الاثنين، 30 ديسمبر 2013

الغسل بالكلمات


                          (سأعلّق السنة الجديدة من اقدامها على حبل غسيل وانتظرها حتى تجف من بلل الماضى) هذه كلمات القاص و الشاعر اللبنانى الجميل باسكال عساف ، بنفسه يريد ان يصنع سنته القادمة نظيفة كصحراء الربع الخالى ، نظيفة كدواخله ، تعجبنى هذه الارادة الممتلئة بالتفاؤل والعزيمة ، ويخيفنى بشدة الانتظار طوال الوقت الذى تحتاجه السنة القادمة لتجف فيه من بلل الماضى ، فالانتظار هنا ذاكرة تفتح نوافذها على جراحات نازفة تحتاج الى بحر ليغسلها ، والى ملح يعصر عويلها الذى كان يسلمّك كل ليلة الى ليل مجنون ، فالانتظار هنا يعنى الجلوس على جرح والبلل عويل طويل من نزيفه الحارق ، ولكنها فى الآخر ستجف وستخرج بيضاء ككف موسى عليه السلام ، لم تكن حالما ابدا ايها الشاعر الجميل وانت تنظر الى سنتنا القادمة ، الآن انظر من خلال عينيك وارى كم العوالق المتراكمة فى نفوس الكثيرين ، العوالق التى تبنى داخلهم منفى موحشا لن يروا العمر فيه سوى عام جاف ممتد بلا نهاية ، نفوس تحتاج ان تغطس فى  محيط وبحر لتغتسل منها ، تحتاج لكل الملح فيهما ليتغلغل داخل كل الجراح ليوقظها من شرودها داخل هذا الموات المقيم .

                           فكرة ان العمر عام جاف ممتد بلانهاية ، فكرة حية لدى الملايين فى اوطان العذاب ، يعمل الشعراء فيها جهدهم لغسلها رأس كل عام ، ينجحون حينا وياخذهم الواقع المر احيانا كثيرة الى تغذيتها بعوالق جديدة تزيد منفى النفس اتساعا :
( اردت ان اطلب شيئا من العام الجديد كما يطلب الاصدقاء :
ما اريده من الوقت السريع هذا هو ان يلتصق 2014 فى جاره القريب 2015 وادخل مباشرة فى ال 16 فيكون لا بأس به ويطول قليلا .. ولكنى اخاف ان ادخله فعلا فلا اعمل عملا حتى يطل علىّ احد الاصدقاء ويقول : عام سعيد علىّ وان شاء الله يكون 2017 افضل مما سبقه ) هذه كلمات الشاعر الجزائرى على بهنس ، ولن اجانب الصواب ان فلت انها كلمات الكثيرين فى اوطان العذاب ، كلمات لن تجعل سنتك القادمة كما تريد ولكنها تعزيك فى مصابك بها ، وتقول لك لست وحدك ، ما يحبسك فى الجدب هناك يحبسنى فى الجدب هنا ، و القدر الضئيل من التحريض فيها هو ما يبقى جذوة الامل حية فيك ويمنعك الاستسلام وان اضطررت الى الارتماء  فى احضان الحلم .

                            غدا اول السنة الجديدة ، لن اسمح لشىء ايّا كان ان يفسد علىّ سنتى الجديدة ، لا الحكومات الفاسدة التى تنتزع حقوق و احلام وتطلعات الشعوب وتمنحهم بدلا عنها صدمات متتالية تشج الرأس بحيث لا يعرفون معها رأس السنة من اقدامها ، ولا غيلان المجتمعات المتباهية بحفلاتها الزاهية المدفوعة القيمة سرا من قسمة الثروة والسلطة الظالمة ، ولا اسواق الظلام المخادعة التى تحاول ان تسرق ما فى جيبى بما تروجه من احتفالات زائفة ، لن ادعهم يستأثرون وحدهم بالجمال المتدفق على هذا الكون البديع ، سأوقد شمعتى اينما كنت ، مع اسرتى الصغيرة ، او وحدى فى غرفة منعزلة ، او امام باب بيتى ، او حتى فى مكان العمل ، واقول لأجمل خلق الله ، اولئك الذين يصنعون الفرح بكلمة او اغنية او لوحة او نغم يهدهد متعبى الحياة قبل النوم ، اقول لهم : كل سنة وانتم طيبون ، العالم بكم يظل جميلا ، العالم اجمل لأن خالقه جميل يحب الجمال ، سأوقد شمعتى واحتفل بسنة جديدة سعيدة ، وكل سنة وانتم طيبون .
                           

