السبت، 24 ديسمبر 2011

عيون كونداليزا رايس


                 هل كانت نبوءة ام كانت قراءة دقيقة متأنية لواقعنا العربى ؟ اهي مؤامرة تمت حبكتها ببراعة متناهية وحان اخراج فصولها الدامية مع الربيع العربى ام كانت تحذيرا صادقا مثل شجرات زرقاء اليمامة ؟ الأسئلة لا تنتهى حول ما يجرى فى الشارع العربى الآن ، وحول ما سيجرى فى مقبل ايامه ، حين تأخذها مصحوبة بخيارات كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الامريكية السابقة التى خيّرت المنطقة ، بين مشروع الشرق الاوسط الكبير او الفوضى الخلاقة ، ولأننا الآن نعيش فى زمن تمسك الفوضى فيه بتلابيب اهم شوارع المنطقة ، وتلوح اياديها فى الآفاق لتمسك بأخرى يظنها اصحابها والكثيرون عصيّة على الفوضى ، فأن السؤال الأهم والأكثر الحاحا هو اننا ادركنا الآن من اين تخرج الفوضى  لتأكل اكتافنا وادركنا مكامنها المتعددة وعجز حيلتنا تجاهها ، فمن اين نمسك بخيوطها الخلاّقة لنختصر طريق الدماء والدمار الذى نخوض فيه الآن ؟

                  مشروع الشرق الاوسط الكبير ليس خيطا وانما خريطة بعيون خارجية تبين مواقع التصادم مع مصالحها القائمة بالمنطقة ، او مواقع التلاقى مع تلك المصالح ، والحصافة تقتضى ألا يكون رفضه او قبوله مشروعا لمواجهة الازمة القائمة بالمنطقة ، فالأزمة بالمنطقة لها جذورها التأريخية القائمة فى صراعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ زمان بعيد ، ولها تأثيراتها السالبة ليس على السلم والامن الدوليين فحسب وانما على انسانها المسحوق تحت وطأة انظمة واستراتيجيات وايديولوجيات طالما اتخذت منه وقودا لمشاريعها بطابعها الاقصائى ، الحصافة تقتضى قبل ان ننظر لهذا المشروع المطروح بديلا للفوضى التى نعيشها الآن والموعودون بها فى مقبل الايام ، ان ننظر لبنية واقعنا بكل تعقيداتها وتناقضاتها ونبحث عن مدى قدرتنا على التعايش معها فى ظل الاطر السياسية القائمة دون ان يكلفنا هذا التعايش اشكال القمع والحروب والمجازر التى صارت سمة فى تأريخنا على مر العصور ، ثم ننظر بعد ذلك ما يمكن ان يتيحه لنا هذا المشروع من امكانيات لجعل الحياة داخل هذه الاطر مستقرة و آمنة وكريمة  .

                    عيون المصالح هى التى رأت بها كونداليزا رايس اعاصير الفوضى التى خرجت فى معظمها من ثنيات المنطقة واطبقت عليها ، والمصالح لا تتغير بتغير من قال بها بل هى تمضى قدما يوما بعد يوم خصما على ارصدة كثيرة فى المنطقة ، فعيون المصالح هى التى صعدت بحذب النور السلفى المصرى الى المركز الثانى فى الانتخابات وهى التى رأى بها  فرص قبوله الواسعة على الصعيد الاقليمى والدولى حينما اجرى مقابلته مع اذاعة الجيش الاسرائيلى واعلن قبوله بالاتفاقيات المبرمة مع اسرائيل ، ويبدو انها ماضية لتدفع المنطقة لتكون تحت قبضة ممثلى هذه الاتجاهات التى اكتشفت فى المصالح قوة اكبر من المبادىء والشعارات التى اغرقت المنطقة فى الخصومات والكراهية والاقصاء .

                    ان اكثر الكلمات تداولا فى عالم اليوم هى كلمة (مشاركة) وتبدو مفتاحا رئيسا لفهم المعايير التى تحكم طبيعة التعاطى الناجح مع المشاريع المطروحة فى عصرنا الراهن ، فلنبنى عليها موقفا جديدا يمكننا بألا نرفض المشروع كله او نقبله كله وانما نبحث لنا عن منفذ فيه يتيح لنا فرصة مشاركة تجنبنا المخاطر الناتجة من عنت الرفض ، بمعنى آخر ، ان تكون شريكا افضل من ان تكون عدوا ، بمعنى اكثر دقة ، كلما اتسعت ارضية المشاركة فى حياتك السياسية والاجتماعية والاقتصادية كلما اتسعت دائرة امانك وفوائدك ، وليس هنالك من حل سوي الديمقراطية .

الخميس، 15 ديسمبر 2011

العراق : فرح وخوف


                 اوفت ادارة اوباما بألتزامها امام ناخبيها بأنهاء احتلال العراق ، وطوت بذلك صفحة سوداء فى تأريخ سياستها الخارجية هزّت كثيرا من المبادىء والمعايير التى حكمت امان العالم عقب الحرب العالمية الثانية ، واشعلت كل مخاوف الشعوب من ان يصير شطط القوة ، آلية وحيدة لحل الخلافات ، فهو حدث يبدو فى تقديرى علامة مميزة فى تأريخ السياسة الخارجية الامريكية وفى تأريخ التواجد العسكرى الامريكى بالخارج ، فبأستثناء فيتنام ، فأن الوجود العسكرى الامريكى فى بعض انحاء العالم ، مضى على انتشاره اكثر من نصف قرن من الزمان ، ولا يلوح فى الافق ما يشير الى اعادته ، وكوريا الجنوبية خير مثال ، لذا يبدو انهاء هذا الوجود بالعراق رغم ظروفه الداخلية المضطربة وظروفه المحيطة به والتى لا تقل اضطرابا ، نقلة نوعية مذهلة فى السياسة الامريكية .

                 لاشك ان فرحة معظم العراقيين بهذا الحدث الكبير ، لا تضاهيها سوى فرحة اسر الجنود الامريكيين بعودة ابنائهم سالمين الى ديارهم ، وربما فرحة آخرين من دول الجوار كأيران وسوريا اللذين شكّل الوجود العسكرى الامريكى بالعراق تهديدا مباشرا لهم ، الا انه وبالمقابل هزّ انهاء الوجود العسكرى بالعراق امان اطراف عراقية بدت بعده قوة ضعيفة و مكشوفة امام خطر السطوة الطائفية والعرقية والمذهبية ، كما هزّ من جانب آخر امان دول الجوار الخليجى بعد ان كان يمثّل لها درعا واقيا من مخاوفها الناتجة من احتمالية التمدد الايرانى بكل محموله التأريخى والمذهبى .

                   وفى ملتقى الفرح والخوف هذا ، يصبح العقل السياسى الحاكم فى العراق محاصرا بتحديات كبيرة ، لا مخرج منها فى تقديرى سوى ان تقف السلطة الحاكمة فى العراق ايا كانت توجهاتها ، على مسافة واحدة من مجمل مكونات العراق ، وعلى مسافة واحدة مع دول الجوار ، وهى مسألة لا تكلفها سوى مد حبال الثقة داخليا وخارجيا وتوفير ضماناتها اللازمة ، فالنهج السياسى الحصيف يبدو احيانا اقوى من كل الجيوش واكثر قدرة على حماية استقرار الوطن ومحيطه الاقليمى ، وهو الدور الذى ينتظر ان تلعبه بجدارة .

السبت، 10 ديسمبر 2011

اسير فى زى رئيس


                   الادارة الامريكية اخذت اقوال ( الرئيس ) بشار الاسد التى ادلى بها لقناة (ايه بى سى ) وفقا للمعايير التى تأخذ بها اقوال رئيس قائم فى دولة مؤسسات محكومة بدستور كلمته هى الفصل ، او اقوال رئيس ديكتاتور فرد ممسك بكل مفاصل الدولة كلمته هى الفصل ، او اقوال ملك مطلق الصلاحيات ، بمجرد ان يصدر اى منهم قرارا يصبح واجب التنفيذ ، بينما فى الواقع ، ان تركيبة بعض انظمة المنطقة ومن بينها النظام السورى ، تتسم بقدر كبير من التعقيد بحيث يصعب معها ادراك مواقع القوة الحقيقية الممسكة بالسلطة من وراء الكواليس .

                  والمتابع لتصريحات بشار الاسد منذ اتجاهات النظام نحو الاصلاح التى برزت فى 2005 مرورا باغتيال رفيق الحريرى ، خاصة تلك التى اعقبت ردة فعله الاولى لعملية الاغتيال ، وتصريحاته التى اطلقها فى 24\3\2011 والتى جاءت واضحة ومباشرة للأجهزة الامنية وعلى الهواء مباشرة ، وقضت بأطلاق سراح المعتقلين وعدم اطلاق النار على المتظاهرين ، يكتشف ان الرجل يقف فى صف الحق والاصلاح ، ولكن القوة النافذة فى سوريا ، تعقب دائما تصريحاته ومواقفه بفعل مضاد تماما لما نادى به وأمل فيه الكثيرون ، وتجبره للتراجع لاحقا ،ولم يعد الامر يحتاج الى كبير عناء ليدرك المرء ، ان الرجل مجرد من اى صلاحيات ، وانه لم يكن ومنذ توليه رئاسة هذا البلد سوى واجهة جذابة تختفى وراءها عصابة شديدة القسوة ، وتحوّل الآن الى مجرد اسير فى زى رئيس .

                   ثمة قوة نافذة فى سوريا رابضة خلف الكواليس منذ عقود اربعة ، لم يستطع والده ان يفعل تجاهها شيئا رغم ان بصمتها كانت واضحة فى مقتل ابنه باسل الذى اعده لخلافته ، هذه القوة النافذة هى التى دفعت عبد الحليم خدام احد رموز النظام للهروب بجلده ، وهى التى دفعت الآن بشار الاسد ان يقول ما قاله لقناة (ايه بى سى) وهو قول يبدو فى تقديرى اشبه بصرخة استغاثة ، منذرة بأن هذه القوة النافذة تعد لفعل رهيب اكثر فداحة مما شهدناه على ارض سوريا على وشك الوقوع  ، وكأنه يستجدى العالم لفعل شىء لأيقافها .

