السبت، 28 أبريل 2012

قهر الأسئلة

        
                   تقهرك الأسئلة وانت تطالع  هذه القصيدة المعقدة الى لم تنته بعد ولن تنتهى ابدا ، تصدمك بغضبها الحاد الذى يصعد بك الى اعلى درجات العنف ، متوسلا فى ذلك بالتحريض مرة وبالفضيحة مرة وبالامانى العذبة مرات ومرات ، ثم تحلّق بك فى لحظات صفائها وعشقها الى عوالم زاهية بالجمال ، فتعشق الحياة حتى الموت ، لكنها فى ساعات انكسارها ، تهبط بك الى قاع الهزيمة المرة ، لتستقر الهزيمة بمراراتها فى حلقك كالشجا .

                    وتجدها فى حالة صعودها وتحليقها وهبوطها ، حياة دافقة بحب الناس الأغلبية ، فتخشى من فرط شغفك بها ومن فرط شغفها المسكون بحب الناس الأغلبية ، والمندفع بهم نحو حلمها المستحيل ، ان تأخذك معها الى مصيرها المفجع .

                    هذه القصيدة تدعى عمر الطيب الدوش ، فأبدأ بحثك عنه من حيث شئت ، فأوله مثل اوسطه مثل آخره يقودك اليه مباشرة .. يقودك الى حلمه المستحيل .. يقودك الى قهر الأسئلة . لم هذه النهاية المفجعة لأغنية صبية للحياة ؟ ثم تدور فى رأسك الطواحين بحثا عن اجابة ، فالنهايات تعقل ولكن اين تكمن الفاجعة ؟

                    لا تتعب كثيرا ، التفت يمينه او يساره .. امامه او خلفه .. فوقه او تحته ، ستجد اطيافها تلوح فى آفاق حبه العميق للوطن ، الوطن الجميل الكائن فى عالمه النبيل ، وانكسار هذا الحب على ارض الوطن الحقيقى :

                              واكتب عن بلد مجروح     وعارف الجارحو ليه جارح
                               وابكى على وطن ممدوح   وعارف المادحو ما مادح

                                                     00000000000

                                             
                                واخت ايدى البتوجعنى      على السأم البراجعنى
                                 واسأل يا وطن يا بيتنا       ليه شوقك مواجعنى
                                وليه تاريك زمن خاسر     موكر لسه فى شجنى

                                                    00000000000

                                واصرخ يا وطن يابيتنا         ليه ما تبقى لينا الساس
                                قدر ما تجرى فى شريانا       يبقالنا (السكن) ترباس

                                                  0000000000000

                  والقوسين فى البيت الأخير من عندى ، فموقع الكلمة يتحمّل قراءة ثلاثية الابعاد ، اذ تبدو الكلمة بين القوسين قراءة حرفية للنص متسقة تماما مع جوهره ، ولكنها لن تمنعنا من قراءتها بتبديل الكاف جيما ، لتظل قراءة متسقة مع وقائع وواقع معاش لدى كثيرين ، اما قراءتها بتيديل النون الى حرف الراء فهى الراجحة عندى ، فقد امتلأت شرايينه بحب الوطن وامتلأت به حتى فاضت ورحل رحيله المفجع ، ويقهرك السؤال : من اين جاءت هذه القوة التى دفعت بمحبى الوطن المبدعين الخلاّقين الى كهوف العزلة والخاتمة الفاجعة ؟ حتى صار حب الوطن طريقا قصيرا يفضى الى العزلة والخاتمة المفجعة ؟!

