السبت، 30 نوفمبر 2013

امرأة ككل النساء


                      يمر يوميا بعشرات النساء ، وكان قد مر من قبل بمئات منهنّ ، بل مر بآلاف ، وكل واحدة منهنّ تشعره بالرضا وان الدنيا ما زالت ملأى بمن يحتفى بالجمال ، كل واحدة منهنّ حين يراها فى الطريق ، يرى لمحات جميلة عالية التكلفة مصحوبة برسالة قصيرة تقول : التجمّل واجب بشرى ، رسالة تذكرك بقول حبر الأمة عبد الله بن عباس رضى الله عنه وارضاه (كنّا نتجمّل لهنّ كما يتجملنّ لنا) .

                       لكن كل هذا العدد من النساء الذى صادفه لم يجد بينه تلك المرأة التى حكت له جدته عنها فى الطفولة ، ولا تلك التى ضجت بها كتب كثيرة ، ولا تلك التى كانت تلوح له فى صباه كل ليلة على نجمة بعيدة وتختفى ، ثم تظهر وتختفى ، حتى يغلبه النعاس ويأخذه الى صبح مشبّع بالأمل ، ولا تلك التى رسمها بنفسه بكل تفاصيلها الدقيقة وخزّنها فى مخيلته فى اقرب جزء للعين  حتى اذا رآها ، شحذ نفسه وانغمس فيها ، ومع ذلك ظل شعوره اليومى واعدا بان روحه على موعد قريب مع رفيقتها ، رفيقة يعرفها من الحلم ، ويعرف ان بينهما لقاءات سابقة غامرة بذكريات حميمة وبوعود صادقة لم تخب ابدا  .

                        قال لى ان (حياة) كانت جنونه الأول ، وانه بعد خمسين عاما من آخر يوم رآها فيه ، اخذته حالة من العشق المنفلت ، فوجد نفسه يطرق باب بيتها بلهفة وشغف محموم ، وحين علم انها رحلت مع زوجها منذ عقود الى حى بعيد لم ييأس ، وكاد ان يثقب آذان ذلك الحى البعيد بطرقاته الشغوفة ، من فتح الباب كان فتى يرتدى ملابس المرحلة الثانوية ويبدو انه كان عائدا لتوه من حصص مسائية ، سأله : استاذة حياة موجودة ؟ صرخ الفتى : ( يا حبوبة  فى واحد عايزك بره ) لم ينتظر اذنا بالدخول ، كانت تجلس على سرير قرب الباب ، فأندفع نحوها والدمع يملأ عينيه وهو يسألها : عرفتينى ؟

                         اكاد اجزم بأن هذه المرأة عرفت فى تلك اللحظة ولآول مرة فى حياتها معنى الهلع ، لكنه بعد ان حكى لها قصة حبه الاول معها ، بكت واحتضنته كأحد احفادها ، وتذكرت كيف كان هذا الطفل الشقى يتعب امه فى العصريات ويجبرها لتقطع ذلك المشوار الطويل كى تشبع شوقه الى رؤية مدرسته فى الروضة ، واعلم علم اليقين انه لم يكن وحده فى هذا الجنون ، ولا امه كانت وحدها فى مشاوير الشوق تلك ، ولكنه الوحيد من بينهم الذى اشتعل شوقه ثانية مثل بركان راوغ خموله الدنيا سنينا طويلة وانفجر فجأة ، اردف زيارته هذه بأخرى اصطحب فيها امه وزوجته وابناءه وكل منهم يعلم القصة بتفاصيلها ، وبينما هو يترجى فىّ ان نذهب سويا لزيارتها مرة اخرى ، كنت قد سرحت هائما فى قداسة عالم الامهات ذاك .

                         قال لى ان الشعور الذى احسه تجاه مدرسته وهو طفل لم يتعد الرابعة من العمر بعد ، هو ذات الشعور الذى احسّه تجاه زوجته منذ اللحظة الاولى التى التقى بها ، وهو ذات الشعور الذى احسّ به تجاه اخريات صادفهنّ فى شبابه ، ثم تسآل متعجبا : اين اختفن ؟ اين اولئك اللواتى ملأننى بالعشق حد الأعياء ؟

                          خفت ، خفت على ابواب هادئة فى احياء هذه المدينة من طرقات فجائية ، وخفت عليه اكثر من سوء ظن القابعين خلفها ، فمع (حياة) كان فرق العمر عاصما من سوء الظن ، وامتلأت خوفا حد الارتباك والتيه حين ملأت يقينى فجأة فكرة ان جنون العشق هذا خاصيّة حيّة داخل كل انسان ، وان منظومة الكبت والقهر التى اعتمدتها كثير من المجتمعات لن تقوى فى لحظة انفلاته من السيطرة عليه ، فما هو مصدر هذه الجاذبية الهائلة التى تجمع رجلا بأمرأة دون اى اعتبار للسن او العرق او الدين او اللون ، دون اعتبار لأى شكل من اشكال التمييز التى الفتها المجتمعات ؟

                           لا علم لى ، ولكن شيئا ما يكمن فى روح المرأة ، وشيئا ما يكمن فى جسدها ، وشيئا ما يكمن فى عقلها ، او هذا الشىء الموزع فى كل نواحى المرأة هو مصدر الجاذبية ، وتلك المرأة التى طافت بها الحكايات ، وتلك المرأة التى تلوح للمرء ليلا من نجمة بعيدة ، وتلك التى ترسمها فى رأسك ما هى الا امرأة ككل النساء .