                 

الثلاثاء، 6 ديسمبر 2011

الكويت : هدم المرجعيات


                فى الكويت مرجعيتان يشكلان جوهر هذه الأمارة الفريدة فى الخليج ، المرجعية الاولى هى بلا شك عائلة الصباح ، العائلة التى تحظى فى النظام العشائرى الابوى الذى يحكم الخليج ، بتقدير واحترام خاص على الصعيد العربى التوّاق للحريات السياسية وعلى صعيد العالم الحر ، وذلك لأيمانها المبكر بضرورة حق الشعب الكويتى فى صنع القرار ، وبحقه فى ابداء الرأى والتعبير والتنظيم ، وبالتالى ايمانها من دون كل العائلات المالكة فى الخليج ، بجدوى الديمقراطية نظاما امثلا للحكم ، وتمسكها به رغم الهجمات المستمرة التى ظلّت تستهدفها من الداخل الكويتى والخارج المحيط بها .

                 والمرجعية الثانية ، هى النظام الديمقراطى القائم فى الكويت ، فهو وان كان يبدو فى نظر البعض داخل وخارج الكويت ، لم يرق بعد لمستوى من الكمال يقارب النظم الديمقراطية القائمة فى العالم ، الا انه استطاع ان يجنّب الشعب الكويتى مخازى العيش فى نفق القمع الاسود الذى اقامته معظم الانظمة العربية لشعوبها ، واتاح لمجمل مكوناته حق التنظيم والتعبير والمشاركة بما فى ذلك حركات الاسلام السياسي التى تتصدر واجهة الاحداث الآن ، بينما كان رصفائها فى البلاد الاخرى ضيوفا دائمين على السجون والمنافى والمخابى .

                 والازمة القائمة الآن فى الكويت ايا كانت اسبابها ، تمضى فيما يبدو فى طريق يقود مباشرة الى هدم مرجعياتها ، فالربط المحكم بين ادارة عائلة الصباح لشئون الكويت والاخفاقات الناتجة عن هذه الادارة سواء على صعيد اجهزة الدولة او على صعيد الممارسة السياسية ،  تؤدى بأستمرار الى المس بالنظام السياسى حتى اصبح حل البرلمان الظاهرة الأكثر بروزا فى الحياة السياسية بالكويت ، واصبحت الازمة تبعا لذلك قائمة داخل اساليب ادارة العائلة الحاكمة من جهة واساليب الممارسة السياسية داخل البرلمان من جهة اخرى مما يعنى ان كلا المرجعيتين باتتا الآن فى خطر من تطاول هذه الازمة .

                 فالعائلة المالكة تبدو فى خلفية المشهد الكويتى ، اقوى الاحذاب ، ولكنه حذب تستقوى بعض اطرافه فى الصراع العائلى حول السلطة ببعض اطراف الطيف السياسى الكويتى ، اى ان اهم مرجعية فى الكويت اصبحت مطروحة فى السوق السياسى ، الامر الذى ادى الى ان يصبح البرلمان فى تعاطيه مع القضايا المطروحة فى ظل هذا الصراع العائلى ، اشبه بتعاطى الناس فى سوق شعبى يصل التنافس بينهم الى حد العراك بالايدى ، واصبح البرلمان المرجعية الثانية فى ظل هذه الممارسات وفى ظل قرارات الحل المستمر ، نظاما عاطلا عن معالجة الازمة ، او مجرد ديكور ، اى ان اعلى مرجعيتين بالكويت تقفان الآن عاطلتان  امام ازمة ازمنت ولا مناص من  ان تتحرك المرجعيتان من حالة الجمود والتكلّس التى احاطت بمنظومتيهما الى منطلق اصلاحى يسعى الى تطوير الأسس الدستورية لكلا المرجعيتين بما يخدم استقرار النظام لسياسى بالكويت ويحمى المرجعيتين من مآلات الهدم فى ظل الاوضاع العربية الماثلة .

                  المشهد السياسى القائم الآن فى الكويت ، يعكس شكلا فظا من اشكال الجحود لنعمة غبط كثير من العرب ابناء الكويت عليها طوال عقود من الزمن ، فليحمد الكويتيون الله على حظوتهم بعائلة مالكة مؤمنة بالديمقراطية وقادرة على مواكبة تطوراتها وبنظام ديمقراطى  قابل للتطور لتلبية احتياجات الكويت السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

الاثنين، 5 ديسمبر 2011

البحث عن مصر


                  مصر فى المخيلة العربية ، مشروع دولة حديثة بدأ مع محمد على باشا ويقف الآن على اعتاب حذب النور السلفى ، الحذب الذى اربك حسابات الكثيرين وعلى وجه الخصوص حسابات الاخوان المسلمين بعد ان حصل على الترتيب الثانى فى الانتخابات ،  فأين اختفت مصر التى نعرفها ؟ مصر الازهر الشريف والبابا شنودة ، مصر جوائزنوبل ، مصر السينما والمسرح وسعاد حسنى ، مصر الشعر والقصة ونجيب محفوظ ، مصر ام كلثوم وعبد الحليم حافظ ومصر عبد الباسط عبد الصمد الذى طالما اشعل غيرة المغنيين .

                   هل كانت صورة مصر بكل جمالها ومبدعيها وحياتها التى جسّدتها فى السينما والمسرح وآلاف الكتب والمجلات ، هى الصورة الحقيقية الغالبة على ارضها ام كانت هذه الصورة مجرد واجهة براقة لدولة يخيّم على شوارعها الخلفية الظلام ؟

                   حجة القمع الممتدة منذ منتصف القرن الماضى التى يرى فيها البعض المنتج الرئيس لهذا التراجع الذى اصاب مشروعها الحداثى ، يدحضها الآن صعود الاخوان المسلمين الذين سجلوا حضورا دائما فى سجون مصر على امتداد تلك الفترة ، و كافحوا كفاحا حقيقيا من اجل مشروعهم ، بينما المشروع الحداثى ترك قائما تحت ظل قوة السلطة وبطشها ، وحينما فسدت السلطة وآلت الى السقوط لم يجد قوة جاهزة فى المجتمع المدنى المصرى تسنده ، والى ان يحظى بذلك السند ، تبدو حالة التراجع هى المرجحة فى ظل النظام الديمقراطى القائم ، ولن تفلح وعود الاخوان المسلمين بالحفاظ على حرية وسلامة الفضاء العام لمصر ولو حرصوا على ذلك ، خاصة فى ظل بروز منافس لهم كحذب النور يجيد دغدغة وجدان المجتمعات التى تعانى من الأميّة والفقر واستلابها دينيا بشكل يتصادم ليس مع الواقع المصرى الحالى فحسب وانما مع اى مشروع اسلامى مختلف   ، اضافة لمصادره المالية  الملحوظة وغير الملحوظة التى تتيح له فى ظل ظروف مصر الحالية حرية حركة اوسع من غيره من القوى السياسية .

                   من الواضح ان التيارات الاسلامية فى صعود مستمر ، وستطغى صورتهم على مصر بحيث لن يبقى من وجهها الراسخ فى الوجدان سوى جيشها الذى تتناوشه الآن بعض قوى الثورة المصرية التى يرجى ان تدرك ، انه آخر ما تبقى من اعمدة الدولة القادرة على حماية فضاء مصر من اى تغوّل .

                  

الاثنين، 28 نوفمبر 2011

مع وليد المعلّم


                 يبدو ان الجامعة العربية فى تعاطيها مع النظام السورى حول الازمة القائمة بتداعياتها الخطيرة على الشعب السورى وعلى المنطقة ، فات عليها قدرات كوادر هذا النظام التفاوضية التى اكتسبها من خلال معاركه الدبلوماسية الطويلة فى صراعه مع اسرائيل ، والتى اقنعت منظر السياسة الخارجية الامريكية هنرى كيسنجر ابان توليه ملف ازمة الشرق الاوسط عقب حرب 1973 ، فقد كان الطرف السورى فى هذا الملف هو الاشد مراسا والأكثر يقظة تجاه الاجندة التى تتسلل من خلال المفاوضات وتتعارض مع مصالحه حسبما اشار الى ذلك فى مذكراته ، وهذا ما فات على كادر او اللجنة الوزارية للجامعة العربية التى تولّت اخراج قراراتها الأخيرة واتاحت بثغراتها لوليد المعلّم فسحة واسعة للشك فى النوايا التى وقفت خلف العقوبات بأعتبارها نوايا استهدفت النظام اكثر من استهدافها الوصول الى حل يجنّب الشعب السورى الدماء والدمار ويمكنه من طىّ هذه الصفحة السوداء فى تأريخ سوريا .

