الدولة الفلسطينية داخل الحدود التى خطها قرار التقسيم وذلك لأن الاجندة المهيمنة على سماء المنطقة تمثل حدود الدين الذى تواضعت عليه شعوبها قرونا طويلة وهذه الاجندة بقدر ما تبدو فى ظاهرها اكثر تشددا فى تعاملها مع الآخر الدينى فهى فى باطنها اكثر تشددا فى تعاملها مع الآخر المسلم من قبل مقتل الحلاج والى ما بعد مقتل محمود محمد طه وهى ذات الاجندة التى خشى معها الفاروق عمر بن الخطاب وهو فى رحاب القدس ان تصير كنيستها مسجدا اذا صلى داخلها فأختار كى يحافظ على استمراريتها كنيسة قائمة ان يصلى خارجها فهذه الاجندة التى لم تتراءى بعد فى افق العلاقات القائمة لا يعنى انها سلمت بالامر ولكن لأن حدود العلاقات القائمة لم تصل بعد الى مكامنها فوجود سفارة اسرائيلية فى الارض العربية والاسلامية فى اطار العلاقات القائمة الآن لا يختلف عن وجودها المصاحب فى الامم المتحدة ولا عن وجودها المصاحب فى عواصم العالم وهو وجود قد تم اختباره مليا ولكن حين يبدأ الآخر فى التعاطى مع محموله تبدا اشباح الحرب فى التجمع لأن المحمول الاسرائيلى يتداخل فى شقه الدينى مع مناطق اسلامية مقدسة وهنا تكمن نقطة الصدام فهذه الاجندة لن تعترف بأى حقوق تاريخية فى ارض غطاها الاسلام فهى وان كانت ترى فى الدين عقيدتها التى تفر بها الى الله مثلها فى ذلك مثل سائر منسوبى الاديان الا ان الاسلام يحظى عندها بخاصية فريدة لا نظير لها فى الاديان المصاحبة بالمنطقة ، فمنذ ان آل الامر الى ما آل اليه فى سقيفة بنى ساعدة حتى صار عرشها الذى حملها الى مرافىء العزة والمجد والرفعة والعلو وانبسط بها فى مساحات واسعة من الارض ووسط جموع غفيرة من الشعوب وتمثل المناطق المقدسة تاج هذا العرش الذى لا يزال قائما بالمنطقة لذا فهى لن تسمح بتداول هذا التاج ، بمعنى آخر لن تسمح بأن تصير المناطق المقدسة التى ظلت وقفا على المسلمين قرونا طويلة فضاءا متاحا حتى وان كان لدين غايته التوجه لله رب العالمين لأن السماح بمثل هذا الامر من شانه ان يعود بفضاءات جميع المناطق المقدسة للحالة التى كانت عليها قبل فتح مكة وقبل الفتوحات الاسلامية فالعودة لتأريخ هذه الحالة يعنى ان المنطقة قد طوت سجلها التاريخى القائم فى قلب المنطقة قرونا عديدة . فهل تستطيع الدول التى اقامت علاقات مع اسرائيل ان تعبر نقطة صدام بهذا الاتساع الخطير وهى التى لم تستطع ان تعبر مجرد رواية محدودة الافكار ومحدودة القراء ؟ 
                   فاذا كانت تفتقد للارادة اللازمة لتعبر مجرد رواية فكيف تستطيع ان تعبر بالعالم العربى والاسلامى الى دائرة تتسع فضاءاتها لكل شىء ؟
                    هنا تبدو ازمة هذه الامة بشقيها الرافض والمعترف معلقة فى افق علاقاتها القائمة مع منظمة الامم المتحدة ومع الدول الغربية ومع اسرائيل راية بيضاء ، وتبدو هذه العلاقات القائمة مجرد مناورة قصيرة الامد تسعى خجلة لتدارى عورة هروب كلا الموقفين من مواجهة معركتهما الفاصلة سواء تلك المنتظرة على صعيد القضية الفلسطينية او تلك المنتظرة على الصعيد الداخلى ويبدو بجلاء ان كلا الموقفين لم يستوفيا شروط قيامهما فالرفض قام بلا ادراك وبلا نظام وبلا قوة ودعاة الاعتراف والقبول يفتقدون للارادة اللازمة والبنيات اللازمة للمضى لآخر الطريق وكلاهما قام وهو يحمل فى داخله علات واقعه الممزق والمحاصر ، واصبح وجودهما فى الشارع العربى والاسلامى اداة ناجعة للانقسام ومتاهة اخرى من متاهات المصيدة المنصوبة بدقة وعناية متناهية امتدت الى الانسان الفلسطينى فشقت وحدة هدفه ووحدة صفه وجرفته معها لدائرة جديدة من دوائر العنف التى ظل يرزح تحت ويلاتها عقودا طويلة من الزمن.
خاتمة : 
              ان من صنعوا هذه القضية يعلمون جيدا قدرة محركاتها العديدة القادرة على ابقائها حية ومتقدة ازمانا طويلة تظل معها شعوب المنطقة فى حالة رعب مستمر من تبعات الحرب وفى حالة رعب مستمر من تبعات السلام وهى حالة تبدو تجسيدا حيا لمعنى الحصار وقصد من وراء كل ذلك ان تعى هذه الامة عاجلا ام آجلا ان خيارها الوحيد المتاح امامها للنجاة هو العودة لأنتهاج ثقافة ( للكعبة رب يحميها اما انا فرب الأبل )