الجمعة، 29 نوفمبر 2013

احتيال شبه رسمى


                         ظاهرة استقطاعات الاموال من مرتبات العاملين والمتقاعدين والتى تقوم بها بعض النقابات والاتحادات دون اخذ الاذن منهم ، ظاهرة تدعو للقلق والمخاوف على منظومة القيم والاخلاق والقوانين التى حكمت تأريخ الخدمة العامة فى السودان منذ مطلع القرن الماضى ، واذا احسن المرء الظن بمقاصدهم وراء هذا الاستقطاع ، فأن الاسلوب الذى تم به اجراء هذه الاستقطاعات يفسد لدى المرء اى حسن ظن فى تلك المقاصد لما فيه من تعسف ، ولأن أخذ الأموال دون علم اصحابها ، لا فرق بينه وبين أخذ الاموال خلسة ، ولست هنا بصدد تناول لجوء النقابات لهذا المسلك فى دعم ماليتها ، فهذا امر اولى به عضويتها .

                         ما يثير القلق والمخاوف اكثر هو موقف السلطات ، واخص منها سلطات حراسة المال العام كالمراقبين الماليين بمراجعاتهم الداخلية ، وسلطات المراجع العام ، وسلطات القائمين على شئون العاملين والمعاشيين ، المفترض فيهم وبحكم القانون حماية اموال الدولة والعاملين والمعاشيين من اى استقطاع مخالف للقانون او تجاوزات اواختلاسات ، فهل هنالك ثمة تعديلات ادخلت على القانون تبيح للنقابات والاتحادات استقطاع مبالغ من مرتبات العاملين والمعاشيين دون اخذ الأذن منهم كما فى حالة الاحكام القضائية ؟

                          فاذا لم يكن هنالك تعديل قد تم على القانون ، فأن الأجراءات التى صاحبت استقطاع تلك المبالغ فى اى مرفق من مرافق الحكومة ، تعتبر اجراءات باطلة قانونا ، وان المسئولين فى الشئون المالية وشئون العاملين والمراجع العام الذين اشتركوا او اغمضوا اعينهم عن هذه الاجراءات سهوا او خلافه ، يعتبروا مسئولين مسئولية مباشرة عن فساد هذاه الأجراءات ، فلا طاعة فى امر مخالف للقانون ولن تنجى زريعة (التعليمات العليا) كل من ضلع فى مثل هذه الاجراءات من المحاسبة .

                           واذا لم يكن هنالك تعديل قد تم ، فان اقبح ما فى هذا الاجراء بجانب انتهاكه السافر للقانون ، انه يجعل من النقابة اوالاتحاد والسلطة شريكان فى فعل مخالف للقانون بتقاعس كادر السلطة المناط به تدارك مثل هذا الأجراء حماية للمال العام ومال العاملين والمعاشيين ، ويضفى على الاجراء شبهات احتيال شبه رسمى .

                            فى 8\8\2011 كنت قد اثرت هذا الموضوع بهذه المدونة تحت عنوان (ضباط تحت الاهانة والانتهاك) وحتى هذا التأريخ ، لا تزال الاستقطاعات جارية ، فليت من بيده العلم ان يفيدنا عما اذا كان قد استحدث للنقابات والاتحادات حقوق اصيلة فى استقطاع ما تراه مناسبا من مرتبات العاملين او المعاشيين ؟ .
                            

الخميس، 28 نوفمبر 2013

الشاهد الثالث


                      يقولون ان للقدر تصاريف مبدعة فى الانتقام ، لكنه اعتبر هذا القول محاولة خبيثة من الظالمين لتحييد او تعليق ردة فعل المظلومين الى اجل غير مسمى ، ومضى فى طريق مظلم لا يستطيع ان يرى فيه مجرد لمحة من جمال الحياة ، لم يستطع ان يرى فيه حتى اشراقها واشراقاتها كل صباح ، اصبح خليلا مخلصا لليل ، يبحث فى عتمته عن كهف او مخبأ سرى يجدل فيه حبالا من مسد اعدها ليشنق بها ذلك المسئول الذى سلّمه قرار فصله وشماتته النتنة كانت تتدفق من كل منفذ فى جسده ، من اعلى الى اسفل ، حتى بدا فى نظره (قربة) بأكثر من ثقب ، (قربة) مصنوعة من جلد نتن ، كانت تلقى باقبح فضلات البشر فى تلك اللحظة ، تلك اللحظة التى استولت عليه بالكامل ودبغت عقله وقلبه بالحقد والكراهية والرغبة المنفلتة فى الانتقام .

                     لم يدر ان الكهوف والمخابىء السرية التى يبحث عنها فى عتمة الليل ليكمل مشهد انتقامه المرتجى بعيدا عن خائنة الاعين ، قد سبقه اليها كثيرون على مر العصور ، بعضهم تغلّبت عليهم انفسهم الملهمة بالتقوى فأتخذوها معزلا لهم من ظلم الناس فى الدنيا ومن نصبها ، وحين خرجوا منها ، اضاءوا دروب البشرية بالخير والجمال ، وبعضهم تغلّبت عليهم انفسهم الامارة بالسوء فأتخذوها مطبخا لتغذية الشر المتفشى وباءا على الطرقات ، وحين خرجوا منها كانوا شياطين الانس الذين ينتمى اليهم امثال ذلك المسئول ، المتمترس بعضهم فى اكثر من مفصل من مفاصل الدولة ، هؤلاء لايخيفهم شىء سوى الطهر والعفاف والنزاهة ، فمتى اجتمعت هذه الفضائل فى احد زملائهم صار على الفور عدوا لهم ، وعلى الفور يبدأون العمل على شطبه نهائيا من سجل الوظائف .