                 الآن ، اعاد النظام السورى الكرة الى ملعب الجامعة ، فقد اكد التزامه بخطة العمل العربية حسبما ابان وليد المعلم فى مؤتمره الصحفى عصر هذا اليوم ، ولكى تنأى الجامعة العربية من حالة الارتباك التى ادخلت نفسها فيها بمحاولتها لعب الدورين فى هذه الازمة ، دور الوسيط الساعى الى تقريب وجهات النظر بين المعارضة والنظام للألتقاء فى منطقة وسط ، تقود الى ترتيب الاوضاع السياسية فى سوريا بحيث تكفل للجميع حقوق متساوية فى العمل السياسى ، ودور المناصر للشعب السورى واطراف معارضاته المنادية بأسقاط النظام ، ولكى تنأى من هذه الحالة المرتبكة ، عليها ان تختار وبشكل واضح لا لبس فيه اى الدورين ستلعب فى هذه الازمة وتتحمل تبعات ذلك ؟

               من جانب آخر ، فأن النظام السورى لا يزال اسيرا لحالة من العمى لم تمكنه من رؤية المهاوى التى يقف على اعتابها ، فأطروحاته حول الاصلاح وان كانت ظاهريا تاتى ملبية لكثير من المطالب التى حملها الشارع السورى فى بداياته الثائرة ، الا ان عامل الوقت قد تجاوزها ، فضلا عن ان حصرية تصميمها بيد النظام يلغى دور الآخر السورى فى المشاركة ويكرّس مبدأ وصاية النظام على شعبه وهذا بالضبط احد الاسباب التى ادت الى ثورة الشارع السورى ، فهذا الجهد غير كاف لطمأنة اطياف المعارضة خاصة مع استمرار حالة العنف التى يتحمل النظام قسمها الاكبر بأعتباره البادىء بها وهيأ بذلك للكامنين وغيرهم الولوغ فيها ، فوقف حالة العنف هى التحدى الاكبر الذى يواجهه النظام الآن .

                عامل الوقت اصبح خصما جديدا ضمن صف طويل من الخصوم التى تتربص بسوريا الآن ،  قد يكون توجه الجامعة العربية بعقوباتها اخف هذه الخصوم ، وقد تستطيع سوريا بما تملكه من اوراق ان تبطل مفعولها او ان تعكس نتائجها لتطال آخرين حسب تلويحات وليد المعلم فى مؤتمره ، ولكن حين تبلغ هذه الازمة مطابخ المجتمع الدولى والذى يبدو قريبا ، فأن هذا المجتمع لن يجد فرصة افضل من هذه لحرق الاوراق التى تمسك بها سوريا والتى عطّلت كثيرا من مشاريعه فى المنطقة ، وعندها لن يجد النظام شيئا يقايض به ما ينتظره من مصير .

السبت، 26 نوفمبر 2011

شهادة ابن هشام


                 ابن هشام هو ابو محمد عبد الملك بن هشام بن ايوب الحميرى المعافرى ، والمعافر قبيل من اليمن كبير ، نشأ بالبصرة وتلقى العلم فيها وكان اشتغاله بالمغازى والسيّر ، ومن مؤلفاته ، كتاب التيجان فى ملوك حمير ، وتوفى فى مصر سنة 213 هجرية حسب ما ورد عند السهيلى وابن كثير .

                 وفى الطبعة الثالثة للسيرة النبوية لأبن هشام (1431 ه - 2010 م دار الفجر للتراث _ القاهرة ) جاء فى ص 8 ما يلى :
( قال ابن هشام : وانا ، انشاء الله مبتدىء هذا الكتاب بذكر اسماعيل بن ابراهيم من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ولده ، واولادهم لأصلابهم ، الأول فالأول من اسماعيل الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما يعرض من حديثهم ، وتارك بعض ما ذكره غيرهم من ولد اسماعيل من هذه الجهة للأختصار الى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتارك ما ذكره ابن اسحق فى هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه ذكر ، ولا نزل فيه من القرآن شىء ، وليس سببا لشىء من هذا الكتاب ، ولا تفسيرا له ، ولا شاهدا عليه ، لما ذكرت من الأختصار ، واشعارا ذكرها لم ار احدا من اهل العلم بالشعر يعرفها ، واشياء بعضها يشنع الحديث به ، وبعض يسوء بعض الناس ذكره ، وبعض لم يقر لنا البكائى بروايته ، ومستقص انشاء الله تعالى ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية به والعلم به .) انتهى .

                   هذا هو المنهج الذى اعتمده الشيخ الجليل ابن هشام فى كتابته للسيرة النبوية نقلا عن ابن اسحق ، ولأن ابن هشام مجبول بالصدق والأمانة ، بدا حريصا من خلال تقديمه اعلاه ان يحيط القارىء علما ، بان الأختصار والتحقيق كمشروع رئيس فى اعادة كتابة السيرة النبوية ، لم يكن وحده الهدف القائم فى كتابتها وانما ايضا اسقاط بعض ما ورد بسيرة ابن اسحق بيّنها بكل جلاء فى الآتى :

                   1-اشياء بعضها يشنع الحديث به .
                   2- اشياء يسوء بعض الناس ذكرها .
                   3- اشياء لم يقر (البكائى) له بروايتها .
              
                  لاشك ان ثقافة ومعرفة ذلك الزمان التى شكّلت رؤية جماعة من الناس للسيرة النبوية ، هى التى املت على ابن هشام ان يسقط من السيرة الأشياء المشار اليها اعلاه ، ولا تثريب عليه اذ يكفى حرصه على ذكرها دلالة على تبرئة ساحته من اى غرض ، ولكن هذا النهج صار ثقافة راسخة فى تناول السيرة النبوية و تراثنا الاسلامى بحيث لم يسلم ابن هشام نفسه منه ، فثمة كتاب صادر بعنوان (تهذيب سيرة ابن هشام) لكاتبه عبد السلام هارون ، هذا بالاضافة الى سلسلة من كتب السيرة يعود بعض كتابها لعصرنا الراهن ، فما هو سر هذا الشغف الغريب  تجاه اعادة انتاج تراثنا الاسلامى ليتلاءم مع رؤى ورؤيات جماعة من الناس تفصل عصرهم عن وقائع ذلك التراث قرون طويلة ؟ وما مدى اتساع عمليات اعادة الانتاج هذه ؟.

                 يبدو لى ان تراثنا فى حاجة الى اجتهاد فرق من الباحثين لأخراجه على صورته الأولى التى خرج بها من قبل ، وفى حاجة الى علماء للوصول الى سر هذه العقلية التى لا ترى استقامة دينها على مر العصور الا اذا تمّ تحوير تراثه واعادة تشكيله لتتلاءم مع حدود ثقافتها ومعرفتها ، وسر احجامها عن طرح ارآئها فيه بدلا من التستر وراء هذا النهج  ، ولأبن هشام الشكر والأجلال على هذه الشهادة الناصعة .

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2011

لا تقبروا هذا الخيار


                  لقد طالت الأزمة فى السودان وتطاولت الى حد بدت فيه تداعيات ملفاتها المرئية بكامل تفاصيلها الخطرة ، اقرب الى ان تعصف بالوطن او ما تبقى منه قبل ان تعصف بالنظام القائم ، وان يطرح فى هذا الوقت العصيب مشروع حكومة واسعة او قومية او سمها ما شئت ، يبدو طرحا عقلانيا ومسئولا وحريصا على سلامة ما تبقى من هذا الوطن وامنه ، ويبدو هذا المشروع افضل الخيارات المتاحة لقطع الطريق امام الشياطين الممسكة بملفات هذه الازمة والمتأهبة للأمساك بشوارعنا لتحيلها الى (قيامة) يصطلى بجحيمها الجميع .
                 والقوى السياسية على مستوى القادة حاكمة ومحكومة ، واعية ومدركة بأن الخلاص من هذه الازمة يكمن فى مشروع حكومة تمكّن جميع القوى بالبلاد من الاسهام فى صنع حاضرها ومستقبلها ، ولكن الاستجابة لهذا المشروع بدت متباطئة ومترددة ومراوغة ، ولا ندرى حقيقة اسبابها فى ظل التصريحات المتضاربة من اطراف الحكومة والمعارضة القائمة بعملية التفاوض ، ولكننا ندرى ان بقاء الوضع الحالى على ماهو عليه نتيجة لفشل هذا الخيار من شأنه ان يهيىء المناخ لذات الاجندة التى نجحت فى فصل الجنوب فى سهولة ويسر ان تمضى فى انجاز ما تبقى لها من مهام ، لنصحو قريبا ونجد ان حدود الوطن الجديدة لا تسمح لك بعبور احد انهاره او سهوله او جباله او بحره ، فضلا عن ان الاحتمالات المرعبة.التى ستترتب على انفجار الاوضاع قد تصبح حقيقية ويصعب تداركها حينذاك .

                 لاشك عندى فى ان رؤية قادة هذا الوطن الذين قبلوا بهذا الخيار ، سواء فى النظام او المعارضة ، تختلف من حيث اتساعها وشمولها لحجم المخاطر المحيطة بنا ، عن رؤية بعض القيادات من الطرفين ، وعن رؤية قواعدهم المحكومة بتأثيرات التنافس والمصالح وتصفية الحسابات والغبن المتراكم على مدى اكثر من عقدين ، وما يدعو للقلق والمخاوف هنا ، ان تنجح هذه القيادات والقواعد فى قبر هذا الخيار ، وجر البلاد الى مواجهات يصعب التكهن بمآلاتها ، وامامنا تجارب سوريا واليمن ، فلا قوة هذه الانظمة بتأريخها الطويل فى البطش والاستبداد استطاعت ان تملى ارادتها على ثورة الشارع ، ولا ثورة الشارع استطاعت ان تحقق الاستقرار وتعيد الحياة الى طبيعتها كما فى حالة ليبيا ، وتكفى الحالة المصرية عبرة عن مدى الصعوبة التى تواجهها الآن القوى السياسية فى عملية انتقال واستقرار السلطة وفى استكمال بنيات التحوّل الديمقراطى واعادة الحياة الى مجراها الطبيعى فضلا عن الخسائر الفادحة التى لحقت بالاقتصاد المصرى ، فالتعلّق بالقوة لفرض شروط مرفوضة من القوى السياسية المعارضة يعنى ان النظام قد اعلن بصريح العبارة بداية مواجهة لا تستطيع القوة مهما عظمت ان تحسمها ، والتعلّق بتجاربنا السابقة فى ثورتى اكتوبر 1964 وابريل 1985 لأسقاط النظام ، فكرة يعوزها ان تستوعب التغييرات التى طرأت على مكامن القوى بالبلاد والتى لعبت فى الثورتين دورا رئيسا فى حسم الامور لصالح الشارع ، وان تستوعب تأثير مواقف واتجاهات القوى الاقليمية والدولية من النظام القائم , ,والتعلق بالسلاح حلا للأزمة القائمة ، يعنى خلق ازمات بلا نهاية فى ظل الاستقطاب العرقى والاثنى والجهوى الذى صعد اخيرا على الساحة السياسية بشكل بارز .

