الأربعاء، 25 أغسطس 2010

فى الحضارة النوبية



                  الحديث عن الحضارة النوبية ذو شجون ويأخذ المرء الى مواطن الحسرة حين يرى تردى حال الانسان السودانى اليوم مقارنة بما كان عليه حاله قبل الميلاد بآلاف السنين، فالذين زاروا اهرامات البجراوية لا شك اصابتهم الدهشة حين رأوا مجموعة القرويين الذين اعتادوا حمل الماء من النيل فى قربهم المصنوعة من جلود الماعز والضأن والابقار وهم على ظهور حميرهم  بينما على مقربة من طريق عودتهم الى بيوتهم تمكن الانسان النوبى  فبل الميلاد بآلاف السنين من ضخ مياه  النيل عبر انابيب  لتتدفق فى احواض غاية فى الابداع والجمال وتركها شهادة قائمة على مر التأريخ تحكى قصة ما بلغه  من علم ورقى  يبدو معه مشهد هؤلاء القرويين لوحة سريالية ترجع بهم الى عصور سحيقة فى التأريخ وتعود بالمكان عصرنا الحالى.
                يقول عالم الآثار الامريكى وليام ى آدمز فى سفره الرائع "النوبة رواق افريقيا" (اسرت ارض النوبة العليا النائية بحيوانها الغريب وسكانها ذوى البشرة الداكنة خيال الاغاريق والرومان الملتهب بالبطولة والمغامرة كما لم تفعل بالمصريين ابدا ، لقد كتب هومر نفسه " انهم اقسى امة واشد الرجال عدلا، المفضلون من الآلهة . ان اسمى المقيمين بالاولمب يرتحلون اليهم ويشاركون فى ولائمهم ، وقرابينهم هى الاغلب تقبلا من كل تلك الضحايا التى يستطيع البشر تقديمها لهم ." ويصفهم وليام ى آدمز نفسه (انهم بمحض وجودهم الخاص قوم رائعون يملكون تاريخا رائعا ) ويضيف ( بقيت وضعيتهم الفريدة بين العالمين الاسود والابيض مثابرة حتى الازمان الحديثة ) و يقول ( لقد رأينا من قبل ان هيرودوت واغلب معاصريه نظروا بلا تدقيق "لأثيوبيا" - يقصد النوبا- على انها منبع كل الحضارات. وحالما فتحت احاجى القدم المجال للتحرى العلمى لفترة ما قبل التاريخ بشكل او بآخر جنح الرأى المدروس بقوة. لقد لاءم مفهوم القرن العشرين للتفوق الاوروبى الاعتقاد بأن (القارة المظلمة) كانت دائما مقاومة لعملية التطور الارتقائى. الآن تبدأ الاكتشافات الرائعة للانسان الاول فى شرق وجنوب افريقيا فى تصويب وجهة النظر هذه المتمركزة عرقيا، وقد نهض اهتمام جديد فى فترة ما قبل التاريخ الافريقى كنتيجة لذلك. لقد بدأت تتراءى كأنما لم يكن القدماء على خطأ تام بغض النظر عن اى اعتبار آخر ) راجع الصفحات من 26 الى 42 من "النوبة رواق افريقيا" لوليم ى آدمز ترجمة وتقديم محجوب التجانى محمود الطبعة الثانية القاهرة 2005 .
              ويقول عالمنا الراحل المقيم د اسامة عبد الرحمن النور فى سفره الرائع"دراسات فى تاريخ السودان القديم" (كان هيرودوت هو المؤرخ الاغريقى الاول الذى حفظ لنا معلومات موثوقة الى حد ما عن السودان القديم.......وجسدت زيارة هيرودوت فى القرن الخامس فبل الميلاد نقطة تحول فى تدوين تاريخ السودان القديم وفى التاريخ المصرى على حد سواء.) وينقل لنا ( فى رأى ارسطو - 384-322ق.م .- تقع اثيوبيا (النوبة) فى نهاية الارض المسكونة ففيما وراء ذلك تستحيل الحياة بفعل الحرارة الحارقة.) ويخلص الى ان تصورات ارسطو عن السودان القديم اعتمدت على اعمال اب التاريخ هيرودوت لكن عرض ارسطو الجغرافى اكثر اتساعا، فهو يعرف الجبال والانهار فى تلك البلاد بخاصة الفروع الشرقية للنيل. ويعدد لنا المؤلفات التى عالجت تاريخ العالم القديم و تناولت تاريخ السودان القديم من خلال ملاحظات عابرة فى الفصول المكرسة لتاريخ مصر (تاريخ كمبردج القديم-تاريخ القدم ل ادوارد ميير-تاريخ العالم بيرن-ماسبيرو-التاريخ القديم لشعوب الشرق الكلاسيكى) وعد المصادر المتوفرة لتاريخ السودان فى النصف الاول للقرن التاسع عشر حوالى ستة مصادر على رأسها الكتاب المقدس .والكتاب المقدس اشار لمملكة كوش اشهر مملكة قامت على ارض النوبة فى سفر التكوين الاصحاح الثانى -(واسم النهر الثانى جيحون. وهو المحيط بجميع ارض كوش ) وينقل لنا وصف هوسكنس الذى قال فى جزيرة مروى ( منطقة كلاسيكسة معروفة تقريبا لكل قارىء بوصفها مهد الفنون والمدنية)ويتحدث عن بيوللر الذى  وضع الكتاب الوحيد الكامل المكرس فقط لتاريخ السودان القديم ونشر فى 1904 .