                        الوظيفة ، هذا السجن الفقير الذى يشدهك بتفاصيل كثيرة حتى لا ترى تراتبيتك فى سلك العبودية الرسمى ، لا تستحق ان تمارس من اجله هذا الطقس الليلى الذى يأخذك من كهف حاقد الى مغارة ممتلئة بالكراهية الى مخبأ مكتظ بالغل والغبن ، لا تستحق ان تسمح لها ان تشحنك حتى النخاع بفكرة الانتقام ، لاتستحق حتى ولو بدت لك رمزا صغيرا يتيح لك خدمة وطن تحبه ، وحتى لو بدت لك حقا من حقوقك التى يكفلها لك حق المواطنة ، وحتى لو بدت لك معنى زاهيا للكرامة ، فهى فى الآخر ، سلسلة طويلة من القيود التى تمتد حتى حياتك الخاصة وتدمى جسدك وروحك طوال فترة خدمتك ولا تمنحك فى الختام سوى معاش بائس وذكريات بئيسة ، ولكن هذا المسكين لم يفهم ذلك ولم يستطع صبره ان ينتظر عدالة السماء ، بل اخذ يحرق سنوات ما تبقى من شبابه فى ممارسة طقسه الليلى آملا فى ان يكون صباح الغد موعد انتقامه المقدس ، ولكن الصباح فى كل يوم يتركه فريسة لأرهاق السهر الطويل ويغيبه فى نوم عميق بينه وبين النهارات قطيعة تامة .

                          الصباح الوحيد الذى بدا فيه ان قدرته على الانتقام قد بلغت تمامها وانتفض من سريره وحشا مرعبا متلهفا لتنفيذ خطة  انتقامه المحكمة التى راجعها فى عقله طيلة تلك الليالى الطويلة ، اتاه خبر وفاة ذلك المسئول فى حادث حركة شديد البشاعة ، فازداد حقده حقدا على حقد وهرع سريعا ليلحق بمراسم تشييعه ودفنه ، وكان من الغرابة بمكان ان يبقى بعد انصراف المشيعين وهو منشغل بتحديد معالم موقع القبر .

                           بعد ثلاثة ايام ، عاد الى القبر وهو يحمل شاهدا رخاميا كتب عليه (هذا قبر المرحوم ... اسأل الله ان يغفر له ما ارتكبه من مظالم ويحاسبه فيما يخصنى حسابا عسيرا) وغرزه شاهدا ثالثا فى منتصف جانب القبر . 

الأحد، 24 نوفمبر 2013

عضو نووى جديد


                        الاتفاق الذى توصلت اليه دول مجموعة 5 + 1 مع ايران ، هو فى واقع الامر اعلان ترحيب بعضو جديد فى النادى النووى خاضع لفترة اختبار لمدة ستة اشهر ، تستحق ايران عليه التهنئة لما بذلته من جهد صبور على مدار السنوات الفائتة وهى تصارع فى غيلان الاحتكار من اجل حقها المشروع فى امتلاك التقنية اللازمة لترقية انشطتها العلمية فى كافة المجالات ، وعلى ايران ألا تأخذها النشوة بأنها حققت انتصارا بالمعنى الكامل للكلمة ، فهو فى تقديرى لا يعدو ان يكون سوى خطوة اولى خارج دائرة الحصار المضروب على الدول الاسلامية والعربية ، الحصار المناط به الحيلولة دونها والنهوض قوى اقليمية تربك المعادلات القائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية فى ادارة وتقاسم مناطق الثروة والنفوذ .

                       ولكنه من جانب آخر يعد انتصارا حقيقيا لمبدأ التفاوض كآلية ناجحة وقادرة على ان تقود الخصوم الى اتفاقات مرضية تجنبهم شرور الحرب ، وتجنب العالم تبعاتها القاسية ، فالتحية ايضا لمجموعة 5 + 1 على جنوحها الى العقل بصبر طويل على غير عادتها فى مثل هذه الحالات التى تهدد مصالحها بتسارعها الى آلتها العسكرية .

                         لا تبدو لى الاجندة التى تم الاتفاق حولها ايّا كانت طبيعتها سببا يدفع الدول العربية فى خط المواجهة مع ايران للتحفظ على هذا الاتفاق ، فقد كان بالامكان لولا مجاهرتها بمواقفها المعارضة لأمتلاك ايران التقنية النووية ، لولا مجاهرتها هذه  لكان بالامكان ان تكون جزءا من هذه المفاوضات ولو بصفة مراقب ، ولكنها ومنذ بدء الصراع حول هذا الملف اوكلت امرها الى حلفائها فى الغرب ، وحلفاؤها فى الغرب اداروا صراعاتهم حول هذا الملف وفقا لمصالحهم بما فى ذلك مصالحهم القائمة فى دول الخليج والتى ظلّت لعقود طويلة آمنة تحت ادارتهم ، فليتهم يستغلون هذه السانحة للتعبير عن موقف جديد يمكنهم من فتح الملفات العالقة مع ايران مباشرة للوصول معها الى اتفاق مهما طال امد التفاوض .

                           امام ايران نصف عام لتثبت فيه للعالم ولدول الخليج انها فعلا على قدر هذا التقدم الكبير الذى احرزته على صعيد علاقاتها بالعالم ، فهى حقا وبحكم التأريخ وبحكم الواقع لديها كل مقومات النهوض كقوة اقليمية لا تبعد المسافة بينها وبين الدول التى شكلت مجموعة العشرين كثيرا ، ولتبدأ اولا بدول الخليج وتقديم الضمانات الكافية لطمأنتها ، فدول الخليج اقصر الطرق لتبلغ بها ابعد الغايات .

السبت، 23 نوفمبر 2013

من ابكى ارض المسيح ؟


                      البابا فرانسيس بابا الفاتيكان ، اكد ان الكنيسة الكاثوليكية لن تقبل بشرق اوسط خالى من المسيحيين ، وذلك فى كلمة القاها بالفاتيكان امام جميع بطاركة الكنائس الشرقية واساقفتها (بى بى سى العربية) ، جاء ذلك بعد لقاء البابا مع قادة كنائس من عدة دول من بينها مصر والعراق ولبنان وسوريا ، وهى الدول التى شهدت مناطقها المسيحية عنفا من ذلك النوع الذى يقود الى التهجير .