                من جانب آخر فأن تشكيل حكومة واسعة او قومية او ايا كان اسمها ، لا يعنى قفل ملفات القضايا والمطالب القائمة وانما يعنى دخول قوى جديدة متفهمة لهذه القضايا والمطالب وقادرة على ايجاد حلول لها ، من هنا فأن على القوى الوطنية المؤمنة بالمصالح العليا لهذا الوطن ، والحريصة على مصالح هذا الشعب وحقوقه الضائعة والمنتهكة على مدى عقدين من الزمان ، ان تعمل بجد لتكون جزءا من مصادر القرار ليأتى ملبيا ومستجيبا لها ، ويستعيد لهذا الوطن وجهه العادل .

                  
                  

السبت، 19 نوفمبر 2011

جسد علياء العارى


                علياء المهدى مدونة مصرية يافعة ، انحصر اهتمامها على تشجيع الحملات المكافحة للأنتهاكات الواقعة على الاطفال ، ومكافحة القمع الواقع على المرأة من قبل منظومة ثلاثية الابعاد رأتها قائمة فى البيت وفى المؤسسات التعليمية وفى الشارع ، ولها مواقف مناهضة لظاهرة التحرش بالمرأة التى شهدتها مصر قبل الثورة وكادت ان تصبح ثقافة راسخة فى الشارع المصرى ، وكانت ضمن المؤآزرين للدكتور سيّد القمنى فى سجالاته الدينية التى دارت بينه وبين التيارات المحافظة ، ومن ضمن المنادين بأطلاق المدون المصرى كريم عامر المحاكم بعدة سنوات لأزدرائه للأديان .

                  هذه خلفية موجزة عن القاعدة الفكرية للمدونة علياء المهدى والتى قادتها لتجرد جسدها من اى غطاء عدا حذاء احمر اللون ، والصدمة التى خلّفها هذا المشهد حرّك فى الفكر غابة متشابكة من الأسئلة عن فحوى الرسالة التى ارادتها ان تصل الينا من خلال هذا الفعل الموغل فى جرأته .

                    فالتبرير الذى ساقته فى تقديمها لصورتها العارية يبدو فى نظرى مجرد غطاء يخفى تحته الحقيقة التى لم تقو على التصريح بها ، فالتعويل على عرى الفتيات (الموديلز) فى مشاغل كليات الفنون ، وعلى عرى المرأة فى كثير من اللوحات الفنية وفى التماثيل ، بأعتبار ان للعرى قيمة جمالية ومادية عالية فى ثقافات كثير من الشعوب ، ليس كافيا ليصبح التعرى فعلا جماليا ذا قيمة مادية عالية فى كل الثقافات ، فهى من واقع كتاباتها تدرك وبشكل كاف ان مجتمعاتنا لازالت تحتفظ بأقسام داخلها ترى فى اللوحة العادية وفى الصورة العادية وفى التمثال كفرا صريحا ، فما بالك بأمرأة من لحم ودم ولها اسم وعائلة ، تتعرى وتعرض عريها على موقع متاح للجميع ولا تحده حدود ، فأين توجد مداخل هذه الرسالة ؟

                   الاحصائيات تشير الى ان زيارات المدونة قد تجاوزت المليون فى يوم واحد ، فما الذى حمل هذه الحشود من المسلمين لزيارة مدونة كتب على مدخلها تحذير صريح بأحتوائها على مواد جائزة مطالعتها للراشدين ؟ولماذا تسابقوا لمشاهدة فتاة عارية مع سبق الاصرار والترصد وتسابق كثير منهم على شتمها لاحقا ببذاءة تكفى وحدها تأكيدا لخطيئتهم دع عنك تحديهم لنواهى الدين التى تحض على غض البصر عن امرأة محتشمة درءا للتحرش وتقيدا باداب الطريق فى ثقافتنا ، ليس هذا فحسب بل زادوا خطاياهم بخطيئة الامتناع عن ستر فعل فاضح منهىّ عنه فى ديننا .

                    الاهتمام تركّز على صورتها العارية واغفل صورة الرجل الذى يجلس عاريا منكسرا تحيط به هالات من الخدر الثقيل ، كأنما عريه فعل مباح ، فلماذا يلاحق المرأة التمييز حتى فى فضيحة مشتركة بينها والرجل ؟ تبدو الصورة العارية هنا تعرية لعقلية (التيوس) التى تحرّك كثيرا من رجال مجتمعاتنا المسلمة لتجريد المرأة من انسانيتها وتحويلها الى مجرد اداة للمتعة دون اى اعتبار لكون هذه الاداة يمكن ان تكون أما او اختا او بنتا او زوجة حفظت لهن تعاليم ديننا من الكرامة والحقوق اعظمها ، ويملؤنى هنا فخرا واعزازا ومحبة جهاد رسولنا العظيم فى عصر جاهلى دفاعا عن حقوق المرأة وحماية لها من الوأد ومن خبث الملتفعين بمخازى القيل والقال ويملؤنى قرفا وغثيانا ونحن فى الألفية الثالثة ألا تجد المرأة وسيلة للأحتجاج على فساد مجتمعاتنا المتسترة بالدين مظهرا ، سوى ان تعرض جسدها عاريا مستفزة اولئك الذين لا يرون فى الدين سوى قائمة من الممنوعات تحيط بحياة المرأة .

                    الدكتور سيّد القمنى قال عنها - اذا صح هذا - ( علياء المهدى تعانى من خلل نفسى واجتماعى ، فين ابوها ؟ ) تصوّروا الدكتور سيّد القمنى صاحب الانتقاءات الدينية فى التأريخ الاسلامى التى اثارت عليه عواصف المحافظين ، والتى صادفت استجابة بين عامة الناس ، وتاييدا حماسيا له من بين الشباب ، دفعت الكثيرين ان يتبنوا حملة مؤازرة له ، وظفوا لها حتى مجالاتهم الخاصة دفاعا عنه امام موجة الغضب التى قادها المحافظون ، وكان من بينهم علياء المهدى التى لم تخش تبعات تبنيها لهذه الحملة التى افردت لها مساحة مقدرة فى مدونتها ، ومع ذلك يصفها الآن بخلل نفسى واجتماعى ، فهل يا ترى كانت مواقفها الداعمة لأفكاره ناتجة من خلل نفسى واجتماعى ؟ ام كانت مواقفها مجرد انجذاب من مختل نفسى واجتماعى لأفكار مختلة نفسيا واجتماعيا ؟ ليس هذا فحسب ولكنه تمادى فألغى عقل المفكر فيه بجرأة تبعث على الشفقة حين القى بتبعات فعلها هذا على والدها ، واغفل عن عمد دور مؤسسات المجتمع وعلى رأسها لفيف مفكريها من الذين عجزوا عن استنباط صيغة دينية من تراثنا الزاخر بسمو القيم والاخلاق ، تنشل شبابنا من حالة الضياع التى خلقتها عملية الطعن الانتقائية المستمرة فى ديننا وجعلت هؤلاء الشباب عرضة للأستلاب الثقافى ، كان الاجدى به ان يسأل اين هو من هذا الفعل الفاضح ؟ وكم تبلغ مسافة قربه منه ؟ بدلا من هذا الهروب التجريمى لرب اسرة لا حول له ولا قوة فى مواجهة مجتمع ينخر الفساد فى عظامه . وعلينا ان نسأل انفسنا جميعا ، اين نحن من هذا الفعل الفاضح ؟ وكم تبلغ مسافة قربنا منه ؟

                   جسد علياء العارى ، هو فضيحة عرينا الكبرى من مبادىء ديننا الحق وقيمنا وثقافتنا وارثنا الرفيع ، وهى فضيحة تخصنا رجالا ونساءا .

                   

                    

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

وجه العملة الآخر


                 المخاوف من ثورات الشارع العربى كانت ولازالت قائمة من ان تنتج فى خاتمة المطاف الوجه الآخر من عملة ذات  النظام الذى اسقطته ، لتعيش المنطقة دورة خبيثة قوامها لعبة اقصائية لطالما غذّت فضاءاتها بالحقد والكراهية والقمع الى آخر منتجات انظمة الاستبداد المعلومة جيدا فى تاريخنا ، وفى هذا السياق ، فقد مضت الثورة فى مصر بهذه المخاوف الى قاعات المحاكم مطالبة بحظر الحذب الوطنى ومنسوبيه من العمل السياسي ، حتى تكسب عملية اقصائه شرعية قانونية تبعدها من الظنون وحتى يحل ناشطوه لاحقا محل الجماعات المعارضة التى سئمت سجون مصر استضافتها المتكررة ابان حكم الرئيس حسنى مبارك رئيس الحذب الوطنى آنذاك .

                وفى ليبيا ، وللمفارقة ، كانت تصريحات قادة المجلس الانتقالى ، تقطع بقوة بعدم السماح لأى من كوادر نظام القذافى المشاركة فى مستقبل العمل السياسى بليبيا ، فى حين ان قادة ذات المجلس وعلى رأسهم المستشار مصطفى عبد الجليل وابرز معاونيه ، كانوا من كبار قيادات نظام القذافى ، وبعضهم لم يمض على انسلاخه سوى اسابيع معدودة قبل انتصار الثورة ، ومع ذلك يمنون انفسهم والناس ، بأنهم متجهون لبناء نظام ديمقراطى ، وحكم رشيد قوامه الشفافية والنزاهة والعدل .