ظل لا يموت ( الجزء الاول )

          الحرب التى تدور رحاها بين الحين والحين على الارض الفلسطينية تعكس على الشارع العربى والاسلامى - الرسمى منه والشعبى - مشهدا فاجعا يبدو مع الشعارات المتصادمة فيه والمليئة بالاتهامات المتبادلة تجسيدا حيا لأزمة هذه الامة التى فقدت نظامها التأريخى منذ زمان بعيد كما يعكس من جانب آخر وعيا ضعيفا بالمخاطر التى احاطت وما زالت تحيط بقضية فلسطين واكثر ما يؤلم هنا ان تصبح حالة العنف الواقعة على الانسان الفلسطينى فى جميع الاوقات التى تتفجر فيها الاوضاع هناك مناسبة مواتية لتصفية حسابات سياسية هنا بدلا من ان تصير مناسبة موجبة لمناصرته حتى صار هذا الوضع سمة ملازمة لحركة المواجهة العربية والاسلامية مع اسرائيل وهو وضع بقدر ما اقعد قدرات هذه الامة وعطلها عن خدمة صراعاتها بقدر ما ارخى ظلالا كثيفة من العتمة على طبيعة واطراف الصراع والمخاطر المحيطة به فالمرء تتجاذبه شعارات الحكام والشعوب المتصادمة فى داخلها ومع بعضها البعض والمليئة بجبهات مفتوحة على مصراعيها تبدأ مواجهاتها مع بيته وتنتهى مع امريكا وكل هذه المواجهات بجانب انها لا تخدم الانسان الفلسطينى فى محرقته تحت آلة الحرب الاسرائيلية المتطورة فهى تدور بعيدا عن جوهر الصراع الذى تبين ملامحه جلية من خلال ما انتجه القرار رقم 181 لسنة 1947 الصادر من الامم المتحدة والخاص بتقسيم فلسطين ولكى تبدو الصورة اكثر قربا فأن ابرز ما انتجه القرار على صعيد الامة العربية والاسلامية هو قيام موفقين متصادمين بين الرفض والقبول ومن خلال هذين الموقفين احاول تناول هذا القضية.
الموقف الاول:
الرفض العربى والاسلامى لقرار التقسيم وقيام دولة اسرائيل :
                وما يهمنى هنا التبعات التى ترتبت على هذا الموقف وعلاقة البعد الدولى بمنظومته وبمجرى الصراع منذ ذلك التأريخ وحتى يومنا هذا وهو امر على قدر عال من الصعوبة والتعقيد ولكن الواضح فيه ان الموقف العربى والاسلامى الرافض لقرار التقسيم وقيام دولة اسرائيل بكل ما صاحبه جاء كرد فعل مواز للصدمة التى احدثها القرار فى وجدان الامة العربية والاسلامية وتبدو لى هذه الصدمة مع ردة الفعل المصاحبة لها نتيجة مرجوة ضمن اهداف الاستراتيجية الموضوعة والمترتبة على قيام دولة اسرائيل. فالقرار فى احد وجوهه يبدو اختبارا قاهرا استهدف ضمن ما استهدف استكشاف مدى قدرة المنطقة العربية والاسلامية التى فقدت نظامها التأريخى وموعودة قريبا بالاستقلال على تقبل الامم المتحدة كمنظومة اتفق العالم الحر آنذاك شرقه وغربه على شرعية قراراتها التى تعنى بالامن والسلم الدوليين واستهدف من جانب آخر مدى قدرتها على تقبل قيادة هذه المنظمة ومن ضمنها ذات الدول التى خلفت جراحات غائرة بأستعمارها المنطقة ردحا طويلا من الزمن استوعبت خلاله كل خصائصها وخبرت كل خفاياها ودقائقها واقامت فيها قدرا هائلا من المصالح التى شكلت عصب حياتها ومصدر نهضتها ورفاهية شعوبها .
               وفى احد وجوهه وبمعطيات الواقع الراهن يبدو القرار بمثابة مصيدة بالغة التعقيد نصبت ونفذت بدقة متناهية جعلت المنطقة تنساق خلف متاهاتها من متاهة الى متاهة، فالموقف العربى والاسلامى الرافض لقرار التقسيم وقيام دولة اسرائيل اعتبر موقفا متحديا لقرارات الشرعية الدولية وبالتالى اعتبرت الدول والشعوب المتمسكة به مهددا اساسيا للسلم بالمنطقة ومهددا اساسيا للمصالح القائمة بها  ومهددا للنظام العالمى القائم ونتيجة لذلك فأن الدول الناهضة بهذه الشرعية وعلى وجه التحديد الدول الغربية الاوروبية على وجه خاص اصحاب اكبر المصالح القائمة بالمنطقة اتخذت من الموقف الرافض زريعة كافية وفرت لها سندا دوليا واخلاقيا لأتخاذ ما ما تشاء من تدابير لمواجتهه، ويبدو لى ان اولى تدابيرها هى قيامها باخضاع المنطقة العربية والاسلامية لأستراتيجية بعيدة المدى ومتعددة الازرع والاهداف ومن ضمن اهدافها الواضحة الحيلولة دون نهوض دول المنطقة مستقبلا سواء بالانفراد او بالاتحاد قوة اقليمية مثلما كانت فى تاريخها القديم فتحقيق هذا الهدف من شأنه ان يخدم لها عدة اغراض ومن ضمن اغراضها العاجلة آنذاك ان الدول التى استعمرت المنطقة واقامت فيها مصالحا كبرى وجدت نفسها محاطة بأخطر مأزق واجهها بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كانت مطالبة اخلاقيا ان تفى بوعودها التى قطعتها لشعوب المنطقة والخاصة بمنح هذه الشعوب استقلالها نظير اسهاماتها الممهورة بارواح ودماء ابنائها فى انتصارات تلك الحرب ولأنها تدرك جيدا ان دول المنطقة التى كانت فى طريقها الى الاستقلال والتحرر لديها كل مقومات النهوض لتصبح قوة اقليمية نافذة ولديها زخيرة كافية من الثأرات تجعلها اكبر مهدد للمصالح القائمة بها والجارية عبرها فأن الحيلولة دون نهوضها قوة اقليمية هدف كفيل بدرء المخاطر المترتبة على الأيفاء بالوعود الخاصة بمنحها الاستقلال.