                       حديث البابا هذا جاء قبيل الزيارة المقررة له الى روسيا ، القوى العظمى الداعمة للمسيحيين الكاثوليك فى الشرق الاوسط ، والحديث فى مجمله كما ورد بالبى بى سى يشى بحراك مسيحى يجرى بزهد تام فى جدوى اى مساهمة لحل هذا الصراع من قبل المؤسسات الرسمية او من قبل القوى الدينية او القوى الاجتماعية داخل الدول الاسلامية التى تحتضن الاقليات المسيحية كالمذكورة اعلاه ، فثمة تأريخ طويل من حراكات مسيحية اسلامية سابقة سعت لتمكين التعايش الا انها اصطدمت فى خاتمتها بصعود حالات العنف الى مستويات مهددة لوجود الاقليات المسيحية ، وفى هذا اشارة مقلقة للمجتمعات الاسلامية بالشرق الاوسط الى ان حالة العجز التى لازمتها طويلا فى التعامل مع هذه المشكلة ستقودها فى مقبل الايام للتعامل مع حلول مفروضة عليها من الخارج ، ومحاولة تصور ما ستكون عليه مآلات هذه الحلول ، لن يبعدنا كثيرا عن مناخات ميادين الحروب الصليبية التى لا تزال تتدفق حلما داميا من بعض العقل الغربى ، للدرجة التى طفح به يوما الرئيس الامريكى السابق جورج بوش عقب تفجير برجى التجارة العالمية ، فثمة مشهد يلوح فى الآفاق ، تبدو فيه عملية اعادة التوطين باستقطاع الاراضى معركة دامية لا تقل مآسيها وآلامها عن عملية اعادة التوطين بالترحيل القسرى لمجموعات عرقية ودينية تنتمى لثقافة واحدة ، فهذه المجموعات عليها ان تبكى فى كل مرة ذكريات حياتها المرتبطة بارض لن تدخلها ثانية الا كالأجانب .

                         لاشك ان البابا والاخوة المسيحيين الذين شاركونا الحياة فى هذه البلدان ، على علم بالعوامل الداخلية التى فجّرت مثل هذا الصراع العنيف بين مجموعات اسلامية متشددة والاقليات المسيحية ، ويعلمون ان ما طالهم من جراء تلك العوامل التى ولّدت ذلك الصراع العنيف الذى اخترق قدرة المسلمين والمسيحيين فى التعايش الآمن المستقر الذى امتد قرونا من الزمن ، طال ايضا كثيرا من المسلمين بمختلف مذاهبهم ، فهذه قصة طويلة لم تنته بعد ، ولكن لنناقش المشكلة على ضوء العوامل الخارجية ، فالأجندة التى تقف وراءها تسعى  الى اعادة تخطيط العالم استنادا على العرق والدين والثقافة ، فمشروعها لأعادة تخطيط العالم على هذا النحو ، هو المشروع الاقوى الذى يجرى فى الشرق الاوسط والذى تاذت منه الاقليات المسيحية بشدة ، فاذا كان الفاتيكان بكل ما يمثله من ثقل يغطى اكثر من 33 % من مجموع البشرية ، خارج اطار هذا المشروع ، فأن الصراع الحقيقى ليس ذلك الواقع بين مجموعات اسلامية متشددة واقليات مسيحية ، لأن الجماعات الاسلامية فى ظل هذا المشروع لن تكون وفى احسن الاحوال سوى ادوات مضللة لخدمة اجندة غربية تجرى بمعزل عن اكبر مراكزها (الفاتيكان) ، لذا فالصراع الحقيقى هو بين تلك الاجندة الغربية والديانات بما فيها الدين المسيحى ، بمعنى اكثر دقة ، فأن تلك الاجندة تسعى الى قفل خريطة كل دولة عند آخر نقطة وصل اليها دينها الرسمى وشكل فيها غالبية ، او بمعنى اكثر صراحة ، انتهاء عصر التبشير ، على الاقل فى الدول التى يغلب فيها احد الاديان بحيث لا يجتمع فيها دينان ، ويبدو لى اعلان اسرائيل القاضى بيهودية الدولة اولى تجليّات هذا المشروع بشكل طوعى ومتلهف ، والفكرة الاساس قال بها صمويل هنتجتون منذ الثمانينات من القرن الماضى ، (راجع قول صمويل هنتجتون فى مؤلفه صراع الحضارت ص169 الطبعة الاولى من دار الامل للنشر والتوزيع 2006 ، القول وارد بهذه المدونة فى موضوع (دولة الجوهر ودولة الخلافة ) .

                        روسيا لن تستطيع ان تفعل شيئا فى ظل صراعها القائم مع الشعوب المسلمة هنالك كما فى الشيشان ، فهى كقومية كبيرة ، تلتقى مع هذا المشروع فى مسألة اعادة ترسيم الحدود بناءا على العرق والدين والثقافة ، لأنها ترى الوجود الاسلامى المنتشر فى اراضيها وفى دول الاتحاد السوفيتى سابقا ، مصدرا دائما للصراعات والحروب ، ولن تجد سانحة افضل من هذا المشروع للتخلص منهم ، وهو المشروع الذى يجرى هنالك وجسّدته حربها فى الشيشان فى اكثر صوره جلاءا ، وكذلك حروب دول منظموتها السابقة فى مناطق اخرى ، وصار حال المسلمين هنالك مثل حال المسيحيين فى الشرق الاوسط .