الجمعة، 27 ديسمبر 2013

حنايا الكون


                       واسعة هذه النفس البشرية ، واسعة بقدر اتساع الكون ، تستطيع وهى متكئة على عنقريب فى غرفة طينية صغيرة ، ارضيتها مفروشة برمل ناعم ، تستطيع وهى تتفقد بيوت النمل المنتشرة عليها مثل شامات على الوجه ، تستطيع ان تنتقل مع الأسئلة اليومية عن الخلق و المتنقلة على مدار اللحظة ما بين العقل والقلب ، تستطيع ان تنتقل الى عوالم مزدحمة بالجمال وتموج بالحركة ، عوالم تحيا بقربك ولكنك لا تعيرها التفاتة لضيق فى النفس او ضيق فى القلب او ضيق فى العقل ، او ببساطة لأنك بعيد عن الله .

                        التيجانى يوسف بشير اكتشف سر القرب من الله ، القرب الذى يفتح ابوابه على عوالم متسعة بالجمال وينقلك اليها اينما كنت :
                                       
                                             الوجود الحق ما اوسع فى النفس مداه
                                             والسكون المحض ما اوثق بالروح عراه
                                             كل ما فى الكون يمشى فى حناياه الأله
                                             هذه النملة فى رقتها رجع صداه
                                             هو يحيا فى حواشيها وتحيا فى ثراه
                                             وهى ان اسلمت الروح تلقتها يداه
                                             لم تمت فيها حياة الله ان كنت تراه

                         كل المكان حولك ما هو الا عرش للرحمن ، فأن لم تره فهو يراك ، لا تلفظه ولا تفسده ، اقترب منه وتأمل ، سيدهشك الجمال المختبىء فيه ، وستجد ان نفسك فى ظله تغتسل وتتطهر رويدا رويدا من عوالقها ، وستجد نفسك قريبا من الله ، وعندها ستندفع الى عشق الهى لكل خلقه حتى لو اتجه هذا العشق بكلياته الى احد مخلوقاته ، حتى لو اتجه هذا العشق الى الآخر الذى تتحاشاه  :

                                              آمنت بالحسن بردا وبالصبابة نارا
                                              وبالكنيسة عقدا منضدا من عذارى
                                              وبالمسيح ومن طاف حوله واستجار
                                              ايمان من يعبد الحسن فى عيون النصارى
                                     
                        لقد اقترب التيجانى كثيرا من الله حتى رأى اثر الله فى تلك الحنايا المنتشرة فى هذا الكون الواسع ، ونظر الى هذا الاثر ( نظرة كالصلاة  .. زلفى الى الله وقربى الى عزه واقتداره ) ، انظر الان حولك وتقرّب الى الله بعشقك لخلقه .
                       

الاثنين، 23 ديسمبر 2013

لغة النوبة هذّبت العالم


                        النوبيون معجزة البشرية على مر العصور ، ليس لأنهم أول من بنى الاهرامات ، ولا لأنهم أول من اهتم بالفضاء ، ولا لأنهم أول من ابتدع الكتابة ، ولا لأنهم اول .. واول.. واول الى آخر ما اسفرت عنه الحفريات والبحوث التى تناولت هذا التأريخ المجيد المبدع الخلاّق ، ولكن لأنهم لا يزالون يتحدثون اللغة التى تحدث بها من قبل نبى الله وسيدنا نوح عليه السلام ، ولأنهم لا يزالون يتحدثون بذات اللغة التى كتب بها نبى الله وسيدنا موسى عليه السلام على الألواح والصحف .

                         كل الأنبياء كانوا هنا ومروا من هنا ، وعرفوا هذه اللغة التى ابدعت فى تهذيب البشر ، فترجموها الى اكثر من لغة واكثر من كتاب ، هذه اللغة ، هى النافذة الأولى التى نظر عبرها ملايين الملايين من البشر الى السماء ، الى حيث الجمال الخالد ، الى النور الذى يضىء ظلمة الاكوان ، الى رب العزة والجلالة ، الى الله ارحم الراحمين ، هى النافذة الاولى التى نقلت البشرية الى ثقافتها السائدة اليوم .

                          هذه اللغة تنطوى على سر اولى الحضارات واعظم الحضارات ، ولا يزال العالم المستنير ، يبحث ويحفر ويبحث ثانية لمعرفة اسرارها ، لمعرفة سر ذلك العقل النوبى الذى واجه وحشة الحياة الاولى وانتصر عليها بالخلق والابداع ، ابنية عظيمة وصناعات حجرية وخشبية وحديدية وزجاجية وغيرها ، معامل لعبت فيها الكيمياء اعظم ادوارها فى حفظ الجسد ، وفى ابداعات اللون ، وفى السموم ايضا ، انها اللغة الاولى التى  اسسّت قواعد العلم .