                ومن ناحية اخرى فان تحقيق هذا الهدف سيعمل على تدعيم واستقرار موازين القوة التى قامت بتأسيسها فى العالم فى اعقاب الحرب العالمية الثانية وفقا لترتيبات دقيقة استهدفت ضمن ما استهدفت الحيلولة دون وقوع الحرب فيما بينها نتيجة لتصادم المصالح ولأنها تدرك جيدا ان هذه المنطقة التى ظلت على مر العصور تشكل القاسم المشترك الاعظم فى حسابات اى مصالح قائمة او مرجوة فأن قيام قوة اقليمية بها يعنى دخول قاسم جديد على المصالح القائمة والمرجوة يقتضى قيام ترتيبات جديدة ستتصادم حتما مع ترتيبات المصالح القائمة بينهم مما يفتح الباب على مصراعيه لدخول شبح الحرب بينها من جديد ولتفادى هذا الخطر فأن الحيلولة دون نهوض المنطقة قوة اقليمية او نهوض قوة اقليمية بالمنطقة اصبح هدفا رئيسا يحتاج لزريعة كافية لتحقيقه فجاء قيام اسرائيل وما ترتب على قيامها ليشكل عمودها الفقرى ومن يومها احيطت المنطقة باستراتيجية مانعة لأى تدخل من شأنه ان يخل بسير المصالح القائمة بها والجارية عبرها ولا تدعى هذه المحاولة الالمام بهذه الاستراتيجية وان كانت ملامحها بائنة فى فشل المشاريع الوحدوية عربية كانت ام اسلامية ولكن احد اذرعها تجلى فى وقت مبكر متزامن مع مناخ الرفض الذى ساد آنذاك ، فقد اصيبت المنطقة بصدمة جديدة نازفة تمثلت فى صفقة الاسلحة الفاسدة التى خيبت آمال الشعوب العربية والاسلامية التى تدفقت لتحرير فلسطين فى 1948، فهذه الصفقة بكل الزوايا التى تصحبها فى نظرك تعكس صورة واضحة ترى فيها المنطقة قد خضعت لرقابة دقيقة استهدفت  سقف ونوعية تسليحها ويبدو للوهلة الاولى ان الغاية من ذلك هى حماية وترجيح كفة اسرائيل - وهى كذلك - لكن النظرة الفاحص ترى من وراء ذلك البعد المخفى من الصورة وهو ان الغاية من ذلك هى حماية وترجيح كفة الشرعية الدولية التى صنعت اسرائيل او بنظرة اكثر عمقا ان الغاية الاخيرة هى حماية المصالح القائمة بالمنطقة وظل هذا الذراع فاعلا منذ ذلك التاريخ والى يومنا هذا فقد شهدناه فى ضرب المفاعل النووى العراقى والمصنع الليبى ومصنع الشفاء السودانى بأعتبار ان هذه المنشئات بنيات قادرة على دفع المنطقة للنهوض قوة اقليمية مهددة للمصالح القائمة بها ويبدو جليا الآن فى الحراك الدائر حول ملف ايران النووى, ويبدو ان بعض العرب آنذاك انتبهوا فى وقت مبكر للقوة الكامنة خلف الشرعية الدولية مقارنة بحال وواقع هذه الامة الممزق والمحاصر فأكتشفوا المخاطر التى ترتبت على موقفهم الرافض فجاء تراجعهم سريعا عام 1949 حينما طالبوا الامم المتحدة بتنفيذ القرار 181 لسنة 1947 وابدو موافقتهم للتعاون فى تنفيذه - وهواتجاه اتخذ شكله الجماعى بعد نصف قرن من الزمان فى قمة بيروت-.
ولكن الرفض العربى والاسلامى مضى فى طريقه متمسكا بمبدا تحرير الارض دون ان ينتبه الى انه لا يشكل الا جزءا من الصراع بينما مكمن الصراع الحقيقى هو مجمل الثروات وعلى راسها النفط التى تزخر بها المنطقة بموقعها الاستراتيجى الفريد وهذا ما كان سببا فى قدوم الاستعمار بجيوشه وثقافاته ورساميله التى بنى بها مصالحا كبرى ادت الى التطور المذهل الذى يشهده العالم الغربى الآن, كما ان الرفض لم ينتبه الى ان الدول الواقفة خلف هذه المصالح القائمة بالمنطقة تدرك جيدا ما يمكن ان تفعله الثروة فى موازين القوة وتدرك جيدا معنى ان تترك هذه الثروات فى ايدى شعوب لم ينقطع حنينها لأستعادة ماضيها ابدا وهذا ما تعتبره الدول الناهضة بالشرعية الدولية المهدد الرئيسى ليس لمصالحها القائمة بالمنطقة فحسب وانما لمشروعها الكونى الذى قطع شوطا بعيدا خارج نطاق كوكبنا ويلحظ المرء هنا ان طاقاتها ظلت موجهة على الدوام لأن تخضع ادارة هذه الثروات وفقا لمعاييرها ومتطلباتها .