                          فالفاتيكان احد اكبر المراكز الدينية فى العالم مثله مثل غيره من المراكز اسهم بوعى منه او بغير وعى فى بناء هذا المشروع الذى يجرى الآن فى اكثر من منطقة بالعالم ، فتأريخ البعثات التبشيرية حافل بسعيها المحموم لتوطيد دعائم الفرز العرقى والدينى والثقافى ، وخير مثال لذلك ما حدث بجنوب السودان طوال القرن الماضى ، حيث شكلّت عقبة كأداء امام اندماجه فى مجتمع الغالبية فى الشمال المسلم ، حتى تكللت مساعيها اخيرا بخروجه دولة ستعانى طويلا من مسألة الهوية فى ظل غابة اعراقه الكثيفة ، فثمة تناغم بين رغبات دينية ذاتية ومشروع اعادة بناء العالم ، فمثلا لا يمكننى ان اتصور بأى حال من الاحوال ان يسمح المسلمون لغيرهم ان يشاركوهم شعائر الحج حتى لو كان لهذا الغير تأريخ قديم فى اداء هذه الشعائر ، ولا اعتقد ان قوى دينية او غربية بخلاف الاقلية من اصحاب الديانات القديمة ستمتلك الجرأة للأحتجاج على هذا الموقف ، فثمة صراع مؤجل حول القدس ينتظر محاكاة الآخرين من اصحاب الاديان .

                           فالرغبات الذاتية هى الثغرة التى ينفذ منها مثل هذا المشروع تماما مثلما ينفذ منها شيطان الشر الاكبر الذى ادمى قلوبنا بما فعله بأقلية الروهينيغا المسلمة ببورما ، فالبوذيون فى كل بقاع العالم يتباهون بقدراتهم  على خلاص الروح من آلامها وفتحها كما يقول شاعرنا ضلفتين على فضيلة التسامح ، لكنهم فى بورما لملموا كل آلام الدنيا وحرقوا بها هذه الاقلية المسلمة واجبروها على مغادرة اراضيها وهو الهدف المبتغى من وراء كل تلك البشاعات التى شهدناها ، فالرغبات الذاتية حينما تتغطى بالدين تتصادم بشدة مع فكرة الخلق التى بيّنها الله عزّ وجل فى قوله (انا خلقناكم شعوبا وقبائلا لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) وللأسف فأن الرغبات الذاتية ظلت حصنا حصينا احاط بكل دين على مر العصور .

                           لقد اهدرت المراكز الدينية من قبل وقتا ثمينا وجهدا كبيرا فى ما يسمى بمؤتمرات حوار الاديان ، فهى فى تقديرى جلسات تنافسية تشغلها الاحصاء والمساحات الدينية لتفادى مواضع الاحتكاكات اكثر من التكليف الحقيقى المناط برجال الدين وهو بسط القيم النبيلة التى جاءت بها الاديان لتهذيب البشرية ، فالاصل ان اى مساحة يغطيها الدين الحق المجرد من الرغبات الذاتية ، ومهما كان هذا الدين فهى ارض تخشى الله وتتعاون على البر والتقوى ولا تأبى اخوانهم فى الله ولا اخوتهم فى البشرية كما قال الامام على بن ابى طالب رابع الخلفاء الراشدين ، وهذا هو المفهوم الذى يجب ان تدعو اليه المراكز الدينية و تبحث فى ضوئه عن اسباب العلة التى عكست مقاصد الدين من الخير الى الشر ، وجعلت منه سلاحا لكل صاحب هوى كم اذاق به البشرية الوانا من الألم والعذاب .

                          كل الانبياء والرسل بكوا من قبل لحال البشرية ، وبذلوا انفسهم رخيصة لتنجوا هذه البشرية من عذابات الدنيا والآخرة ، وكل الارض تبكى الان انبياءها فى ظل الجحيم المشتعل هنا وهناك و ليس ارض المسيح وحدها .
                           

                           

                            

                           

                    

الأربعاء، 20 نوفمبر 2013

وللمافيا نصيب مما يسرقون


                      اكثر ما يعجب المرء فى النظام الامريكى ، هو عملية الفحص التى يجريها الكونجرس الامريكى للمرشحين للمناصب السياسية ، خاصة تلك التى تمس سيادة ومصالح الدولة والمواطنين ، فهو نظام يثير حقا الاعجاب والاحترام لحرصه الصارم على تنقية مؤسسات الدولة وكوادرها من شبهات التصاقها بالفساد وعدم الكفاءة ، وحرصه الصارم على جودة ادائها فى كل ما يهم مصالح امريكا وشعبها ، وحرصه على سلامة ناتجها من اى تغوّل خارجى ، الى آخر ما يعكسه هذا الحرص من مزايا فاضلة لسلطة وصورة الدولة ، ولقد ظل يخطر ببالى هذا التقليد الراسخ فى السياسة الامريكية كلما تناولت وسائل الاعلام والمجالس قصص الفساد وضعف الاداء فى المرافق العامة فى بلادنا ودول العالم الثالث ، وكلما خطر ببالى ، كان يصيبنى مرة بالغضب ومرة بالحرقة ومرة بالسخرية وفى كل مرة بالغثيان جراء ما نعانيه من الفساد وانعدام الكفاءة ، لكنه فى النهاية يقتحم مخيلتى بسيناريو ارى مشاهده امام عينى حيّة بكل ما فيها من خزى وعار ملتصق بجبين ابناء بلدى وبلاد العالم الثالث الذين فاقت مرونتهم الاخلاقية اى تصوّر يمكن ان يلمسه دين او قانون .