                           هذه اللغة هى الاولى التى طهرّت النفس البشرية من امراضها ، ولولاها لكان الجنون اليوم سيّد البشر ، وهى التى دفعت (بيّا) او بعانخى العظيم ان يغزو قوما لتجويعهم الجياد ، وهى التى ابتدعت مائدة الشمس حتى لا يصبح الجوع ابتزازا واستغلالا وقهرا للأنسان .

                            هذه اللغة لا يخشاها الا اولئك الذين سرقوا جهد اسلافنا النوبة ونسبوه الى انفسهم ، لا يخشاها الا اولئك الذين انكروا على اسلافنا انهم سادة ثقافتهم الراهنة واساس علمهم الذى يبحث الآن فى اغوار الفضاء ، لا يخشاها الا اولئك الذين ظلوا على مدى قرن من الزمان يدفنون مواقعها تحت المياه ، فأكتبوها الآن الى ان تعثروا على حروفها الاولى . 

السبت، 21 ديسمبر 2013

مأوى جرحى الروح


                         الرصيف ثقب ارضى ابيض ، يجذب جرحى الروح الى عالم من فراغ ، او هكذا نراه عالما من فراغ ، مثلما نرى على رصيف شارع النيل وحيدا جالسا على كنبة من اسمنت وخشب ، نراه تمثالا يحدق فى الفراغ القائم بين الماء والسماء ، يحدق طويلا طويلا كأنه يفرغ فيه حملا ثقيلا ادمى روحه ، اى مدخل على هذا الثقب سيفضى بك الى فضاء مزدحم بالألم والعذاب ، سيفضى بك الى انسانية تتجرح فى اللحظة آلاف المرات جراء عالم متوحش ، يدوس وهو يركض نحو الخراب النهائى على اجمل وانبل خلق الله ، فلا مفر سوى الهروب منه الى الارصفة ، لا يهم ان كانت ارصفة على ضفاف النيل او امام البنايات العالية ، المهم ان يكونوا خارج مدى نظر هؤلاء البشر المسكونين بالوحوش .

                          فى البنايات العالية وحينما يموت احد المقيمين على ارصفتها او يعجز عن النهوض صباحا ، لا يطلب سكانها - بشر من جلدة اسمنتية مطابقة لمواصفات البناء - لا يطلبون الاسعاف وانما يهاتفون مسئول البلدية مستفسرين عن اسباب تأخر عربة نفاياتهم هذا الصباح ، ويبدون تاففهم من كومة الخرق المرمية على رصيفها ، ويا حزنى على الخرق المرمية على الرصيف ، على الوجع الانسانى المرمى على الرصيف ، على الجمال المحبوس فى وجدان الخرق المرمية على الرصيف ، والجمال المتدفق من اصابعها احرفا وانغاما والوانا تسر الناظرين .

                            الرصيف قبر ارضى حى ، اشهد ان الانسان الحق ينام تحت الخرق المتناثرة عليه ، وان الانسان الظل يمر عليه كمروره على اللاشىء ، فأرقدوا بسلام آمنين ، الاحياء منكم والاموات .

                            الى روح السابقين لبهنس واللاحقين له اذا وسعتهم الارصفة 

الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

قبل ان تصل القبيلة


                       لو كانت الامنيات تجدى ، لتمنيت ان تسيطر حكومة الجنوب على الاوضاع فى هذه اللحظة ، لا لشىء الا لكى لا تنتقل هذه الصراعات الى القبيلة ، وما يثير القلق فعلا ان بوادر هذا الانتقال تبدوقائمة فى انقسام الحرس الرئاسى الذى يخشى ان يتمدد عموديا داخل الجيش ثم ينتشر بين القبائل ، وفى هذا الافق المزدحم والمنذر بفوضى قاتلة ، تتردد انباء عن احتلال بور من قبل قوات ينتمون الى قبيلة النوير ، ولأن بور هى عاصمة القسم الثانى من قبيلة الدينكا ، فيبدو اننا على موعد مع داحس وغبراء جنوبية ، ثم يضيف توجيه الحكومة الامريكية لرعاياها مغادرة جوبا فورا ، ترقبا قلقا للقادم من الدماء المراقة ، ليختتم الامين العام للأمم المتحدة هذا المشهد المأساوى بمخاوفه عن اقتراب الجنوب من الانزلاق فى حرب اهلية .