                 بناء على ما تقدم يأتى دور اسرائيل هنا كضامن او اختبار قاهر يعبر الاعتراف والقبول بها عن صدق ارادة المنطقة فى التسليم بمشروعية معايير ومتطلبات الدول الناهضة بهذه الشرعية او بمعنى آخر التسليم بمشروعية نظامها القائم او بمعنى ادق ان الاعتراف والقبول  باسرائيل بكل ابعادها يعنى ان هذه الامة قد طوت الى غير رجعة صفحات ماضيها بكل اشراقاته وجراحاته وثأراته ومن ضمنها صفحة الاستعمار ويعنى ان هذه الامة التى ظلت تقاوم اللحاق بركب النظام الغربى اصبحت قادرة الان على اللحاق به لأنها اصبحت قادرة على قبول الآخر دون تهديد لمحموله العرقى والدينى والاقتصادى والثقافى وهو الشرط المطلوب الذى يحقق الضمانة الكافية لحماية واستمرار المصالح القائمة وهو الشرط المطلوب الذى يتيح لهذه الامة ان تخطو خطوتها الاولى خارج دائرة الحصار المضروب عليها منذ سقوط نظامها التاريخى والى هنا يلحظ المرء بوضوح وجوه المشروع الكامن وراء قيام دولة اسرائيل وتبدو اهمية هذا المشروع العظمى لدول الشرعية الدولية جلية فى لحظات نهجها العنيف عند القيام بحمايته والدفاع عنه فقد شهدنا وشهد العالم بأثره جراتها المتناهية فى خرق كل النظم والقوانين والاعراف الدولية التى صاغتها بنفسها لحفظ الامن والسلم العالمى فكان العدوان الثلاثى فى اعقاب تاميم قناة السويس نموذجا لم ينقذ مصر من حرائقه سوى وجود الاتحاد السوفيتى قطبا ثانيا على راس النظام العالمى القائم آنذاك والموقف الامريكى من العدوان وشهدنا وشهد العالم الترتيبات التى ارتكزت على افغانستان بكل عنفها ودمائها ودمارها واستهدفت ضمن ما استهدفت المشروع الاسلامى الذى صعد فى اكثر صوره انكفاءا وتشددا فى رفضه للآخر وشهدنا وشهد العالم جحيم الاحتلال الذى خيّم على العراق بكل عنفه ودمائه ودماره واستهدف ضمن ما استهدف المشروع العروبى الطموح ولا يخفى على احد مغزى هذا الحريق فقد وضع الامة العربية والاسلامية امام محك اختبر فيه حراكها الاسلامى والعروبى وهى تشاهد بأم عينها وقلة حيلتها احتراق جناحى حلم استعادة مجد الدولة القديمة اللذين حلقا طويلا فى سماء العالم العربى والاسلامى وما يهمنى هنا ان الموقف العربى والاسلامى الرافض لقرار التقسيم وقيام دولة اسرائيل لم ينتبه لجوهر القرار ولا للمخاطر المحيطة به فاختزل الصراع فى قطعة ارض ومضى وهو مجرد من كل وسائل القوة يحارب فى ظل لا يموت بينما الفيل يرتع آمنا فى مراعيه الخصبة حتى صارت قوته هى القوة الغالبة فى العالم، فكان من الطبيعى ان تاتى هزائمه فى صراعه الطويل مع اسرائيل نتيجة لأصطدامه بهذه القوة الغالبة صاحبة المصالح القائمة بالمنطقة ومضى دون ان يلتفت لواقع هذه الامة الممزق والمحاصر منذ سقوط نظامها التاريخى فكان من الطبيعى ان تاتى هزائمه نتيجة لأصطدامه بهذا الواقع وبالفراغ الذى خلفه سقوط نظامه التاريخى ومضى دون ان ينتبه الى ان صراعات هذه الامة الاثنية والعرقية والمذهبية التى وقفت حاجزا دون الحفاظ على نظامه التاريخى ووقفت حاجزا دون استعادته ووقفت حاجزا دون بناء نظام جديد ينشل هذه الامة من وهدتها عادت تشكل فى واقعنا الراهن اكبر مهدد لشعوب المنطقة ولم تترك للعديد من نخبها من خيار سوى الاتكاء على النظام العالمى الذى صنع اسرائيل .
فهل نجح الموقف العربى والاسلامى الرافض لقرار التقسيم وقيام دولة اسرائيل فى خدمة القضية الفلسطينية وقضايا المنطقة؟
                 الثابت حتى الان انه لم يستطع ان يمنع قيام دولة اسرائيل ولم يستطع ان يحقق قيام دولة فلسطين وان الحروب التى خضناها وفقا له بدلا من ان تسترد الارض السليبة اوقعت اراض اخرى فى الاسر الاسرائيلى، سيناء وشرق القناة من مصر والجولان من سوريا اضافة للاراضى الفلسطينية التى كانت خاضعة للادارة المصرية والاردنية وهذه الاراضى (الضفة وغزة) التى كانت تحت السيادة العربية منذ قرار التقسيم وحتى فبيل حربى 1967 و1973 اصبحت المحور الرئيس لمطالب قضية فلسطين بكل ما يحمله من دلالات واسوا دلالاته انه كلما طال امد الصراع كلما سقطت من مطالبه مطالب كان مهرها ارواح ودماء عزيزة والفاجع هنا ان الدول العربية قطعت رحلة طويلة امتدت الى اكثر من نصف قرن من الزمان شهدت خلاله ما شهدت من دماء ودمار وتحملت خلاله ما تحملت من تكاليف الحروب كى تصل لقتاعة جماعية بوجوب تنفيذ القرار 181 لسنة1947 والخاص بتقسيم فلسطين وقيام دولة اسرائيل.
              والآن حين ينظر المرء الى سماء هذا الصراع الطويل القاتمة لا تسطع سوى حقيقة مرة تقول ان الرفض العربى والاسلامى لم يكن مستوفيا لشروط قيامه من يومه ذاك والى يومنا هذا لأنه بلا ادراك وبلا نظام وبلا قوة وهو بهذه الصفة لم يكن يمثل سوى حالة عاطفية زاخرة بالحنين الى ماضيها التليد ومحتشدة بأمل كاذب لأستعادته ودون ان يدرى انزلقت به الى متاهة من متاهات المصيدة المنصوبة بعناية ودقة متناهية واخذ يجوس فيها ردحا طويلا من الزمن الى ان خرج علينا اخيرا مخلوقا مرعبا يتنفس  ويتغذى على طفح جراحاته حتى التخمة لينفجر داخل امته وخارجها دما ودمارا مشكلا بذلك زريعة جديدة جعلت من المنطقة العربية والاسلامية طريدة دسمة.