                      واكثر ما يعزز فكرة ان يكون هذا السيناريو امرا محتملا ان لم يكن قائما بالفعل ، ان ثمة مؤسسات او منظمات او دوريات معنية بمتابعة شئون المال والاعمال كمجلة (فوربس) ظلّت تتحفنا بين الفينة والاخرى بتسريبات عن ارصدة مهولة لملوك وامراء و مسئولين كبار فى عالمنا الثالث بمختلف بنوك العالم ، وهى ارصدة يفترض ان تكون محمية بحكم قانون المصارف بسرية تامة ، ومحاطة بأجراءات عصيّة على الاختراق والتسريب ، ولكن نشرها على العلن فى كل مرة لم يعن لى شيئا سوى ان للمافيا جنود مصرفيون ايضا ، او بالاحرى للمافيا جنود اينما وجد المال واينما وجد رجال المال واينما وجد المسئولون الفاسدون ، بل فى الواقع للمافيا جنود فى كل منفذ ، وهى بهذه القدرة لا بد ان تكون على علم بمصادر هذه الاموال المنهوبة من بلدان العالم الثالث ، فقدرتها هذه بتأريخها المعلوم تجعلها ابا روحيّا لكل الاموال التى تندرج تحت دائرة انشطتها ، بدءا من السرقة وانتهاءا بالمتاجرة فى كل ما هو ممنوع ، اى ان لها من كل نشاط نصيب معلوم او من كل رصيد نصيب معلوم ، والذين يفلتون من اتاوتها هذه بحكم تواجدهم فى مواقع المسئولية المحمية بأعراف دبلوماسية وقانون دولى ، سينتظرهم يوم لا يقال فيه سوى (المال تلته ولا كتلته) .

                       الان لا يحتاج هذا السيناريو لتفاصيل لمعرفة مشاهده فالعنوان وما ورد اعلاه يبدو كافيا لفتح مخيلتك على كل الصور ، وكل الصور التى تبدو لك لا يجانبها الصواب كثيرا ، فالأمم المتحدة نفسها كانت قد ابانت فى احد تقاريرها المتعلق بالتنمية فى افريقيا ، ان تخصيص ما نسبته  25% من اعتمادات اى مشروع انمائى توجه للمسئولين الفاسدين يعد احد محفزات نجاح ذاك المشروع ، وانا احترم واقعية الامم المتحدة هذه واطالب بتقنين الفساد وذلك بمنح المسئولين من اصحاب المرونة الاخلاقية العالية شرعية فساد شريطة ألا تتجاوز نسبته من اعتمادات اى ميزانية تحت سلطتهم نسبة ال 25 % وله ان يودعها ببنوكنا المحليّة وبالعملة الصعبة كمان ، فنحن اولى من المافيا بأموالنا .

                      

الأحد، 17 نوفمبر 2013

ملمح سودانى غامض


                فى 30 يونيو 1989 قام افراد القوة المشاركة فى الانقلاب والمرتكزة امام كبرى امدرمان بزراعة شتلات اشجار(النيم) و(دقن الباشا) حول موقع ارتكازهم ، والقول الذى شاع عنهم ، انهم باقون هنا الى ان تصير هذه الشتلات ظلا دائما لهم ، والشتلات الآن صارت دغلا صغيرا يوزع فى ظله عليهم شرقا وغربا وبالكاد ترى من خلاله مدرعاتهم التى اتخذت موقعها هناك فى ساعة الصفر .

                          بعدها صعد الاسلاميون بزعامة الجبهة الاسلامية سابقا باناشيد واقوال من بينها القول المشهور (لن نسلمها الا لعيسى) ، وشهدنا ابتداءا من عقد التسعينات ، ضروبا من القمع والانتهاكات والتشريد لم يشهد السودان مثيلا لها من قبل ، وكان الاسلاميون حينها يقفون بكل انفة على رأس المشهد السياسى ، الاسلاميون بأطيافهم ، السابقون بقيادة الدكتور الترابى ، واللاحقون مؤخرا بقيادة الدكتور غازى صلاح الدين ، والواقفون الآن بين بين ، يدغدغون فى مشاعر الشعب السودانى بأحاديث الاكتاف التى يعلمون جيدا كيفية نتف لحمها حتى العظام ، نستثنى منهم رجالا محترمين كان موقفهم منذ البدء جليا فى انحيازهم للحق والعدل والحريات ، امثال الدكتور حسن مكى والدكتور الطيب زين العابدين والدكتور عبد الوهاب الافندى ، وربما ثلة اخرى بعيدة عن دائرة الضوء .
                           قرابة ربع قرن من الزمان والقوى السياسية الاخرى فى السودان تصارع فى نظام الانقاذ الذى دمغته بوليد الجبهة الاسلامية ، واصطفت فى اكثر من تشكيل مستهدفة القضاء عليه ، فشارك منهم من شارك الانقاذ لهذا الهدف ، واختلفت مستويات مشاركة بعضهم ، واكتفى بعضهم من غنيمة الاتفاقيات المبرمة بالاياب ، والاسلاميون الآن بات اكثرهم فى العراء بلا تغطية من السلطة التى طالما التحفوا بها فى غدوهم ورواحهم ، والمتبقى منهم فى مقاعد السلطة لا يزيد او يقل عن الآخرين المشاركين فيها , ومع ذلك لا يزال خطاب القوى الاخرى فى معظمه متمسك بصيغته الاولى ، بينما الاسلاميون الذين خرجوا من السلطة اخذوا يحتلون فى مقاعد المعارضة خطوة خطوة بذات الاسلوب الذى احتلوا به من قبل مقاعد السلطة حتى صاروا الآن صوت المعارضة العالى ، فى مشهد يبعث على الحيرة ويثير شهية البحث عن ملامح لصفقة خروج آمن مختبئة خلف هذا التحوّل الدرامى .