                ولأن العبر والمواعظ آخر ما تطرأ على عقل الثورة ساعات انتصارها ، فأن الضرورة تقتضى استعادة شيئا من الذكرى علّها تنفع وتخفف ولو قليلا من غلواء عقلية الاقصاء المسيطرة على كثير من النخب السياسية من الخليج الى المحيط .

                 الحكومات العراقية عقب الغزو ، قامت بحظر نشاط حذب البعث وملاحقة اعضائه من المتورطين مع قيادة صدام حسين فى الجرائم التى وقعت ابان فترة حكمه وملاحقة غير المتورطين ايضا ، وكرّست جهودا ملحوظة لعزلهم واقصائهم من الحياة السياسية ومن الخدمة العامة ايضا بشقيها المدنى والعسكرى ، دون اى اعتبار لحق الابرياء منهم فى الاستمتاع بكامل حقوق المواطنة ، والنتيجة التى ترتبت على هذا الفعل الاقصائى والتى لازال القابضون على الامور هناك يتعامون عن رؤيتها ، انهم وسّعوا دائرة اعدائهم ورفدوها بقوة متمرسة فى العمل السياسى وفى العنف ايضا ، وتعود جذورها فى هذا النشاط لأكثر من ثلاثين عاما ولها فروعها على امتداد الوطن العربى ، وهى الآن تبدو اللاعب الاساسى وراء مظاهر العنف الجارية فى العراق والمهددة لأستقراره ولأستدامة الديمقراطية فيه ،و بدأت صورة الحكومه القائمة فى مواجهتها للعنف الجارى هناك ، شبيهة بصورة نظام صدام حسين فى مواجهته لمظاهر معارضاته القائمة آنذاك ، اى ذات الدورة الخبيثة التى ظلت شعوب المنطقة ترزح تحت نيرانها عهودا طويلة .

                  خلاصة القول ، ان الديمقراطية لا تتحمل اى شكل من اشكال الاقصاء ، ومن الافضل لقوى الثورة العربية التى انتصرت على انظمة الطغاة ان تنأى عن اساليبهم فى التعامل مع الآخر ، وان تحفظ لبقاياهم حق التنافس فى العمل السياسى طالما ارتضوا بشروطه فى ظل الديمقراطية ، وهى افضل وسيلة لتجريدهم من نزعة اللجوء الى العنف ، خاصة وان العنف فى مثل هذه الحالات يتخذ مناحى يائسة شديدة الخطر ليس على الديمقراطية كنظام حافظ للحريات وكافل للحقوق فحسب وانما على استقرار وامن الوطن بحاله .

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

جامعة ام حلف عربى ؟


                  جامعة الدول العربية ومنذ تأسيسها اتسمت بمواقف حيادية تجاه قضايا الشعوب العربية القائمة فى مواجهة عسف وبطش حكوماتها ، وهذه السمة ضمن اسباب اخرى ، دفعت تلك الشعوب وبعض مكوناتها وافرادا منها ، ان تتجه يقضاياها الى المنظمات الدولية بحثا عن نصرة ، ونتيجة لذلك صارت العديد من المنظمات والدول الاجنبية ، حاضنة امينة وحامية قوية ، لأفراد وجماعات داخل الشعوب العربية ، ظلّت تعانى من انتهاكات مريعة فى حقوقها وحرياتها وصلت الى حد تهديد حقها فى الحياة ، ومن هنا اكتسب البعد الاجنبى حضورا بارزا فى معظم صراعات المنطقة ، واصبح بديلا مرغوبا عن الدور العربى الذى غاب عن خدمة تلك القضايا .

                   والجامعة العربية الآن بدأت تلعب دورا جديدا فى الازمات العربية مثلما حدث مع ليبيا وكما يحدث الآن مع سوريا ، وبالرغم من انه دور مطلوب بشدة ، الا ان معايير منطلقاته تبدو لدى البعض اقرب الى تحالف طارئى اكثر منها سياسة ثابتة ومبدئية فى مواجهة طغيان الحكام ، فأذا تعذر توطين مبدأ التدخل فى ميثاق الجامعة وفقا لأسس واضحة وصارمة ، فما الذى يمنع استدامة هذا التحالف الذى نقل مواقف الجامعة العربية من حياديتها السابقة الى مواقف ايجابية داعمة لقضايا شعوبها ؟

                    فالصراع حول السلطة والثروة ليس امرا طارئا فى الحياة العربية ، فهو قائم منذ القدم ولكن النخوة والحكمة العربية كانت قد ابتدعت طرقا ومعاييرا عادلة ونزيهة للجمه ، وأرثنا التأريخى يزخر بأكثرها كمالا فى (حلف المطيبين) الذى تأسس لدعم بنى عبد الدار بعد ان قررت جماعة من قريش سحب شرف خدمة الكعبة (الحجابة) وشرف سقى الماء للحجيج (السقاية) , وشرف حمل اللواء فى الحروب (اللواء) ،  فأجتمع انصار عبد الدار من قريش واخرج بنو عبد مناف وعاءا مملوءا بالطيب (العطر) ثم غمس الحضور ايديهم فيه وتعاهدوا على نصرة بنى عبد الدار والمظلومين من بعدهم ، ثم مسحو الكعبة بأيديهم توكيدا على انفسهم ، ومن هنا جاءت التسمية بالمطيبين .

                    فقصة هذا الحلف على بساطتها تحكى فصلا عظيما عن اخلاق وقيم ومبادىء العرب فى نظرتهم لحقوق السلطة ، فسحب شرف الحجابة والسقاية واللواء من بنى عبد الدار بالشكل التآمرى الذى اعدت له تلك الجماعة من قريش دون ان يكون قد صدر من بنى عبد الدار ما يسىء استخدامها ، عد ظلما وقع من ظالمين على مظلومين ، وهو فى واقع الحال يبدو اول انقلاب على السلطة موثق فى تاريخ قريش قبل الاسلام ، وعلى هذا الحلف تأسس فى تقديرى اول معيار عربى حول حقوق السلطة حدد بموجبه شروط نزعها واعادتها .

                     اما حلف (الفضول) الذى قال فيه رسولنا الكريم عليه افضل الصلاة (لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا ما احب ان لى به حمر النعم ، ولو ادعى به فى الاسلام لأجبت) هو الثانى فى هذه المنظومة المبدعة ، وقد قام على نصرة المظلومين سواء اكانوا من قريش او من غيرها وقد طغى عليه الاهتمام بالقضايا المتعلقة بحقوق الاموال وما اكثرها فى عالمنا اليوم ، وقد ظل نابضا فى العقل العربى حتى بعد الاسلام ، اذ ان مجرد التصريح بالمناداة به كفيل بأعادة الحقوق من غاصبيها ولو كانوا حكاما من اصحاب الشوكة كما فى قصة الحسين بن على بن ايى طالب والوليد بن عتبة والى معاوية على المدينة ، (راجع سيرة ابن هشام ووكيبيديا على قوقل ) .

                    وما يهم هنا ، ان اخلاق العرب وتراثهم من قديم الزمان ، وما جاء به الاسلام من اعظم المبادىء على صعيد الحريات والحقوق والعدالة ، تتيح للجامعة العربية مجتمعة او بتحالف منفرد من داخلها ، العمل على نصرة شعوبها المظلومة من بطش حكامها .

السبت، 12 نوفمبر 2011

ثلاث ملفات عاصفة


                 يبدو ان العالم العربى على موعد مع عواصف جديدة ، فقد اصطفت فى سمائه اخطر الملفات ، وفتحت اغلفتها معا فى وقت واحد ، تزامن مع ثورات الشارع العربى المستعرة فى سوريا واليمن ، والمنذرة بأنفجارات مماثلة بالبحرين ، واخرى كامنة خلف صبر العديد من مدنه وبلداته الواقفة على حدود الفقر والظلم والمذلّة .

                 فملف الدولة الفلسطينية اخذت رياح الفيتو الامريكى المنتظر تبعثر فى اوراقه على طاولة مجلس الامن المحكومة بموازنات سياسية لا علاقة لها بالحقوق وانما سيّدتها المصالح ، وهى رياح واعدة ومتوعدة بأستحالة جمع اوراق هذا الملف الا على طاولة المفاوضات ، وطاولة المفاوضات بالرغم من الدعم الامريكى والاوروبى والدولى ، لم تستطع ان تضيف الى الجهود المبذولة لحل هذه القضية المزمنة سوى مزيدا من القضايا الشائكة التى صنعتها عقلية السياسة الاسرائيلية المتخصصة فى انتاج العقبات الكؤود امام فرص الحل ، وتوجيه الصفعات يمينا ويسارا للأطراف المجتهدة فى سعيها للوصول الى حل نهائى بقيام الدولة الفلسطينية يحقق للمنطقة سلاما دائما ، ونتيجة لهذه المراوغات اخشى ان يخرج هذا الملف قريبا جدا من ايدى السلطة الفلسطينية لتتلقفه اياد ليس لديها ما تخسره اذا اشتعلت سماء المنطقة بالنيران او تزلزلت ارضها بالانفجارات .