السبت، 7 أغسطس 2010

قضية ضباط الشرطة المتقاعدين

 تبدو قضية ضباط الشرطة المتقاعدين فى نظر الكثيرين قاصرة على ضحايا الحملة المنظمة التى طالت معظم مؤسسات الدولة تحت ستار الصالح العام وفقدت الشرطة نتيجة لذلك اكثر من جيل فى صفوف الضباط ولكن هنالك حالات فصل اخرى تمت خارج اطار هذه الحملة كانت اكثر ظلما كحالات الضباط الذين فصلوا بموجب اجراءات ادارية باطلة انتهك فيها القانون بشكل سافر ومخجل وحالات الضباط الذين فصلوا نتيجة لأستقالات قسرية يطول الحديث فيها، وقد احاطت بكافة اجراءات الفصل هذه ظروف كانت فيها دائرة العدالة اكثر ضيقا لتستوعب مطالبا بتحقيق العدل والانصاف فلم يكن امام معظم هؤلاء الضباط من سبيل سوى الاعتصام بحبل الصبر
والراصد لأحوال هؤلاء الضباط لا تخفى عليه الاضرار الجسيمة التى حاقت بمعظمهم و بعائلاتهم وامتدت الى داخل المجتمع لتزرع فيه قدرا من المخاوف كانت لها آثارها السلبية على الطمأنينة العامة، فالمجتمع الذى اعتاد ان يرى فى هؤلاء الضباط ملاذه الآمن حينما تدهمه المخاطر وحينما تنتهك حقوقه وحرماته اصيب بالصدمة وهو يرى بأم عينه كيف تقلبت بهم الايام حتى صاروا الى ما صاروا اليه
وقد فطنت القوى الوطنية الحريصة على امن وسلامة هذا الوطن العزيز لخطورة هذه القضية وما يمكن ان يترتب عليها من تداعيات فأولتها اهمية متساوية مع قضايا الوطن الكبرى التى تقتضى حلا ناجعا وعاجلا الامر الذى ادى الى فتح بوابة عريضة للأمل جعلتهم يتمسكون اكثر بحبل الصبر، كما ان بعض القادة التأريخيين لقوات الشرطة انتبهوا فى وقت مبكر وادركوا العواقب الوخيمة المترتبة على اجراءات الفصل هذه ليس على صعيد الامن والطمأنينة العامة ولا على الصعيد الشخصى لهؤلاء الضباط فحسب وانما على صعيد المهنة نفسها التى هزت مآلات هؤلاء الضباط عقب الفصل كثيرا من مكانتها وهيبتها فسعى اولئك القادة بحسهم الوطنى والامنى العالى للحد من مخاطر هذا الوضع حتى تكللت مساعيهم بمولد اتحاد ضباط الشرطة المتقاعدين الذى شكل اطارا جديدا جامعا لهؤلاء الضباط ريثما يسود العدل والحق والانصاف
وقد ظلت هذه القضية تسعى على مدى عقد ونيف لدى حكومات الانقاذ باحثة عن الحق والعدل والانصاف الا ان ضمير السلطات المسئولة ظل غائبا تماما عن الاحساس بهذه الظلم الى ان اقر رئيس الجمهورية امام حشد جماهيرى بالظلم الذى صاحب اجراءات الفصل هذه ولكن استجابة جهازه التنفيذى كانت فى افضل الاحوال مجرد وعود اشبه بأعلان خجول لأبراء الذمة وليست وعودا جادة تسعى جاهدة لحلها الامر الذى ظل يراكم كثيرا من الغبن والغضب، وطيلة هذه الفترة نسيت او تناست ان الله يأمرنا اذا حكمنا بين الناس ان نحكم بالعدل ويأمرنا برد الحقوق الى اهلها ولكن تعاطيها مع هذه القضية انزلق بها الى راعية متفانية للظلم
هذا ما تبدو عليه قضية ضباط الشرطة المتقاعدين فى نظر الكثيرين ولكن هنالك وجه آخر للظلم الذى وقع عليهم كان اكثر بشاعة من اجراءات الفصل التى تمت ، تضرر منه هؤلاء الضباط اضافة للضباط الذين تقاعدوا وفقا لأجراءات طبيعية كبلوغ السن القانونية للتقاعد او الذين تقاعدوا وفقا لأستقالة طوعية (خلو طرف) او لأسباب صحية تتعلق بشرط اللياقة الطبية او وفقا لأجراءات ادارية اقتضاها القانون، فجميع هؤلاء الضباط واجهوا اجراءات شكلت فى مجملها اسوا انواع التمييز واعنى بها اجراءات فوائد ما بعد الخدمة