                           الحركات المسلحة تسير فى تقديرى على خطى الحركة الشعبية الأم ، وتحلم بجغرافيا جديدة يرفرف فيها اكثر من علم ، وليس ذلك ببعيد فى ظل اوضاعنا المثيرة للشفقة وفى ظل اوضاع الاقليم المضطربة والتى مدت كثيرا من اصابعها الى الداخل ، وفى ظل اوضاع العالم النهم المتأزم ماليا واقتصاديا والذى ظل يحلم بخريطة جديدة للمنطقة بأثرها تتيح انقساماتها له مزيدا من قسمة الثروة .

                            كل هذا الحراك الذى دار والدائر الآن فى قلب الحالة السودانية ، لا ثابت فيه سوى ساعة صفر انقلاب 30 يونيو 1989 التى نشاهدها عيانا بيانا فى مواقع ارتكاز قواتها ، وهى الساعة التى ادت لها معظم القوى السياسية التحية ولعبت فى ظلها بما فى ذلك معظم الحركات المسلحة ، ألا يشى هذا الملمح الغامض فى السياسة السودانية ان ساعة الصفر دائما ما هى الا انعكاسا لأزمة مستفحلة داخل قوى المجتمع السودانى ايّا كانت واينما كانت ؟ فعلى اى الميادين يحتاج هذا الوطن ان يدير عقله وقلبه ليخرج من هذه الازمة المتطاولة والمهددة لبقائه ؟

                              الخطوة الاولى للحل تبدأ بتحديد ميدان الازمة وهو بأى حال من الاحوال ليس الجيش ، فالجيش مهما تكاثف وجوده فى الشارع ، فأن امرا لا تحتاج صياغته لأكثر من كلمتين يكفى لكى يعود فورا الى ثكناته .
                             

الخميس، 14 نوفمبر 2013

فقر الفكر وجهل المبدعين


                      فى اليومين الماضيين ، اثارت مسألة لاعب النادى الاهلى المصرى احمد عبد الظاهر جدلا جديدا فى حياة مصر التى لم يتوقف الجدل فيها منذ فض اعتصام رابعة العدوية ، فاللاعب المذكور كان قد رفع علامة رابعة التى صارت رمزا للأسلاميين المصريين عقب فوز النادى الاهلى ببطولة افريقيا ، ونتيجة لذلك قرر النادى الاهلى معاقبته بحرمانه من اللعب فى بطولة العالم للأندية ، وحرمانه من مكافأة الفوز ببطولة افريقيا ، وعرضه للبيع .

                       العقوبة بما فيها من قسوة واجحاف واهانة للاعب مبدع ، الا ان رفعه لعلامة رابعة عقب فوزناديه ببطولة قارية ، كان استغلالا مبتذلا سعى لتجيير نصر كبير لصالح اخوان مصر وحلفائهم دون ان يكونوا قد بذلوا فى هذا النصر مثقال ذرة من جهد ، ودفع بمؤسسة رياضية عريقة كالنادى الاهلى الى اتون المعترك السياسى المشتعل بمصر ، هذا فضلا عن آثار اخرى اهمها فى تقديرى خواء هذا الفكر الذى يرى فى تعلّقه بأرجل لاعب كرة قدم مبدع سانحة للترويج عن اهدافه ، فكر يترك ميدان المنازلة الحقيقى لينتظر انتصارات ميادين الرياضة او الفن او الادب ليسوّق لرؤياته ورؤاه  بجهد الآخرين ، فكر يحمل رجل و يد و عقل المبدع ليقتله بها ويقتل ابداعه معه ويحرم مجتمعه من انبل واسمى انواع العطاء .

                       لا ادرى لماذا يلجأ بعض المبدعين ممن يحظون بشعبية متعددة الأطياف الى ان يكونوا مطيّة صارخة لتيار سياسى ، اسلاميا كان هذا التيّار او علمانيا او ايّا كان ، ولماذا تقبل تلك التيارات ان يكون عطاء ذلك المبدع خاضعا بأكمله لتوجهاتها ؟!

                         مما يحكى عن الفنان الكبير الراحل المقيم محمد وردى ، انه كان متحسسا لهذه المسألة بشدة عند اول نشاطه بالحذب الشيوعى السودانى ، وانه ناقشها مع سكرتيره الاسبق الراحل عبد الخالق محجوب الذى احلّه فى ان يغنى ما يشاء ، فغنى (جميلة ومستحيلة) و (بناديها) وسلسلة من الاناشيد التى تهز الارض ، وغنى (المرسال) و(الحنينة السكرة) و (الناس القيافة) وكان عطاؤه مرشدا الى ان ما يجمع الآخرين مع بعضهم البعض يمكن ان يكون صوت شيوعى او اسلامى ، او كما قال محمود درويش ( وصوت فيروز الموزع بالتساوى بين طائفتين يرشدنا الى ما يجعل الاعداء عائلة) .

                        ايتها التنظيمات السياسية ، ايتها الحكومات ، دعوا المبدعين فى حالهم فهم ملاذ الغالبية المكتوية بنيرانكم .

الأحد، 10 نوفمبر 2013

ضجر الليل


                       هذه الليلة اولها ضجر ، ضجر يزحف امواجا امواجا ويضرب فى الداخل مباشرة ، يضرب مثل (تسونامى) قادم من فوضى فلكية اهتزت لها الكواكب ، يضرب ويضرب ثم يبدأ انحساره كأبن آدم يخارج فى الروح ، و يمضى مخلفا حولك كل دواخلك ، يا للهول ! انت الآن حبيس فى وسط (خرابة) نفسك ، كل هذا (الكرور) الذى يحيط بك لا يغرى بالأستمرار ، كل هذا (الكرور) الذى يحيط بك ، يغرى بالرحيل الى بدايات جديدة ، بدايات تفتح ابوابها على المجهول ، اقربها اليك ، تلك التى تلفك فى كفن وتعود بك الى اصلك ، لا تتهرّب ولا تتضارى ولا تحتال ، هذا انت او هذا تأريخك الذى كنته حتى هذه اللحظة ، انفجر فيه او فجّره حولك ، او اعمل بقول كريم الوجه (رض) الامام على ( ليلزم كل بيته ويبكى خطيئته) .