                  اما الملف النووى الايرانى ، فالغموض يلف خطوة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفتحه فى هذا التوقيت مرددة ذات الاتهامات حول البعد العسكرى لبرنامج ايران النووى ، ويدعو للتسآؤل عن مغزى تزامن فتحه مع العواصف التى تواجهها المنطقة والتى لم تهدأ وتيرتها بعد ولا ينتظر هدؤها قريبا ، ورغم قناعات الكثيرين بأن امتلاك ايران للتقنية اللازمة والجاهزة لصنع قنبلة نووية ، بات امرا مرجحا ، الا ان حجة الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومن يوافقها الرأى ،تبدو ضعيفة اذا تمت مقاربتها مع مشروع باكستان النووى ببعده العسكرى ، فباكستان بما تعتمل من صراعات داخلية هزّت كثيرا من استقرارها ، ومع دوامات عنف المتطرفين الجارية داخلها والمحيطة بها ، الا ان المخاطر من مشروعها النووى بترسانته العسكرية فى ظل اوضاعها المضطربة هذه لم يحظ بذات المخاوف التى حظى بها الملف النووى الايرانى الذى لا يزال فى اطواره الابتدائية ، كما ان المهتمين بهذا الملف اغفلوا البعد المذهبى الذى يلعب فيه دورا رئيسا ، فطالما حظيت باكستان بغالبيتها السنية بمشروع نووى ذا ابعاد عسكرية ، فأن ايران الشيعية لا بد لها من مشروع مماثل ، فالسباق بين المذهبين لم يهدأ عبر التاريخ ولن يهدأ فى هذا الملف مالم يتم تفكيك المشروع النووى الباكستانى فى أبعاده العسكرية ، عدا ذلك فالعالم موعود بعضو جديد فى النادى النووى ، لذا فأن التهديدات التى اعلنتها القيادة الايرانية هى تهديدات حقيقية اكثر مما يتصور الكثيرون .

                  ويبدو ملف المحكمة الجنائية الخاص بأغتيال رفيق الحريرى والذى شرعت المحكمة فى مباشرة اجراءاته فى هذا الوقت المحتشد بالعواصف فى سماء المنطقة ، الضلع الثالث المكمّل لمثلث الرعب الذى تنتظره المنطقة ، فموقف حذب الله المعلن منه ، وموقف سوريا المحاصرة الآن بثورة شعبها منه ، يجعل من الحضور الايرانى فى تداعياته امرا حتميا بحكم ارتباطاتها مع سوريا وحذب الله ، وبحكم التهديدات الاسرائيلية المستهدفة لبرنامجها النووى ، مما يجعل اجراءات المحكمة فى هذا الوقت مدخلا لهذه الاطراف لتحيل عبره لبنان الى قاعدة رئيسة لصدامهم ، ومخرجا للجناة للأفلات من العقوبة .

الاثنين، 7 نوفمبر 2011

المشهد السورى


                    الازمة فى سوريا رغم تكاليفها الباهظة على صعيد الارواح والدماء والدمار الذى طال العديد من مدنها واحدث شروخا عميقة فى وجدان الشعب السورى والشعوب العربية ، الا ان القوى النافذة داخل النظام السورى ، لا تزال تتعاطى معها بذات النهج الذى صعد بحراك الشارع السورى بمطالبه المحدودة التى نادت بأصلاحات محدودة ، الى ازمة فتحت الأبواب على مصراعيها للتدخل الاجنبى وجردت النظام من الشرعية التى كان يحظى بها الى وقت قريب .

                     وفى هذا الوقت الذى بدت فيه كل فرص الحل الداخلى مجرد امانى مستحيلة ، جاءت مبادرة الجامعة العربية مثل ( يد مدت من خلال الموج لغريق ) وسعد الكثيرون الحريصون على استقرار سوريا وسلامتها بهذه الخطوة التى فتحت نوافذا للأمل مبشرة بأنتقال الاوضاع فى سوريا من هذا الواقع المنذر بأيام مظلمة الى انفراجة من شأنها ان تحفظ ارواح وتحقن دماء هذا الشعب العزيز ، وترتب لمستقبل آمن ، الا ان استمرار النظام على ذات النهج الذى صنع هذه الازمة رغم توقيعه بالموافقة على المبادرة العربية ، بقدر ما احدث من صدمة فى وجدان الشعب السورى حتى باتت القطيعة نتيجة حتمية ونهائية ، و طالت الصدمة  الشعوب العربية والضمير العالمى الحر ، وهيأت المجتمع الدولى للتحرك ثانية تجاه هذه الازمة ، بقدر ما ادى الى التسآؤل عن سر هذا العمى الذى حجب عن القيادة السورية رؤية هذه النتائج المروّعة التى احدثها هذا النهج المختل على حاضر ومستقبل سوريا .

                     واكثر ما يدعو للتسآؤل هنا ، ما هذه العقيدة التى اباحت للجيش السورى ان يقاتل شعبه ويهدم مساكنه حتى ألحقته بما خلّفه من ضحايا وخراب بأكثر جيوش الغزاة توحشا وهمجية عبر التاريخ ؟ وعلى ماذا يراهن النظام باصراره على التمسك بهذا النهج القاتل والمدمر ؟ اخشى ان يكون رهانه على (الفيتو) الروسى والصينى قد عمى بصره عن رؤية حقيقة ان (الفيتو) وان استطاع ان يعطّل  عملية التدخل الدولى الى حين ، فأنه لم يستطع ان يعطّل انتفاضة الشارع السورى التى اخذت تتصاعد يوما بعد يوم ، ولم يستطع ان يعطّل الأنشقاقات فى صفوف الجيش السورى المتزايدة حتى صار جيشا يقاتل بعضه بعضا ، ولم يستطع ان يحجب عن الانظار حقيقة ان المشهد برمته يعكس اخطر الصدوع التى يمكنها ان تهدم الدولة وتحيلها سريعا الى ارض تعمّها الفوضى ، فهذا رهان خاسر .. خاسر ، فورقة (الفيتو) بين الكبار قابلة للمقايضة فى سوق السياسة الدولية المحتشد بالقضايا المتشابكة بينهم .

                       ان كان لا يزال داخل النظام السورى من عقلاء ، وان كان لا يزال داخل الجيش السورى من عقلاء ، فليس هنالك افضل من هذا الوقت للتحرك بخطوات شجاعة للحيلولة دون ان تنزلق سوريا الى اوضاع يصعب انتشالها منها .

الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

توثيق الصحافة السودانية


                     السمنار الذى اقامته منظمة (طيبة برس) فى 22 سبتمبر 2011 تحت عنوان (توثيق الصحافة السودانية) ، كان حدثا هاما لم يحظ بما يستحقه من اهتمام ، خاصة من قبل الصحافة السودانية المعنية بهذا الامر ، اذ اقتصرت تغطيتها للسمنار على رصد محدود افردت له مساحة محدودة ، فالجهد الذى بذلته لجنة توثيق الصحافة بمجلس الصحافة ، ورغم الصعوبات التى واجهتها ، اثمرت عن اكتشافات لا تقل فى تقديرى من ناحية قيمتها وتأثيراتها على تأريخ الصحافة السودانية عن الزخم الذى تحدثه الاكتشافات الأثرية .

                    فالبروفيسور عبد الله حمدنا الله رئيس لجنة توثيق الصحافة بمجلس الصحافة ، ومن خلال استعراضه لعمل اللجنة ، ابان ان متابعات اللجنة للنشاط الصحفى السودانى خارج السودان اسفر عن اكتشاف ان صحيفة سودانية كانت تصدر (بطنجة) فى المغرب ، وان مجلة سودانية ظهرت بأندونيسيا قبل 80 عاما ، وان اقدم صحيفة سودانية هى جريدة (السودان) التى صدرت فى مصر عام 1898 قبل موقعة (كررى) ويوجد منها 19 عددا بحوزة اللجنة .

                     وبالرغم من ان هذه المعلومات الجديدة على قيمتها العالية لا تزال مجرد عناوين رئيسية وتحتاج الى تسليط الاضواء على توجهات تلك الصحف الفكرية مما يعنى ضرورة طرح محتوياتها على الجمهور ، وهى عملية قد تضطلع بها لجنة توثيق الصحافة او جهات اختصاص اخرى ، فأن الامانة تقنضى ان تنال هذه اللجنة صوت شكر وثناء وتقدير وامتنان وعرفان على هذا الجهد الذى اضاف كثيرا لتراث وتأريخ الصحافة السودانية .

                      ومن جانب آخر فقد افاد البروفيسور عبد الله حمدنا الله ، ان سليمان كشة من اوائل الذين وثقوا للصحافة السودانية ، وهى بلا شك شهادة قيّمة صادرة من جهة اختصاص ظلّت فى حالة بحث دوؤب منذ العام 2006 وحتى لحظة انعقاد السمنار ، ومن المؤكد انها شهادة معضّدة بمؤلفات وكتابات سليمان كشة المنشورة والتى اصبحت مرجعا ومصدرا مهما للباحثين السودانيين وغيرهم من الباحثين الاجانب ، الا انه كصحفى فأن تجربته تعد مصدرا غنيا من شأنه ان يسهم اسهاما مقدرا فى عمل اللجنة ، فبجانب كونه ناشرا لجريدة (مرآة السودان) التى اسسها فى عام 1933 فقد كانت له اسهامات فى مجلة الخرطوم التى كانت تصدر عن وزارة الاستعلامات والعمل فى الستينات من القرن الماضى ، حيث ظلّ يكتب فيها تحت عنوان (بين الماضى والحاضر) وكذلك بمجلة (هنا امدرمان) الخاصة بالاذاعة السودانية تحت عنوان (صفحات قديمة) وفى جريدة (الثورة) منذ تأريخ صدورها تحت عنوان (سوق الذكريات) .

                      ومن اهم المصادر التى يمكن ان ترفد لجنة توثيق الصحافة السودانية والمتعلقة بسليمان كشة ، هى انشطته بالاذاعة والتلفزيون ، فقد ظلّ يقدم برنامجا راتبا بالاذاعة تحت عنوان (بين الامس واليوم) ، ولقاءات تلفزيونية غنية بمعلومات ووقائع للصحافة نصيب وافر منها ، وكان الاديب والروائى العالمى الطيب صالح ابان فترة عمله مذيعا بأذاعة امدرمان، كان قد اجرى معه مقابلة مطوّلة غنيّة بمعلومات من شأنها ان تفيد مجرى التوثيق للصحافة السودانية اذا تمكنت اللجنة من الوصول لهذه المواد .