                        لو كنا فى روما القديمة ، سنصف هذا المشهد الذى يحيط بأرض الجنوب الآن ، بأن هذه الارض تستعد لأستقبال اله القتل والدمار ، ومتى حلّ هناك فستصبح كل من الحكومة فى جوبا والمعارضة لعبتين دمويتين فى يده ، وسترتوى يده العطشى دوما للدماء وللحريق بأبرياءالجنوب ، بغابات الجنوب ، ببلدات الجنوب ، وسيترك فى كل مكان احرقه واباد اهله تذكارا ، مرة بوجه سلفا كير ومرة بوجه رياك مشار ، وسيختم جولة دماره وقتله بعبارة صغيرة تقول : كانت هنا دولة .

                        الجنوب الآن يقف عاريا يتربص به وحش قاتل ، اتمنى ان يعى ابناؤه ما ينتظره ويعملوا جميعا على ستره .

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013

لنحرق هذه الحقائب


                      موانى الدخول فى الدول الافريقية ، تبدو معابرا سهلة  لأسلحة خطرة ، اسلحة لا تطلق الرصاص ولا الغازات القاتلة ، اسلحة ورقية شديدة الخطر ، محمولة على حقائب انيقة بأقفال عالية التقنية ، وموصولة باقمار اصطناعية ترشدها الى مكاتب او منازل او فنادق يتواجد بها مسئول افريقى و توقيع معتمد و ختم ، هذه الحقائب الملأى باليورو والدولار ، هى التى اشعلت الحروب فى معظم بلدان افريقيا .

                        الحرب فى افريقيا تكون بدايتها فى هذه الاماكن ، تفرغ الحقائب محتوياتها من اليورو او الدولار وتضع مكانها شهادة بحث بارض تقاس مساحتها بخطوط الطول والعرض ، ارض كل الكنوز التى فى باطنها سر محفوظ فى قرص صلب داخل قمر اصطناعى ، هذا القمر الساحر الذى يعلم بدقة متناهية ، حجم النفط داخلها وعمره الانتاجى ، ويعلم حجم المعدن داخلها وعمره الانتاجى ، ويعلم مدى خصوبتها وحجم انتاجها ، ويعلم ان الحقيبة الملأى باليورو او الدولار التى استحوزت عليها ، ستفرغ نفسها اولا هناك فى بنوكهم ،  وستفرخ لاحقا الآلاف امثالها ، وستجعل الحياة هناك فى اوروبا او امريكا او فى بلاد اللاعبين الجدد اكثر رفاهية .

                         اما هنا فى ارض افريقيا الغنية ، فلن تخلّف هذه الحقائب سوى الاحتراب ، لن تخلّف سوى اسراب الذباب الملتفة حول الجثث الملقاة على ضفاف الانهار بدلا من قناديل الذرة والقمح ، لن تخلّف سوى الجهل والجوع والمرض والغبائن ، اما هنا فى ارض افريقيا الغنية ستسخر هذه الحقائب من آبائها الذين قدموا ارواحهم ودماءهم لتكون هذه الارض حرة ويكون خيرها لأبنائها ، وستمد لسانها عليهم قائلة : نحن ابناء المستعمرين تخلصنا من المسئولية الاخلاقية التى الزمت اباءنا ان يبنوا لكم مدارسا ومستشفيات وخطوط سكك حديدية الى آخر ما انجزوهوا لكم مقابل ما اخذوه من ثروات ، نحن ابناء المستعمرين نأخذ ما نريد من ثروات متكئين على اخلاق ابنائكم التى تساويها هذه الحقيبة الصغيرة .
                    
                          هذه الحقائب التى قتلت الملايين فى افريقيا ، هذه الحقائب التى سرقت حلمنا ، هذه الحقائب التى احاطتنا دوما بالرعب من بعضنا البعض وبالكراهية لبعضنا البعض ، يجب ان تحرق على الملأ ، يجب على افريقيا ان تقيم فى كل ميناء دخول محرقة لهذه الحقائب ، لقد اعادتنا عبيدا داخل اسوار بلادنا ، فلنحرق هذه الحقائب .

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

فى البدء كانت صرخة


                      الصرخة الاولى التى واجهنا بها الحياة ، هل كانت استغاثة ؟ ام كانت تعبيرا عن الألم ؟ كم عدد المرات التى صرخنا فيها طيلة مسار حياتنا ؟ وكم عدد المرات التى وجدنا فيها استجابة رؤوم كتلك التى وجدناها لحظة الميلاد وعلّقتنا على ثدى بدأ عطاءه على الفور من اجل بقائنا فى الحياة ، كأن بينه وبيننا عشرة طويلة ؟ لا ابحث عن اجابات هنا بقدر ما اسعى للتأمل فى عالم الصرخة ، اذ كثيرا ما تراودنى فكرة ان رائعة الطيب صالح (عرس الزين) مصدرها صرخة ، صرخة خرجت عفوا فى زمن ما من مكان ما واضاءت مخبأ امرأة جميلة فى مجتمع محافظ ، فرأى فيها اداة لتحرير ظلمة تلك المخابىء المنتشرة فى المجتمع ، لتجىء رواية (عرس الزين) محمولة على هذه الصرخة .