                 ما اجملهم !! مثل الفراشات كانوا ولكننا لم نقدر هذا الجمال الشفاف المحلّق دوما نحو الضوء ، بل اخذتنا عزتنا بالأثم ان نتسابق لاهثين ، لنحتل مقعدنا فى مسرح التجاهل كى نرى مشهد احتراقهم الأخير ، ترى اين تكمن الخطيئة ؟ أهى فى عالمنا ام فى عالمه ؟ وهل هى خطيئة حين طالب (لازم تعرفو الظلم جائى من وين عليك) ؟ ام هى خطيئة حينما هتف بأعلى صوته (الحق فى ساحة مجزرة) واردف (شد الضراع) ؟

                 لا توجد هنا خطيئة ، فهذه هى لغة الناس الأغلبية عندما يشتد عليها الظلم ، رغم علمها انه فى المنطقة الواقعة ما بين (ساحة المجزرة) و (شد الضراع) يبدو الخير والشر مكمنا للقاتل والمقتول ، او منطقة جديدة تضاف الى (ساحة المجزرة) وهنا تكمن المأساة ، ذات المأساة التى رأتها الملائكة بتفاصيلها الدقيقة من قبل بدء الخليقة وقالت (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)  وكم شهدت العصور الممتدة منذ بدء الخليقة وحتى قول عمر الدوش (الحق فى ساحة مجزرة)  خوف وعذاب وجوع ومرض وموت وقتل الأنسان بسبب الفساد وسفك الدماء ، ولولا علم الله .. لولا الرسل والانبياء .. ولولا الصالحون من البشر ، لكانت حياتنا هى الجحيم الذى ينتظر اهل تلك الساحة ، فلم ربط حلمه بنهايتها وهو يعلم علم اليقين انها باقية ما بقى الأنسان الذى يعرفه واعرفه ويعرفه الكثيرون ، بل هى قائمة داخل انانيتنا منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا والى ايامنا القادمات ، فأيهما اجدى معها : (شد الضراع) ام شد النفس الأمارة بالسوء ؟ فالنفس الأمارة بالسوء هى مفرخة الفساد وسفك الدماء ولا يلجمها شىء سوى شد اللسان .

               يا له من حلم قاتل ، لازمه حتى وهن ولم يهن ، لازمه حتى مات ولم يمت ، وظل يعصر فيه عصرا حتى تدفق من عذب اغانيه صدى جميلا طيّبا لكلام قالته الرسل والانبياء وظل يقوله الصالحون على مر الزمان :

                     قتليهو يا عمدة اختشى       مسئول كبير غير الله فى الحلة انعدم

               يا لقهر الأسئلة .. أزاهد ضلّ طريقه الى الثورة ام ثورة ضلّت طريقها الى زاهد ؟! لماذا لم يفوّض امره الى الله وهو يعلم ان الله اكبر ويترك (ساحة المجزرة) لعمدتها وفاسديها ومفسديها وقتلتها ؟ فهو يعلم ويعلم ان كثيرين من قبله علموا ان الحق المهضوم داخلها ما هو الا جيفة ظلّت تستعر بين اهلها جحيما تلظوا به حتى تقيأت شوارع الناس الأغلبية من نتانتهم ، فلفظوها ولفظوا اهلها زاهدين ، مالهم وهذه القذارة ؟ ما اجملهم وهم يدندنون (صحيح انو الزمن غلاّب لكن انحنا عشناه ومشينا على عذاب .. عشناه ومشينا نفتح للأمل ابواب) ويدندنون للصبر الذى عاشوه مع طول الألم والليل هكذا هى حياتهم ، عزيزة عليهم رغم ما يكابدونه فيها من مشقة وعناء وعنت ، فهم على يقين بأنهم فى خاتمة هذا النصب سيظفرون بلقياها بقلب سليم ونفس راضية مرضية ( يا ايها الأنسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه ) فالحياة هنا بكل ما فيها ما هى الا انتظار لهذه اللقيا ، وهذه اللقيا تطلبك فى رحلة طويلة شاقة ، تقطع فيها المسافة من مولدك وحتى مماتك دون ان تلوّث مسيرك بالفساد وسفك الدماء ، دون ان تلوّثه (بساحة المجزرة) عندها تكون من الناضرين الناظرين الى الجمال الخالد.. الى نور السموات والأرض .. الى (الشوق المشيت ليهو وغلبنى اقيف) الى الله رب العالمين ، فأيهما اجدى للأنتظار : (شد الضراع) ام شد الوتر الحنين حينما يغنى :