                       التحية والتقدير للجنة توثيق الصحافة السودانية ولمنظمة (طيبة برس) ولكل الذين اسهموا فى هذا السمنار وعلى رأسهم الاستاذ محجوب محمد صالح الذى كشف ان عالمنا الجليل التيجانى الماحى كان قد تكرم عليه بالاضطلاع على صحيفتين اصدرهما الجيش البريطانى بالسودان هما (حلفا تايمز) و (دنقلا تايمز) مما يؤكد ان ثمة وثائق متعلقة بالصحافة السودانية يمكن بقليل من الجهد وحسن النوايا الحصول عليها من كثير من البيوتات السودانية .

الجمعة، 28 أكتوبر 2011

تونس .. نهضة ام انتكاسة ؟


                    فوز حذب النهضة الاسلامى بالمركز الاول فى اول انتخابات حرة ونزيهة تجرى فى تونس بعد الثورة ، وحصوله على 90 مقعدا من اصل 217 مقعدا بفارق 60 مقعدا من اقرب منافسيه ، كان فوزا متوقعا لدى الكثيرين داخل وخارج تونس ( اذ اصبح الدين فى العالم المعاصر قوة مركزية ، ولعله القوة المركزية التى تحرّك وتحشد الناس ) وهى حقيقة ليست وقفا على رؤية ( صمويل هنتجتون ) فى مؤلفه ( صراع الحضارات ) فحسب وانما حقيقة منظورة فى الواقع المعاش على الارض فى عالمنا العربى والاسلامى ، وقد جاءت نتيجة لعدة اسباب من ضمنها كما ذكر ويتفق معه الكثيرون ، ان اغلب حكومات المنطقة تفتقر ( الى ادنى الاسس التى تجعل حكمها شرعيا بلغة القيم الاسلامية او الديمقراطية او القومية ، فكانت هذه النظم كما وصفتها عبارة ( كليمنت هنرى مورو ) " انظمة المتاعب " فهى قمعية وفاسدة وبعيدة بعدا حتى الانفصال عن حاجات وتطلعات مجتمعاتها ) ويبدو ان تنبؤاته القائلة بأنه ( فى كل بلد تقريبا فى اواسط التسعينات كان النظام البديل الاكثر ترجيحا ان يخلفها ، هو نظام اسلامى متشدد ) فى طريقها الى التحقق .

                    فخطاب زعيم حذب النهضة الاسلامى السيّد راشد الغنوشى ، رغم عقلانيته المعبرة عن أشواق وامانى شعوب المنطقة المتطلعة فى ان يحظى فضاؤها العام بكافة الحريات والحقوق المكفولة بموجب احكام ديننا الحق المجرد من كل ما التبسه خلال قرون طويلة والمكفولة بموجب المواثيق والعهود والقوانين الدولية ، يحتاج ترجمته الى واقع يمشى على الارض ، فتصريحه عقب اعلان الفوز بأن ( حذبه سيواصل هذه الثورة لتحقيق اهدافها فى ان تكون تونس حرة ومستقلة ومزدهرة تصان فيها حقوق النساء والرجال والمتدينين وغير المتدينين لأن تونس للجميع ) يحتاج الى جهد وتحديات كبيرة كى يمحى من ذاكرة الناس ما احدثه ( فقه الضرورة ) من اضرار بالغة على مصداقية خطاب الاسلاميين الذى سبق استلامهم للسلطة ، فتجربة حكمهم التى شهدنا منها فصولا مؤلمة فى ( قطاع غزة ) وتلك التى عايشنا اكثرها ظلاما فى تسعينات القرن الماضى فى السودان ، تلقى بظلال كثيفة من المخاوف والشكوك فى ان تكون تجربته مماثلة لما انتجته التجربتان من نفور واحباط ويأس من قدرة الاسلاميين على انتشال شعوب المنطقة من وهدة حياتها المحاطة بالأزمات ، وهنا يكمن التحدى الحقيقى الذى يواجهه حذب النهضة الاسلامى بتونس ، فالخطاب وحده لا يكفى لأثبات مصداقيته ، وانما البيان بالعمل .

                   ومع ذلك ، فأن الأمل لا يزال معقودا فى ان ينجح فى ارساء تجربة جديدة بتونس تتيح اسسها لهم ولغيرهم من الاسلاميين ، القدرة على مشاركة الآخرين جهودهم فى صنع حاضر و مستقبل بلادهم ، وصيانة مصالحها من اى عبث ، وادراك ( ان مصالح الدول لا تحددها  القيم والتقاليد المحلية فحسب بل كذلك المعايير والقوانين الدولية . )

الاثنين، 24 أكتوبر 2011

ليبيا .. شمولية حاضرة


                    المستشار مصطفى عبد الجليل ، رجل القانون ووزير العدل فى آخر حكومة للقذافى ورئيس المجلس الانتقالى الذى ادار ثورة 17 فبراير ، اصاب الذين تابعوا خطابه بالذهول والاستغراب عندما اعلن ان الشريعة الاسلامية هى المصدر الاساسى للتشريع ، ومن بين كل المقاصد الكلية للشريعة الاسلامية ، لم تحظ بأهتمامه سوى قضيتين ، الاولى قضية قوانين الاحوال الشخصية ، واعلن فى هذا الصدد الغاء القانون الخاص بمنع تعدد الزوجات ، والقضية الثانية اسلمة النظام المصرفى بليبيا .

                   لا جدال فى ان القانون الخاص بمنع تعدد الزوجات يتصادم مع شرع الله حتى وان جاء ملبيا لحقيقة عجز الرجل فى تحقيق العدل بين زوجاته ولو حرص على ذلك كما جاء فى النص القرآنى ، فالأصل فى الشرع هنا الاباحة ، وايضا لا جدال فى ربوية النظام المصرفى العامل فى معظم الدول الاسلامية بفوائده المركبة التى طالما اثقلت كاهل المقترضين ، ولكن ما يدعو للذهول والاستغراب فى طرحه هذا ، انه من بين كل المقاصد والمبادىء والقيم السامية التى جاءت بها الشريعة الاسلامية لم يحظ بأهتمامه منها سوى المال والنساء ، وانه بتأريخه الطويل كرجل قانون وكرجل دولة اضطلع بمهام قضايا العدل والحقوق ، وكرئيس لمجلس ضمّ بين دفتيه معظم الوان الطيف السياسي بليبيا ، انفرد بجرأة مذهلة بأصدار هذه القرارات فى اليوم الذى تحتفل فيه ليبيا بتحررها من قبضة حكم شمولى ، دون اى اعتبار لرأى القوى التى شاركته ومن يمثلهم معارك الثورة الليبية ، ودون اى اعتبار لشرعية الاجراءات المطلوبة فى مثل هذه القرارت ، فكيف تسنى له ان يستعير فى هذا اليوم التأريخى عقلية حكم الفرد التى ادار بها الطغاة  شئون الحكم فى بلادهم ؟ لقد افسد بهجة هذا اليوم بتماهيه مع نهج رئيسه السابق ، وبوعى منه او بغير وعى فقد بذر فى فضاء ليبيا المضطرب بالرياح بذور فتنة لم يحد من مخاطرها على مستقبل ليبيا فى تقديرى سوى خطاب عبد الكريم بلحاج رئيس المجلس العسكرى بطرابلس .

                   وعبد الكريم بلحاج ، نزيل (غوانتانمو) سابقا ، والرجل الذى اشعل ظهوره مع كتائبه فى مسار الثورة كل مخاوف الغرب ومخاوف المنطقة ومخاوف اطياف الثورة الليبية ، و المتهم هو وكتائبه بأنهم صورة طبق الاصل من تنظيم (القاعدة) ، اذهل الذين تابعوا ما تيسر من خطابه الذى تعرض لأساليب صبيانية لحجبه عن الاسماع ، وامتنعت عدة فضائيات عن نقله ، اذهل متابعيه فى النذر القليل الذى بثته قناة الجزيرة ، بعقلانيته واستنارته التى تجلّ فيها جوهر وروح الاسلام ، وابان بكل شفافية التزامه ببسط الحريات ، والتزامه بحق الآخرين فى المشاركة فى صنع القرار السياسي ، والتزامه فى تحقيق مبادىء العدل والمساواة ، فى ظل نظام ديمقراطى لا اقصاء فيه لأحد .

                   تطبيق الشريعة الاسلامية لا يتم بالامانى والتذاكى واستغلال الفرص ، وانما يتم بالايمان القاطع بمبادىء وقيم واخلاق الاسلام والتى يقف على رأسها كرامة وحريات الانسان وحقوقه المكفولة بموجب نصوص قطعية بالقرآن الكريم ، وفى الاول والآخر بالشورى .

الخميس، 20 أكتوبر 2011

من جحر الى الجحيم


               لاشك ان عصابات الجحيم منذ نيرون وانتهاء بآخر الطغاة الذين هلكوا بنيران الثورات الشعبية ، يخوضون اليوم فى نتانات جرائمهم ضد البشرية ليصطفوا استقبالا لطاغية استعار كل مخازيهم وقهر بها شعبه اكثر من اربعة عقود مسومة ، اليوم تخلّصت ليبيا من شبح ثقيل غطى سماواتها طوال اربعين سنة بالخوف والرعب والاغتيالات ، وفاض بها على جيرانه الى ان بلغ بها فضاء العالم اجمع ، فالتحية والتقدير لثوار الثورة الليبية على اختلاف اطيافهم بهذا النصر العظيم والمجد والخلود لشهدائها الابرار .

