الخميس، 20 أكتوبر 2011

قصة الذهب النوبى


                   لا ادرى اين مصدر الاثارة والغرابة فى الخبر الذى تناولته معظم الصحف الصادرة بالخرطوم يوم امس 19\10\2011 واحتل صفحاتها الاولى بمانشيتات عريضة ، ويحكى عن كميات من الذهب  قدرت بأنها تغطى ميزانية السودان للسنوات العشر القادمة ، تم اكتشافها تحت ارض مشرحة مستشفى الخرطوم ، والخبر الذى اريد له ان يتخذ شكل قصة مثيرة تحظى حبكتها بمصداقية رسمية ، اقحم فى صياغته آراء مسئوليين جيولوجيين اعادوا الاكتشاف لأختصاص مسئولية الآثار بأعتبار ان الذهب المكتشف جزء من آثار الحضارة النوبية ، وبغض النظر عن آراء فئات المجتمع السودانى تجاه هذا الخبر الا ان المهتمين بتأريخ الحضارة النوبية يعلمون جيدا ان مستشفى الخرطوم والتى تشغل اكبر مساحة فى العاصمة السودانية تمتد من شارع القصر غربا الى شارع المك نمر شرقا ، كانت جزءا من محل اقامة نوبية معروفة ، وكان عالمنا الراحل المقيم اسامة عبد الرحمن النور قد اورد فى سفره العظيم ( دراسات فى تأريخ السودان القديم ) ان عالم الآثار ( آركل ) كان قد عثر فى 1949 اثناء عمليات بناء جارية فى الخرطوم على مدافن مروية ، واحتمالا ان تكون عائدة لعصر ( نبتة ) ، وان ما وجد فى هذه المدافن كان مشابها لما وجد فى نظائرها فى (فرس) و (كارانوج) واحتمالا لما وجد فى (مروى) و (نورى) ، وان الحفريات قد اثبتت انه فى عصر ازدهار مملكة (نبتة) كان فى الخرطوم عند ملتقى النيلين موقع للأقامة يرجع تأسيسه لقرون سابقة .

                   فالحدود الجنوبية للممالك النوبية لم تحدد بعد بشكل قاطع ، فالبعض يرى انها امتدت الى موطن قبيلة الباريا بالجنوب بحكم انتماء لغتها ولغات النوبيين الشماليين الى ام واحدة ، ويمضى بعض آخر الى ابعد من ذلك فيصل بها الى موطن قبيلة (المساى) فى كينيا ، ويرى فى اسم القبيلة نفسها دلالة نوبية ، فما يروج عن هذه القبيلة انها لا تعرف من بين كل الانبياء والرسل سوى سيدنا ونبى الله موسى عليه السلام ، واسم (موسى) فى لغة (السكوت) ينطق (مسى) ويرى هذا البعض ان (مساى) لفظة منسوبة الى (مسى) ، والسكوت احدى القبائل النوبية الكبيرة وهى التى اخرج سيدنا (موسى) عبر اراضيها بنى اسرائيل من مصر ، وهى حكايات متداولة بشغف فى وسط المهتمين بالحضارة النوبية ، ولكن ما يهمنا هنا ، ان الحفريات التى غطت المنطقة جنوبا حتى (جبل اولياء) اكتشفت العديد من الآثار النوبية ، فليس غريبا ان يعثر فى اى بقعة من هذه الارض على اثر نوبى سواء اكانت هذه البقعة (مشرحة) ام (جامعة) .

                   ما يدعو للغرابة حقا ، هذا المصير الذى آلت اليه معظم مواقع الحضارة النوبية ، فقد شهد العالم بأثره عمليات اغراقها وبذل ما فى جهده لأنقاذ ما امكن انقاذه ، وها نحن الآن نشهد احدى العمليات التى قامت فى زمن مضى بدفنها تحت المبانى ، فقد اشار اسامة عبد الرحمن النور فى نفس المرجع السابق ان منطقة (العشرة) التى تبعد حوالى 5ك جنوب امدرمان والتى اصبحت من بين كل المساحات الخالية فى ذلك الوقت مقترحا لأقامة المدينة الجامعية لجامعة امدرمان الاسلامية ، ان هذه المنطقة كانت احد المدافن التليّة المروية المرتبطة بحركة النوباديين ، وتتشابه مع مدافن (تنقاسى) التليّة الواقعة على بعد 10ك جنوب (مروى) والتى تعتبر اكثر فقرا من مدافن (العشرة) .

                   اما اكثر ما يدعو للأثارة ، ان منطقة (سوبا) العاصمة التأريخية لمملكة (علوة) والتى ظلّت خرائبا منذ تهديمها ، ومحل نهب مستمر لم يسلم منه حتى طوبها ، فقد اشار سليمان كشة فى كتابه (الخرطوم) ان عددا من مبانيها قام على (طوب سوبا) وظلت طوال هذه الفترة مهملة من قبل بعثات الآثار حتى لحقت بها عمليات الدفن تحت المبانى ، فقد انتقلت اليها السفارة الامريكية وعدد من المصانع والشركات ، فلن يدهشنى خبر غدا اذا قال بأكتشاف كميات من الذهب تحت اى من المبانى التى قامت عليها ، فالذهب معدن تسلم النوبيون مفاتيحه منذ ان وجدوا على هذه الارض .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...