                         بتطلعى انت من غابات ومن وديان ومنى انا
                       ومن صحية جروف النيل مع الموجة الصباحية
                        ومن شهقة زهور عطشانة فوق احضانه متكية
                        بتطلعى انت من صوت طفلة وسط اللّمة منسية

سيجيب الجمال المتدفق فى هذا الكون البديع ، وسيجيب جمال الناس الأغلبية (شد اللسان) فالحياة اسمى من ان تهدر فى الفساد والعنف والدماء ، فنحن هنا يسطع فى سمائنا تأريخ زاخر بالحكايات الحيّة ، حكايات عن رسل وانبياء وعن رجال صالحين ، حين اشتد بهم الظلم صبروا ونظروا ، ثم اشتد بهم الظلم اكثر فرحلوا مهاجرين رغم حبهم الدافق لأرضهم واهلها اجمعين ، وقصدوا مناطقا نائية لم تطأ ارضها اقدام بشر من قبل ، اقاموا فيها بيوتا اتقوا بها مفازة من الفساد وسفك الدماء ، اتقوا بها مفازة من (ساحة المجزرة) فأصبحت عواصما ومزارات يأتيها الناس من كل فج عميق ، وتقهرك الأسئلة من جديد ، ما الذى قاده الى (ساحة المجزرة) و (شد الضراع) وهو الذى يقول :

                           تجينى يجينى معاك زمن امتع نفسى بالدهشة
                     طبول بتدق وساحات لى فرح نّور وجمّل للحزن ممشى

فهذا الرجل تأبى عليه رقته ان يطرد الحزن الا بعد ان يزفه عروسا مزيّنة تتهادى خارجة بين وهج الاضواء الملوّنة وصخب الطبول واغاريد الفرح ، فكيف تستقيم دعوته الى (شد الضراع) ومواجهة (ساحة المجزرة) مع هذه الرقة البالغة ؟! ربما قاده وعيه الثاقب بمخازى الظلم الى ضرورة تلك الدعوة ، ولكن كيف يستطيع وعيه الثاقب ان يتخطى حاجز هذه الرقة البالغة التى جعلت منه كائنا شفيفا مثل طيف سماوى يحزنه طرد الحزن ؟! كيف فات على وعيه الثاقب ان هذه الرقة البالغة التى طالما فاضت بالأغانى العذبة هى مفازة وجدان الناس الأغلبية وهى ساحة فرحهم التى يشدون اليها الرحال ليتقوا بها مفازة من عذابات ايامهم ، فيا للرقة حين تغنى :

                         انا يا سعاد وكتين تطلى سحابة رقّصت الدعاش
                     بفرش على روحى وبجيك زولا هلك تعبان وطاش
                    لامن اشوفك ببقى زول فرشولو فرش الموت وعاش

ويا للرقة حين تغنى :

                                  وتمشى معاى وسط روحى
                                  وتمشى معاى وتروحى
                                  ولا البلقاه بعرفنى ولا بعرف معاك روحى

يبدو لى احيانا ان داخله صار ارضا محايدة احتضنت (ساحة المجزرة) وساحة الفرح توأمين ، واخذ يغدق عليهما  لآخر عصب لديه حتى صارتا وجعه الدائم ، يأتيه النداء من هذه فيستجيب لها فارسا مدججا  بالغضب والعنف والعزيمة :

                            واسأل عن بلد غاطس لحدى الليلة فى الوجعة
                        انط فوق سرجى واتحزّم اقوم من وقعة لى وقعة
                                  وتبقى الفوتة هى الرجعة  

   وحين يأتيه النداء من تلك ينسى معها نصب الدنيا ويستل من ركام بؤسها العتيد فرحا عتيّا :

                    دقت الدلوكة قلنا الدنيا ما زالت بخير اهو ناس تعرس وتنبسط
        دككت فى الراكوبة بالحنقوقة سروالى الطويل سويتلو رقعات فى الوسط
                                  فى  خشمى ختيت القميص اجرى وازبد شوق وانط
                  لامن وصلت الحفلة فجيت الخلوق وركزت شان البنت سعاد