                      ترى من اى نواح النفس تخرج هذه الصرخة المتعددة النبرات والاهداف ؟ تصرخ لتستغيث ، وتصرخ تعبيرا عن الجزع ، وتصرخ تعبيرا عن الألم ، وتصرخ تعبيرا عن الفرح ، وتصرخ ضجرا من الحياة ، ولكنها فى عمومها تبدو لى تعبيرا عن ضعف انسانى ، او نداء لأحتياج عاجل لدعم او لمواساة او لمشاركة ، بل تبدو اعترافا قاطعا بأنك لن تستطيع وحدك ان تواجه هذه الحياة والا صارت حياتك صرخة متواصلة .

                       انظر حولى وارى انفسا تكتم داخلها صراخا مؤلما ، تكاد ترى نزيفه على وجوههم ، وأسأل ما الذى يخشونه اذا ملأوا الدنيا صراخا ؟ ما الذى يمنعهم من التعبير عما بداخلهم ليشاركهم الآخرون فيه ؟ لماذا يخشون الآخرين ؟

                        للكاتمين الصرخة ثمة حبل انسانى يربط البشر بعضهم البعض فمتى اهتز لصراخك اهتز معه آخرون فى جميع انحاء هذا العالم ، فأصرخ لتختبر هذا العطف الانسانى ، واصرخ لتشيعه بين الناس .   

الأحد، 15 ديسمبر 2013

انى اعتزر فهل تصالح ؟


                      حبى لشعبى السودانى بلا حدود ، فهو احدّ الشعوب ذكاءا ، لا كما تشيع الاستطلاعات المضللة التى تختبىء وراءها اجندة تستدهفنا فى وجودنا وثرواتنا ، احبه لأنه علّمنا منذ زمان بعيد ان العقل هو عصمتنا عند المكائد ، تماما كالصبر عند الشدائد ، انظر الى هذا المثل الرائع الذى يقول (الأضينة دقوا واعتزر ليهو) ما اجمل هذا التحريض الذى يدفعك ان تنأى سريعا من تأثير ثقافة الاعتزار على ما فيها من نبل ورقى انسانى حتى لا تكون (اضينة) ، ولكنه تحريض ضد اولئك الذين يتخذون من الاعتزار مطية لتبرير افعالهم المتعمدة التى الحقت الكثير من الاذى بالناس من اجل مصالح ضيقة ، وضد اولئك الذين يلجأون الى الاعتزار بعد ان يكونوا قد فقدوا القدرة على اصلاح الاذى الذى الحقوه بغيرهم ، غنى يا (وردى) غنى ( اعتزارك مابفيدك ..ودموعك ما بتعيدك  العملتو كان بأيدك .. انا ما لى ذنب فيه ) قمة الطرب فى هذه الايام ان تستمع لراحلنا المقيم (وردى) وهو يصدح بأغنية (بعد ايه) .

                        ومع ذلك فأن التحية واجبة لمن اعتزر ، بدءا من السيد النائب الاول لرئيس الجمهورية سابقا ، مرورا بدكتور نافع على نافع الى آخر من طالته قائمة الاعتزار ومن ستطوله لاحقا ، التحية لهم لأنهم اكدوا لنا ان الجموع الغفيرة من ابناء الشعب السودانى التى نأت بنفسها عن مظلة سلطتهم رغم اغراءات السلطة وارهابها ، كانت على حق ، ان غالبية شعبى العظيم كانت على حق .

                         والتحية لهم ثانية لأنهم بأعتزارهم هذا اضاءوا لخلفهم حقيقة ما كانوا عليه من ظلام انتهكت فيه من حقوق الشعب السودانى الكثير ، واهدرت فيه من ارواح الشعب السودانى الكثير ، وان على خلفهم ان يرى حقيقة ان لهذا الشعب رؤوسا ملأى بأفكار نيّرة ومحبة لهذا الوطن واهله اجمعين وليست (قنابير) يسهل التلاعب بها .

                          ثقافتنا وديننا يقول لنا ان من يعفو ويصلح فأجره على الله ، واجر الله اعظم من كل ما تدفعه خزائن الارض ، ولكن العفو يشترط المقدرة والشعب السودانى فى اسوأ حالات الفقر والانهاك والغبن للدرجة التى لم يعد يرى فيها ما تم من انجازات هى بكل المقاييس تعتبر نقلة نوعية ، وللصلح استحقاقاته اولها هذا الاعتذار وآخرها رفع المظالم ورد الحقوق لأهلها وجبر اضرارها ، هذا هو الارث الثقيل الذى يواجه من يحكمون الآن وسيواجه من يحكمون لاحقا .