وكمثال لذلك فأننا اذا تناولنا حالة اربعة مجموعات من الضباط المتقاعدين فى رتبة المقدم شرطة وتصادف ان تأخرت اجراءات تسوية معاشاتهم الى العام 2005وكانت مؤهلاتهم العلمية ومدة خدمتهم وآخر فئة مرتب تقاضوها عند التقاعد متطابقة تماما الا ان تاريخ تقاعد المجموعة الاولى كان فى العام 1989 والثانية فى العام 1992والثالثة فى العام 1995والرابعة فى العام2005فعند تسوية معاشات هذه المجموعات المتطابقة فى كل شىء نجد ان مستحقات كل منهم تتفاوت بنسب جائرة تعكس ارقامها ان حقوق هؤلاء الضباط فى فوائد ما بعد الخدمة تحولت من حقوق اصيلة بنص القانون الى عطية مزيّن محمية بنص القانون
والسؤال الذى يفرض نفسه : ما هى المعايير الفنية والاخلاقية التى دفعت حكومات الانقاذ للتعامل مع قانون معاشات ضباط الشرطة بنهج انتج هذا التمييز السافر والظالم والمشين ؟ واذا سلمنا ان هذا التمييز السافر والظالم والمشين احد موروثات زمن الانقاذ الاغبر فما هى المعايير الاخلاقية التى دفعت حكوماتها اللاحقة والقائمة الآن للسكوت عنه حتى الآن؟
فى تقديرى واذا احسن المرء الظن بحكومات الانقاذ بأعتبار انها قامت باصدار تعديلات العام 1992 وقانون 1994 والتعديلات اللاحقة فى محاولة منها لتحسين الوضع المعاشى لضباط الشرطة الا ان المرء لا يملك ان يقول سوى انها اتبعت منهجا معتلا ومضطربا ومفتقدا لأى كفاءة فنية لذلك لم تنجح كافة هذه المحاولات فى بناء نظام معاشى عادل ومستقر لضباط الشرطة وكان سبب ذلك فى تقديرى انه منهج جهل او تجاهل ان الاسس التى تحكم وتحدد فوائد ما بعد الخدمة تستند على اربعة عوامل ذات قيمة مادية ثابتة فقيمة المؤهل العلمى ومجمل سنوات الخدمة والرتبة وفئة مرتب الرتبة فى العام ا1989 هى ذات القيمة فى العام ا2005 ولكن هذا المنهج رهن قيمتها المادية الثابتة لقيمتها النقدية فى تأريخ التقاعد وبالتالى اصبح تاريخ التقاعد هو المحدد الاساسى لقيمة فوائد ما بعد الخدمة فى حين ان وظيفته الاساسية هى تحديد مجمل سنوات الخدمة التى تعتبر العامل الرئيس فى تحديد قيمة هذه الفوائد وعلى هذا الاساس اصبحت فوائد ما بعد الخدمة التى كانت تحدد قيمتها وتدفع بموجب القانون مقابل الخدمة التى اداها الضابط لحكومة السودان اصبحت قيمة هذه الخدمة محددة بتأريخ التقاعد فالقيمة النقدية قيمة متحركة لأن المرتب الذى يعتبر احد العوامل الاساسية فى تحيد قيمة التسوية يتحرك متصاعدا بين حين وآخر لمقابلة تكاليف المعيشة لذلك لزم عند زيادة المرتبات ان تتبعها زيادة فى المعاشات بذات النسبة واكثر ما يدعو للغرابة هنا ان ثمة حالات تمت تسويتها على نطاق ضيق وفقا لهذا الاجراء الصحيح فلماذا حرم الضباط المتقاعدون من هذا الحق عند تعديلات 1992 وقانون 1994 والتعديلات اللاحقة ؟
اما السؤال الذى يبدو اكثر اهمية واكثر الحاحا هو: هل من الممكن ان تجد هذه القضية اذنا صاغية وعينا ساهرة وايد امينة قادرة على رفع هذا الظلم فالله قد حرم الظلم على نفسه ولا يرضاه لخلقه ؟