ومن قبل قادت البنت (سعاد) اعذب الشعر ونثرته بين يدى اعظم الخلق  حتى قال (ان من البيان لسحرا)  ثم نثر العفو بردة على (كعب) فأعذب الشعر فى تأريخنا مثل الملوك يعفو ، وعمر الطيّب الدوش حين يشد لسانه يلقى ملكا عفوا يمشى فرحا بين الناس بينما كان يمشى كرها نحو العزلة يصلصل التعب من تحت قدميه :

                                  وانا جائى راجع منتهى
                                                    لاقتنى   هى
                                                         قالت لى  تعال
                                  كبرت كراعى من الفرح
                                                   نص فى الار ض نص فى النعال

هل رأيت هذا القول ؟! فجمال صورته تضاهى اعظم اللوحات الشهيرة ، من كان يتصور ان تخرج مفردة من محبسها الضيّق لتضفى على تلك الصورة معنى عميقا لمشاعر الحب واللهفة والوله ؟! مفردة كأنها ولدت لتوها من رحم اللغة واكتسبت بهاءها وسحرها وزهوها فى سياقه الشعرى ، كأنها ولدت لأجله وحده ، فتعجب  حين تراها تشع  أهى ذات المفردة  التى تجفل لرؤيتها فى زمن القصيدة ؟! .. (كراع) (نعال) .. ترى كيف استطاع ان يتخطى هذا الحاجز الصعب ؟! ابالعزلة فى وجهها الزاهد ام بالعزلة فى وجهها الرافض ؟! يحيّرنى امره فكلا الوجهين فيه :

                                 اذّنت فى الشوك والسلم
                                 ووقفت للعرقى البكر
                                 ورقدت فى الألم الحكر
                                 وحلمت زى شايلنى وسط اللّمة نبى الله الخضر
                                 صحانى صوت العمدة قال مسئول كبير زائر البلد

لو كنت مكانه لسددت اذنىّ بالطين والعجين وحوّلت حزنى وغضبى وألمى الى صبر جميل وتبعت الخضر فى حلمى ولأستطعت معه صبرا ، لكنى اعلم انه حلم مستحيل (حلم مسروق لا هو الليلة لا امبارح)  ففى هذا البلد وفى كل بلد ومنذ الازل والى الأبد ظلّ  حلم الناس الأغلبية مسروقا من المهد الى اللحد ، ولا شىء يعادل هذا الفقد سوى صوت جميل يكافئهم بالأغنيات العذبة :

                                   احبك   لا الزمن حوّلنى عن حبك ولا الحسرة
                                   وخوفى عليك يمنعنى وطول الألفة والعشرة
                                  وشوقى الليك لسه معايا ولى بكره

                كل هذا الغناء الذى يفيض عذوبة ورقة .. كل هذا الغناء الذى يتفجر بركانا من غضب كان تجسيدا حيّا لأيامه التى عاشها على الآرض ، ولولا اننى شاهدته عليها لقلت ان كل هذا الغناء محض مخيلة غنية وهى كذلك ، لكنها كانت  ألما وعذابا وخاتمة مفجعة ، ويبقى السؤال قائما آناء الليل واطراف النهار ، لم هذه النهاية المفجعة لأغنية صبيّة للحياة ، تموت وعلى يدها مر الشراب .. انها ذات اليد التى تدفقت منها الكلمات غناءا وطربا واناشيدا وحكايات اخرجتها على المسرح دراما اذهلت معلميها قبل المشاهدين ، انه اغنيتنا المنحوتة فى وجداننا.. المحلّقة دوما من جيل الى جيل .

                 اللّهم هذا هو عمر الطيّب الدوش الذى احبك واحب خلقك المتعبين الذين يحبونك فأحبوه فبأسم هذا الحب اللّهم اعفو عنه واغفر له وارحمه وادخله جنات تجرى من تحتها انهار كما يشتهى ، فيها لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر بقلب بشر ، اللهم آمين .

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...