                           هذا الشعب حلمه بقدر اتساع ارضه ، وصيره بقدر اتساع ارضه ، وعنفوانه كعنفوان الطبيعة ، فهو يستحق ان ينعم فى هذه الارض بالأمن والسلام وان ينال نصيبه بعدل من خيراتها ، فاللهم اجعله بلدا آمنا وارزق اهله بالثمرات .

الخميس، 12 ديسمبر 2013

لا يسعها شىء


                     ما اسم ذلك الشاعر الانجليزى الذى قال مرة انه اذا اعياك عشق امرأة فحوّلها الى ادب ؟ اظنه (كيتس) ، يا له من رجل يستحق من العزاء مقدار حمى العشق التى انهكته واستهلكته حتى الموت ، وربما كانت حمى العشق هى التى اوهمته ان كل العاشقين يمتلكون مثله ذلك الألهام الذى استطاع به ان يكتشف حبال الوصل الممتدة بين جمال الطبيعة وجمال المرأة التى عشقها حتى الموت ، للدرجة التى يعجز معها ان يفرز عما اذا كان الجمال الجالس معه هو امرأته ام مرج مزدحم بزهر وورد بألف لون وألف عطر ، ثم يهرب منه محموما ويصيغه شعرا يثبت ان وراء كل شعر جميل امرأة ، ثم يصير الشعر الذى صاغه ضلعا ثالثا فى هذا المثلث المتساوى الجمال .

                      (حوّلها الى ادب) هى قاعدة ليست بالضرورة ان تكون شعرا او قصة او رواية او نثرا مرسلا الى ما لانهاية فى عالم العشق ، فلوحة منسية فى غرفة رجل منسى يعيش فى حى منسى ، تحكى خطوط اللون فيها وتلك الاضواء التى تسطع فجأة بينها ، تحكى ايضا قصة عشق مشتعلة بالحمى ، او مقطوعة موسيقية تتسلل الى خلاياك مثل تيار كهربائى خفيف كذلك الذى تحسّه لحظة اقترابك من لقيا حبيبة ، فهذه الموسيقى التى تاتيك من فضاء بعيد لا تعرفه ، تحكى ايضا قصة عشق ملتهبة بالحمى ، فكل ادب وفن يلامس دواخلك بدبيب ناعم من حمى ، فأعلم ان وراءه امرأة ، فحين تحسّه أرسل سلاما الى (كيتس) وقل له لا زالت الحمى مشتعلة .

                       ولكن ايها الشاعر النبيل ،  ماذا يفعل العاشقون مع امرأة لا يسعها الادب ولا الفن ، امرأة لا يسعها شىء ؟.

                    
جون كيتس

الاثنين، 9 ديسمبر 2013

عودة تيموثى عبد القيوم


                        تيموثى هو تيموثى ماكفاى ألامريكى الذى قام بتفجيرات اوكلاهوما فى 19 ابريل 1995 ، التفجيرات التى راح ضحيتها 168 ابن آدم ، وطيلة الفترة من 19 ابريل 1995 تاريخ تنفيذه لهذه التفجيرات وحتى تأريخ اعدامه فى 11 يونيو 2001 بذلت السلطات الامريكية جهودا مضنية ومغرية ليبدى شيئا من الندم على جريمته النكراء ، الا انه ظل ثابتا ومتمسكا بتلك الفكرة التى استولت عليه ودفعته دفعا لتنفيذ عملية التفجير ودفعته اخيرا الى قبره ، وتلك الفكرة ليست جديدة على البشر ، فكرة الانتقام من نظام قائم داخل دولة او فى المجتمع او حتى داخل مؤسسة عمل صغيرة ، فهى فكرة حيّة داخل النفس البشرية على مر العصور ، ليس فيها بحث عن بطولة وانما معنى للوجود ، ولو قدر لهذا النظام او ذاك داخل الدولة او داخل المجتمع او داخل مصنع صغير ان يسمع وسوساتها ليلا ونهارا ، لأعاد النظر فى مفاهيمه واساليبه التى يدير بها شئون البشر ، ولقام بأعادة تأسيسها على معايير عادلة وشفافة ، لا تهضم حقا ولا تهدر روحا وتبقى ابواب الامل مشرعة دوما ، حتى لا تتفاجأ يوما بتيموثى آخر .