                  ولكن هذه الكتابات التى تناولت تاريخ السودان القديم او تاريخ النوبة بمملكاتهم العظيمة من (كرمة) الى (علوة) آخر الممالك النوبية المسيحية التى انهارت بعد الفتح العربى الاسلامى وخّربت عاصمتها (سوبا) عجيبة التاريخ السودانى او سره الغامض الذى بدأت احدى كشوفاته تعلو فى العلن على يد الشيخ العالم البروفيسور الشيخ حسن الشيخ الفاتح قريب الله فى سفره الرائع (السودان دار الهجرتين الاولى والثانية للصحابة ) كل هذه الكتابات على غزارتها وثراء معلوماتها  تبدو مجرد لمحات خاطفة مع تلك المتداولة فى نطاق ضيق بين صفوة الصفوة وتلك التى ما زالت حبيسة فى اضابير محكمة وتلك التى لا زالت فى طى الكتمان واخرى تبدو لى من المحرمات التى لا يجوز تناولها الا شفاهة وهمسا  فالمراجع والمصادر التى استند عليها اسامة عبد الرحمن النور غطت عناوينها عدد 120 صفحة علما بأن بعض هذه المراجع تتشكل من اكثر من خمسين مجلد والمراجع التى استند عليها  البروفيسور حسن الشيخ الفاتح بدءا من القرآن الكريم وكتب السيرة والتفاسير وعدد من امهات كتب التراث الاسلامى ومؤلفات فى تاريخ السودان لسودانيين واخرى اجنبية ومجموعة من المقالات والبحوث والدراسات المتفرقة ليثبت حقيقة ان ارض الهجرة الاولى كانت بمملكة علوة النوبية بالسودان وفى عاصمتها سوبا فكل هذا الكم الهائل من المراجع المنشورة وما احتوته من معلومات مؤكدة بآثار ما زالت قائمة على الارض السودانية واخرى متفرقة فى بلدان ومتاحف وجامعات وصالونات  حول العالم لم يشفع لهذه الحضارة ان تجد حضورها الواجب فى الوعى الانسانى رغم حضورها القائم فى الوجدان الانسانى قرونا عديدة .
             وبالرغم من ان هذه الحضارة حظيت بأهتمام وافر على المستوى الاكاديمى الذى ظل يقيم لها بين الحين والآخر مؤتمرات احتشدت بعلماء من جميع انحاء العالم درسوا ومحّصوا كثيرا من جوانبها الا ان مقرراتها لم تخرج من اطارها الاكاديمى لتصبح هى ونتائج البعثات الاثرية التى حفرت مساحات واسعة من ارض السودان على مدى اكثر من قرن واشترك فيها ابرز علماء الآثار فى العالم امثال  ريزنر ووليام آدمز ولسبيوس وكروفوت وفردريك هينكل وغيرهم  ممنوعة من التداول فى الفضاء العام ، فأى سر عظيم  انطوت عليه هذه الحضارة حتى تحاط بكل هذا الصمت؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...