الخميس، 5 أغسطس 2010

حضارة غريقة تحت الماء


                       لعل المهتمين بالحضارة النوبية لاحظوا  ان معظم مواقعها من الشمال فى مصر الى الجنوب فى السودان اصبحت غارقة تحت المياه ، فمنذ بناء خزان اسوان اولا ثم السد العالى ثانيا ورغم الحملة العالمية التى قادتها اليونسكو لأنقاذ آثار النوبة الا ان جزءا كبيرا وحميما من هذه الحضارة اصبح حبيسا تحت مياه هذين السدين .

                      اما فى السودان فأن بناء خزان جبل اولياء العقيم ( بدون مشاريع زراعية او كهربائية ) اصبح مصدر تساؤل كبير عن جدواه فى هذه المنطقة التى يعود اسمها الى قرون بعيدة  ، بل يرى بعض المهتمين بتأريخ الاديان ، ان رحلة نبى الله وسيدنا موسى عليه السلام مع سيدنا الخضر ، كانت محطتها الاخيرة جبل اولياء ، فالخزان فى هذه المنطقة فيما يبدو لى ، يقوم بذات الوظيفة التى قام بها خزان اسوان من قبل والسد العالى لاحقا ، وهى غمر مواقع الحضارة النوبية بالمياه .

                   وشهدنا خلال هذا العقد الجدل الذى صاحب بناء سد مروى والذى لم تنته فصوله بعد ، ولكنه لم يتناول من قريب او بعيد اثره على احد اهم مراكز الحضارة النوبية ، وهو مركز حضارة مروى التى كانت من الاهمية بمكان ، ان خصص لها مؤتمر عالمى يأتيه العلماء المختصون فى كل ما يتعلق بالآثار والتاريخ وغيرهما ، عرف بمؤتمر روما لدراسة الحضارة المروية ، والذى ظل يعقد كل اربع سنوات الى ان انقطع عن الانعقاد مثلما انقطعت نتائج ابحاثه بشكل يدعو الى التساؤل ، عما اذا كانت خلاصة ابحاثه التوصية باقامة سد مروى ، ليبدأ حلقة جديدة فى مشروع دفن الحضارة النوبية تحت المياه فى مواقعها بالسودان ؟