                      ابك واسأل دموعك ان تغسل خطاياك وان تغسل خساراتك وان تغسل ما خلّفه القهر والظلم والحرمان المستوطن داخلك من سواد ، ابك واسأل دموعك ان تسيل خمرا فى طريق العاشقين او ان تسيل نارا فى طريق الطغاة المستبدين ، هل تعرفهم ؟ اعنى الطغاة المستبدين ، هل تعرفهم ؟ اوّلهم ذلك المدرّس الكريه الذى استقطع من نمرك العالية وفاءا لوعد فاجر ، ليعلو عليك تلميذ فى صفّك ، معرفته بفك الخط كمعرفته بتنظيف مناخيره المتخمة بالقذارة ، هذا المدرّس الكريه الذى قابلك اوّل عهدك بالمدرسة ، هو اول الطغاة المستبدين ، واول الخونة الفاسدين ، والبقية التى صادفتها فى تأريخك الذى يحيطك الان بكل هذا الكم الهائل من (الكرور) ، هذه البقية من اصغرها الى اكبرها والى اكبر اكبرها ، صورة مستنسخة من ذلك المدرّس الذى خان امانته وجعل سلطته اسيرة لهواه ، هكذا حمى و يحمى عالمنا اساسه الفاسد .

                    لا تلتفت الى هذا (الكرور) الذى يحيط بك ، فهو ليس لك ، انه مخلّفاتهم ، تشبههم تماما ، اصففها على حبل وعلّقه على سور منزلك حتى يروا عوراتهم معروضة على الشارع ويروا كيف يتأفف المارة من نتانتها او من نتانتهم ، ثم احمل عشقك الاكبر فانوسا يخرجك من عتمة هذه الليلة المضجرة ، وناجى مع مولانا جلال الدين الرومى (ايها العشق اما ان تسقنى المزيد من الخمر او تتركنى وحدى) ولكنك لست مثله ، فهو يقف فى لحظة مناجاته خارج كوكبنا هذا ، خارج زحامه وتزاحمه ، خارج حلاله وحرامه ، خارج موته وحياته ، فهو يقف فى تلك اللحظة امام من بيده بداية كل شىء ونهايته ، وانت تقف الآن وسط هذا (الكرور) الذى يحيط بك ، فليس امامك سوى ان تحمل عشقك الآصغر فانوسا يخرجك من عتمتك الى حيث وجهها المضىْ ، ثم غن لها بشغف فتى (تعالى .. تعالى) .

الخميس، 7 نوفمبر 2013

دفاتر التاجر المفلس


                      المعروف ان التاجر حينما يفلس يقوم بمراجعة دفاتره القديمة ، اما بحثا عن ديون مرجأة او معطّلة او مراوغة ، او ربما بحثا عن جمايل سابقة جاء وقت استردادها ، ولقد كان من الغرابة بمكان ان تتعامى وزارة المالية عن هذا المبدأ وهى فى عمق ازمتها المالية ولا تنظر الا الى جيوب غالبية الناس الخاوية ، وحسنا فعلت فى موجهات موازنتها للعام المالى 2014 بأدراج مراجعة الاعفاءات الضريبية ضمن بنود موجهاتها ، وبالرغم من انه جاء بندا خجلا متواريا داخل حزمة الموجهات ، الا ان مجرد ادراجه يعد عملا تستحق عليه الثناء بغض النظر عن كونه واجب ضرورة .

                       ولكى يكون الناس فى هذا البلد على بيّنة من امور اموالهم ، فأن الواجب يحتّم على وزارة المالية نشر بيانات مفصلّة بحجم الاعفاءات ونسبة ما تشكله من فاقد على الخزينة العامة ، ونسبة ما حققته على صعيد الانتاج والانتاجية فى المجالات التى تمت فيها الاعفاءات ، وليس هنالك فى تقديرى موضوع على قدر عالى من الاهمية يستوجب المناقشة المستفيضة والمفتوحة مثل موضوع الاعفاءات الضريبية .

                         فبجانب الازمة الاقتصادية القائمة الآن، فأن المراجعة لهذه الاعفاءات تحرر ادارة اقتصاد ومالية البلاد من العراقيل التى تدفع البعض للتهرب الضريبى والبعض الآخر للهروب نهائيا من انشطته بسبب ازدواجية معايير الاعفاء التى تمنح للبعض وتمنع عن البعض الآخر فى ذات النشاط الذى يشتركون فى ممارسته ، فثمة مسألة اخلاقية هنا لابد من حسمها لتحقيق مناخ عادل للمنافسة بأعتبارها احد اهم محفزّات انعاش الاقتصاد سواء على صعيد الانتاج او الخدمات .

                        وبلغة رجل الشارع البسيط ، اذا كانت المالية لم تنفك طوال ايام هذه الازمة تصرح بعجزها المالى فما معنى هذه الاعفاءات ونحن جميعا نعلم ان (العفو عند المقدرة) ؟

                         ليس من العدل سوق الاتهامات جزافا ، ولكنى على يقين ان المراجعة لهذه الاعفاءات الضريبية وغيرها من اعفاءات اذا تمت وفق معايير قانونية واخلاقية صارمة ، فأن العائد منها سيرفع عن كاهل المالية ثقلا مقدرا ، و يجفف فى بعضها من جانب آخر احد مصادر الثراء الحرام .

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...