                         اما عبد القيوم فهو بطل قصة بشرى الفاضل (حملة عبد القيوم الانتقامية) التى اتحفنا بها فى اواخر السبعينات او اوئل الثمانينات على ما اذكر ، فذات الفكرة التى استولت لا حقا على تيموثى ماكفاى كانت قد استولت على عبد القيوم السودانى الذى فعل (ببلدوزره) ما فعله لا حقا تيموثى من قتل وهدم ، الا ان عبد القيوم امتد انتقامه ليشمل نفسه المقهورة ايضا حتى لا يخلّف وراءه اثرا لهذه الحملة يقود اعداءه واعداء امثاله يوما لأكتشاف اسرارها ، اولئك الاعداء القابضون على مفاصل كل شىء والمصابون بالعمى والتبلد عن رؤية ما فعلته اياديهم باحتياجات الناس و ما ولّدته فيهم من آلام ، وآثر ان يختار لها فى الختام مهدا رفيقا رقيقا ، هو ذات الماء الذى حمله وهو جنينا فى بطن امه ، كأنما حياته وحياة امثاله ما هى سوى رحلة للأنتقام .

                          فللطاقم الحكومى الجديد ، ثمة خوف كبير يحيط الناس فى هذا البلد من عودة تيموثى عبد القيوم ، اذ كل الطرق الجاذبة لعودته تكون  عادة مغطاة بركام من الظلم والعوز والانتهاكات ، ازيلوا هذا الركام حتى ولو كلفكم الميزانية بأكملها ، فليس هنالك مشروع اعظم من تنمية البشر ، لتكن ميزانيتكم المقبلة موجهة لمشروع وحيد هو (رفع الظلم وجبر الضرر) .

الخميس، 5 ديسمبر 2013

مانديلا مات


                 



                         مانديلا مات

             اى اخدود عظيم سيسع هذا الرفات

الثلاثاء، 3 ديسمبر 2013

كسلا ام القبيلة ؟


                        ما يجرى من هجوم على البصات السفرية المتجهة الى كسلا ، لا يبدو لى حدثا محليا مرتبطا بموقف قبلى من السلطات ، ففى الصورة العامة تبدو كسلا والقبيلة هدفا مزدوجا من وراء الهجمات على البصات السفرية المتجهة اليها ، فمثل هذا الهجوم عند تصاعده يؤدى الى عزلة المدينة ونزوح سكانها اذا استحكمت هذه العزلة ، فمن هو المستفيد من موت هذه المدينة ؟

                          السلطات الامنية تعلم ان حدودنا الشرقية ظلت محل نشاط لجماعات مسلحة منذ امد بعيد ، ولكننا كعادتنا حاصرناه داخل مصطلحاتنا المحببة (شفتة ، مهربون ، تجار ممنوعات ) الى آخر تلك المسميات الهاربة من حقيقة تلك التشكيلات المسلحة واهدافها وما انجزته من مهام على مدى تلك العقود الطويلة من نشاطها المسلح على تلك المساحات من ارض الوطن ، فثمة مساحات تبدو فى ازدياد وتتجه الى التحرر من اى ظل رسمى كمقدمة للتحرر من اى ظل سيادى .

                           ولكى نتمكن من الرؤية الصحيحة لما يجرى فى كسلا ، علينا ان نصطحب التأريخ والجغرافيا معا ونضعهما تحت مجهر النظام الدولى الجديد ، فمعلوم ان كسلا كانت احد ميادين الحرب العالمية الثانية كمنطقة نزاع بين المستعمرين الايطاليين المحتلين لاثيوبيا واريتريا وبين بريطانيا المحتلة للسودان ، وثمة دماء ذكية اريقت على هذه الارض وارواح طاهرة ازهقت من اجلها وخلّفت وراءها ذكريات متخمة بالكثير ، لم تقتصر على البريطانيين والايطاليين فحسب وانما طالت السودانيين والاريتريين ايضا ، وهو تأريخ قريب تشهد عليه حتى اغنيات لا تزال حيّة ، فالمستعمرون تركوا فى كل ارض خرجوا منها بؤرا للنزاع ، ومهما طال سكونها تجدها تلوّح دائما بأنفجار ولو بعد حين ، وكسلا ليست استثناءا ، بل تبدو فى ظل النظام الدولى الجديد بؤرة محفّزة لخريطة جديدة ، خاصة اذا اخذنا فى الاعتبار هبة الطبيعة التى جعلت من اراضينا سهولا زراعية خصبة لم ينقطع عنها نظر جارتينا اثيوبيا واريتريا ، اللذين لم يكفا عن لعن الجغرافيا السياسية التى رسمها الاستعمار ومنحتهم جبالا بلا سهول ، فاى فعل مسلح على تلك المساحات لا يعدو الا ان يكون تعبيرا لتلك اللعنة سواء ان جاء بأرادة رسمية او ارادة شعبية .