                  ومع تقديرى لضرورة سد مروى و السدود المزمع بناؤها على هذا الخط ، واهميتها لحياة السودانيين خاصة مع ارهاصات حرب المياه العذبة القادمة ، الا ان مثل هذه المشاريع تقتضى الضرورة ان تسبقها حفريات آثارية مكثفة ، مصحوبة بعون فنى خارجى تحت رعاية اليونسكو ، والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة: هل تمت تغطية منطقة سد مروى ومناطق السدود المزمع بناؤها بمسح آثارى شامل وما هى نتائج هذا المسح ؟

                لكن السؤال الاهم والاكثر اثارة هو : ما الذى يخشاه العالم من هذه الحضارة حتى يسعى جاهدا لدفنها تحت المياه ؟
لا املك اجابة ولكن يبدو لى ان ان ثمة تعالى عرقى فى هذا العالم ، ينكر على الآخرين قدرتهم على صنع حضارة امتدت آثارها عبر القرون ، وستمتد الى الابد ، فالحهل ما زال يغطى مساحات واسعة من عقل الانسان .

الأربعاء، 4 أغسطس 2010

الحرية من اجل الدين



  1. يتعرض الاسلام هذه الايام الى اكبر حملة تفتيش لم يشهدها دين من قبل ، ربما بسبب صعود حركات الاسلام السياسى لمسرح الاحداث بتنظيماتهم السياسية والعسكرية التى بهرت الكثيرين واحدثت انقلابا تصادم مع اوجه كثيرة فى حياة الناس ، واثّر على مجرى نشاطهم الداخلى والاقليمى والدولى ، وربما بسبب النشاط العنيف الذى تتبعه بعض الفصائل ( الاسلامية ) والتى تطال بعنفها حتى الابرياء خارج دائرة الصراع ، وخلّفت بأفعالها هذه مشاهدا مؤذية للمشاعر الانسانية ، وربما لأسباب اخرى لم يدركها الوعى بعد ، المهم ان ثمّة حملة تفتيش تجرى بمنهجية عالية ، ويقف خلفها مسلمون ومنتمون الى ديانات مختلفة وآخرون بلا دين ، وجميعهم محترفون بارعون فى البحث والتنقيب والتمحيص والاستنتاج وفى سبيل الوصول الى حقائق بعينها ، او التأكد من فرضيات شغلت الاذهان فى زماننا هذا وفى ازمنة سابقة ، لا يتورعون عن تفكيك النص الدينى بمنهج لا يتوقف عند حدود النص وانما يتوغل الى حدود لا تراعى قداسة لأى شىْ ، مستندين فى ذلك على مراجع من امهات كتب التراث الاسلامى والكتب المقدسة ، وتمتد حتى نتائج الحفريات الآثارية ، ثم ينشرون ما توصلوا اليه على فضاء الانترنت الواسع والحر والخالى من اى رقابة .
  2. والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة : كيف يواجه المسلمون هذه الحملة فى ظل ما هو متاح الآن من فضاء ضيق وخانق لحرية البحث العلمى والرأى والتعبير ؟

الأحد، 1 أغسطس 2010

امريكى ام اوروبى ؟

هل يتجه العالم الى قطبية ثنائية جديدة ؟
تبدو الاجابة على هذا السؤال غاية فى الصعوبة والتعقيد لتشابك وتلاقى مصالح الدول العظمى مع بعضها البعض فى عدة منحنيات فى مجرى نشاطها الكونى ولكن فى ظل تنافسها المحموم على الموارد ثمة اشارات تشى بأرهاصات تشكيل ثنائية قطبية جديدة فى عالمنا اليوم نجدها مختبئة داخل ملفات النزاعات الساخنة بدءا من القضية الفلسطينية و لبنان مرورا بالملف النووى الايرانى والصومال وقضية دارفور ونزاعات اخرى افريقية وآسيوية لا يخفى على المراقب دور بعض الدول الاوروبية وعلى رأسها فرنسا المتصادم مع الدور الامريكى عند تعاطيهم مع هذه الملفات بالقدر الذى احدث انقساما ليس داخل المؤسسات الاممية فحسب وانما داخل النخب الحاكمة لهذه الشعوب فكل طرف اتى بآليات لم تتوانى فى استدعاء وحشد واستخدام كل العناصر التى من شأنها ان تعزز موقفه فى مواجهة الآخر بدءا من التاريخ والجغرافيا والدين والعرق وانتهاءا بالمحاكم الجنائية والعدلية ودفعوا بها الى ايدى الأطراف المتصارعة داخل تلك الدول ونتيجة لذلك اصبحت الشعوب محل هذه الملفات الساخنة موعودة بقيامة اشبه بما يجرى الآن فى العراق والصومال وافغانستان وباكستان وما جرى فى كينيا وزيمبابوى وكوسوفو ومناطق اخرى من العالم ويبدو لى اننا سنشهد قريبا اختزال كل عناصر الصراع فى سؤال وحيد ( امريكى ام اوروبى ؟) ليتحدد على ضوء اجابتك حياتك من موتك

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...