                           ان اكثر ما يقلق المرء فى هذه الهجمات ، ليس الهجمات فى حد ذاتها ، وانما التوقيت ، فهو مؤشر الى تفكك تماسك الجبهة الداخلية التى اثخنتها الصراعات حول السلطة حتى باتت اشبه بالجزر المعزولة ، الى الحد الذى يشجع قبيلة ان تزج بأبنائها فى معترك اذا بلغ نجاحاته سيخرج كسلا من خريطة الوطن وسيخرج القبيلة نفسها من ارض كسلا ، فثمة معايير عرقية ودينية وثقافية جارية الان فى اكثر من بقعة فى العالم ، هى التى ستحدد الارض ومن يسكنها ، ولن نستطيع مواجهتها ونحن بهذا التشتت ، ولن نستطيع معه ان نصل الى اتفاقيات مع جارتينا يجعل من هذه السهول محل استثمارات مشتركة تغطى كثيرا من احتياجاتنا جميعا ونضمن بها امن وسلام واستقرار المنطقة . 

                           ان ما يجرى من هجوم على البصات المتجهة الى كسلا ، فعل يستهدف كسلا والقبيلة معا ، فهل يستيقظ اللاعبون المنفردون والمتكتلون والقابضون على السلطة والمتطلعون اليها ، هل يستيقظون من هذا الكابوس الدامى والمدمر الذى يخوضون فيه ، قبل ان يأتى عليهم يوم يجدون فيه انفسهم لا يستطيعون عبور نهر او جبل او سهل من ارض الوطن الا بتأشيرة دخول .
                            

اغنيات الشعب لا ترحل


                        من بطن حوارى منسية ، خرج ضياؤه اول مرة نجما فى سماء مصر ، ثم اتسع ليشع فى الأرض التى تتكلم عربى ، ولأن الارض التى تتكلم عربى ظلت ولا زالت فى حاجة الى أغنية او موال يخرج من اوجاعها ويعود اليها ثانية مواسيا ومشجعا ومحرضا ايضا ، لم تصدق ان كل الذى تحتاجه ، هو ان ترفع رأسها لترى نجما يغنى لها ، هكذا بدأ اوّل تعلقها بصوت انهكه حبه للأرض المزدحمة بالوجع والموجوعين :

                        الخط دا خطى             والكلمة دى لىّ
                        غطى الورق غطى        بالدمع يا عينىّ
                        شط الزتون شطى          والأرض عربية

                         احمد فؤاد نجم ، هو احمد الأغنية العربية الشعبية ، هو اغنيتى فى وجعى هنا واغنية لفلاح فى وجعه المعتاد فى حقل عنيد مقسط ، واغنية لعامل فى وجعه المستفحل مع حديد لا يعرف لغته ولا يرأف به ، انه اغنيتك اينما كنت مع وجعك الملازم .

                         اليوم رحل صاحب هذه الاغنية ، لكنّ صوته سيبقى يؤآنسنا ويغرد لأوجاعنا دوما ، رحل هذه المرة دون ان يمارس طقس عمره المعتاد فى الرحيل ، الطقس الذى علّمه كيف يراوغ خطوط المنع المفروضة على خطاويه ، على غنائه على كلامه :
       
                           منوع من السفر
                           ممنوع من الغنا
                           ممنوع من الكلام
                           ممنوع من الاشتياق
                          ممنوع من الاستياء
                          ممنوع من الابتسام
                          وكل يوم فى حبك تزيد الممنوعات
                          وكل يوم بحبك اكتر من اللى الفات
                    
                     اربعة وثمانون عاما علّمته وعلّمتنا ، ان السجن يستطيع ان يحجز الشاعر ويعزله عن الحياة ، لكنه لا يستطيع ان يحجز اغنياته ويعزلها عن الحياة ، وان المنافى وان بعدت لا تستطيع ان تمنع تواصل اغانيه مع الموجوعين فى المدن والارياف على ظهر هذه الارض الواسعة  ، فلأغنياته اجنحة سرية لا يحجزها شىء ، ولأغنياته مسارات سرية لا يعترضها شىء ، حتى ان الموت الذى يستطيع ان يغيبه فى تلك الحفرة التى تنتظر الجميع ، حتى الموت القادر على ذلك لا يستطيع ان يغيّب معه اغانيه ، فأغنيات الشعب لا تموت ولا ترحل .

                        رحم الله الشاعر احمد فؤاد نجم رحمة واسعة .

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...