                ولاشك ان هذا النصر الكبير ما كان له ان يتحقق لولا موقف جامعة الدول العربية الذى اتسم ولأول مرة ومنذ تأسيسها بمعاضدة شعب مقهور ضد حكومته ، ورغم ان هذا الموقف لم يمض ابعد من مجرد مؤازرة المواقف الداعية للتدخل الدولى لأنقاذ الشعب الليبى من البطش الذى كان ينتظره من هذا الطاغية وطغمته ، الا ان هذا الموقف اثار جدلا مريرا حول جدوى ترسانة الجيوش العربية من الاسلحة التى انفقت فيها مليارات الدولارات وتعجز مع ذلك عن تحريكها حين تصل الى اتفاق بضرورة حماية شعب عربى من بطش حاكمه ، كأنها بذلك تترك عالمها العربى فضاءا مفتوحا للآخرين ، ينفى اى جدوى من اتفاقية للدفاع المشترك ، لقد كان من الاكرم ان تكون المعارك التى خاضها طيران وبحرية حلف الناتو ، معاركا حصرية للجيوش العربية ، والعزاء فى القلة من الدول العربية التى شاركت فى تحقيق هذا النصر .

                   ولا شك انه من الجحود بمكان ان ينكر المرء فضل المجتمع الدولى فى صنع هذا النصر ، رغم المخاوف التى تحيط دائما بحركة الجيوش الغربية داخل الاراضى العربية بحكم تجربة الاستعمار السابقة ، وبحكم التكلفة الباهظة التى تترتب دائما على مثل هذا الفعل ، ومع ذلك فأن ثمة آمال برزت فى اتون الحالة الليبية تشى بان المواثيق الدولية لازالت قادرة على التحكم اخلاقيا وقانونيا فى مساهمة المجتمع الدولى فى ازالة هؤلاء الطغاة ، وان ثمة تقارب مع الغرب بدت ملامحه تطل على فضاء الانسان العربى ، تقارب يبدو مطمئنا له بأنه لم يعد وحده فى مآسيه القائمة مع انظمة حكمه .

                  ولاشك ان ما حدث فى ليبيا عبرة لايغفلها الا الراغبون فى ذات المصير ، فالتهنئة الحارة لأخوتنا الليبيين بهذا النصر الكبير .

قصة الذهب النوبى


                   لا ادرى اين مصدر الاثارة والغرابة فى الخبر الذى تناولته معظم الصحف الصادرة بالخرطوم يوم امس 19\10\2011 واحتل صفحاتها الاولى بمانشيتات عريضة ، ويحكى عن كميات من الذهب  قدرت بأنها تغطى ميزانية السودان للسنوات العشر القادمة ، تم اكتشافها تحت ارض مشرحة مستشفى الخرطوم ، والخبر الذى اريد له ان يتخذ شكل قصة مثيرة تحظى حبكتها بمصداقية رسمية ، اقحم فى صياغته آراء مسئوليين جيولوجيين اعادوا الاكتشاف لأختصاص مسئولية الآثار بأعتبار ان الذهب المكتشف جزء من آثار الحضارة النوبية ، وبغض النظر عن آراء فئات المجتمع السودانى تجاه هذا الخبر الا ان المهتمين بتأريخ الحضارة النوبية يعلمون جيدا ان مستشفى الخرطوم والتى تشغل اكبر مساحة فى العاصمة السودانية تمتد من شارع القصر غربا الى شارع المك نمر شرقا ، كانت جزءا من محل اقامة نوبية معروفة ، وكان عالمنا الراحل المقيم اسامة عبد الرحمن النور قد اورد فى سفره العظيم ( دراسات فى تأريخ السودان القديم ) ان عالم الآثار ( آركل ) كان قد عثر فى 1949 اثناء عمليات بناء جارية فى الخرطوم على مدافن مروية ، واحتمالا ان تكون عائدة لعصر ( نبتة ) ، وان ما وجد فى هذه المدافن كان مشابها لما وجد فى نظائرها فى (فرس) و (كارانوج) واحتمالا لما وجد فى (مروى) و (نورى) ، وان الحفريات قد اثبتت انه فى عصر ازدهار مملكة (نبتة) كان فى الخرطوم عند ملتقى النيلين موقع للأقامة يرجع تأسيسه لقرون سابقة .

                   فالحدود الجنوبية للممالك النوبية لم تحدد بعد بشكل قاطع ، فالبعض يرى انها امتدت الى موطن قبيلة الباريا بالجنوب بحكم انتماء لغتها ولغات النوبيين الشماليين الى ام واحدة ، ويمضى بعض آخر الى ابعد من ذلك فيصل بها الى موطن قبيلة (المساى) فى كينيا ، ويرى فى اسم القبيلة نفسها دلالة نوبية ، فما يروج عن هذه القبيلة انها لا تعرف من بين كل الانبياء والرسل سوى سيدنا ونبى الله موسى عليه السلام ، واسم (موسى) فى لغة (السكوت) ينطق (مسى) ويرى هذا البعض ان (مساى) لفظة منسوبة الى (مسى) ، والسكوت احدى القبائل النوبية الكبيرة وهى التى اخرج سيدنا (موسى) عبر اراضيها بنى اسرائيل من مصر ، وهى حكايات متداولة بشغف فى وسط المهتمين بالحضارة النوبية ، ولكن ما يهمنا هنا ، ان الحفريات التى غطت المنطقة جنوبا حتى (جبل اولياء) اكتشفت العديد من الآثار النوبية ، فليس غريبا ان يعثر فى اى بقعة من هذه الارض على اثر نوبى سواء اكانت هذه البقعة (مشرحة) ام (جامعة) .

                   ما يدعو للغرابة حقا ، هذا المصير الذى آلت اليه معظم مواقع الحضارة النوبية ، فقد شهد العالم بأثره عمليات اغراقها وبذل ما فى جهده لأنقاذ ما امكن انقاذه ، وها نحن الآن نشهد احدى العمليات التى قامت فى زمن مضى بدفنها تحت المبانى ، فقد اشار اسامة عبد الرحمن النور فى نفس المرجع السابق ان منطقة (العشرة) التى تبعد حوالى 5ك جنوب امدرمان والتى اصبحت من بين كل المساحات الخالية فى ذلك الوقت مقترحا لأقامة المدينة الجامعية لجامعة امدرمان الاسلامية ، ان هذه المنطقة كانت احد المدافن التليّة المروية المرتبطة بحركة النوباديين ، وتتشابه مع مدافن (تنقاسى) التليّة الواقعة على بعد 10ك جنوب (مروى) والتى تعتبر اكثر فقرا من مدافن (العشرة) .

                   اما اكثر ما يدعو للأثارة ، ان منطقة (سوبا) العاصمة التأريخية لمملكة (علوة) والتى ظلّت خرائبا منذ تهديمها ، ومحل نهب مستمر لم يسلم منه حتى طوبها ، فقد اشار سليمان كشة فى كتابه (الخرطوم) ان عددا من مبانيها قام على (طوب سوبا) وظلت طوال هذه الفترة مهملة من قبل بعثات الآثار حتى لحقت بها عمليات الدفن تحت المبانى ، فقد انتقلت اليها السفارة الامريكية وعدد من المصانع والشركات ، فلن يدهشنى خبر غدا اذا قال بأكتشاف كميات من الذهب تحت اى من المبانى التى قامت عليها ، فالذهب معدن تسلم النوبيون مفاتيحه منذ ان وجدوا على هذه الارض .

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

ليت جلعاد كان عشرة


                   واخيرا رضخت اسرائيل لشروط حركة حماس الخاصة بالأفراج عن الجندى المخطوف جلعاد شاليط ، وبناء على ذلك ستزهو اليوم شوارع وبيوت اخوتنا الفلسينيين بتحرير الف من الاسرى والاسيرات الفلسطينيات من عتمة السجون الاسرائيلية ، وهو انجاز يعد بكل المقاييس انجازا تأريخيا يستحق الاحتفاء والاحتفال به على نطاق العالم العربى والاسلامى ، فأحرّ التهانى لكافة الاسرى المفرج عنهم ولذويهم داخل وخارج فلسطين ولنا جميعا ، وامنياتنا لمن تبقى من الاسرى فى السجون الأسرائيلية بفرج قريب ، ولكتائب القسّام ، ليت جلعاد كان عشرة .

                   ومن بين كل الحقائق الواردة فى الآراء المتباينة التى تناولت هذا الحدث الكبير ، فأن الحقيقة الابرز التى تقف ساطعة فى آفاقه تؤكد ان صمود حركة حماس على موقفها المبدئى من شروط الافراج عن الجندى المخطوف جلعاد شاليط كان العامل الاقوى الذى ارغم اسرائيل على الخضوع ، فقد كان صمودا دفع فيه اهل غزة تكلفة باهظة تجاوزت فيه اعداد ما فقدوه على صعيد الارواح اعداد المفرج عنهم ، وقد تبدو هذه المقارنة مكرا سيئا يسعى لتبخيس هذا الانجاز الكبير ، ولكن ضرورة البحث عن حقيقة مفاهيم عصرنا الراهن تجاه تعاطيه مع قضايا الاحتلال والتحرر، هى التى املت ايراد هذه المقارنة ، بمعنى آخر ان الهدر المروّع  للأرواح الذى طال انسان غزة والهدم المهول الذى طال بنياتها عقب عملية الاختطاف والحصار الذى احالها الى سجن كبير ، هى التكلفة الباهظة التى رأت فيها حماس المقابل الموضوعى لأنتصارها فى قضاياها وكل الذى تطلبه الامر منها هذا الصمود الذى توّج اخيرا بهذا الانجاز ، انها اللغة التى يفهمها عصرنا الراهن والتى فهمتها حماس .

                      فنفس التبعات التى ترتبت على سيناريو اختطاف الجنود الاسرائيليين على الحدود اللبنانية من قبل قوات حذب الله ، والتى حصدت آلافا من ارواح اللبنانيين وهدمت بنيات لبنان حتى احالت معظمه الى خرائب شبيهة بما تمخضت عنه مشاهد كثير من المدن الاوروبية خلال الحرب العالمية الثانية ، نفس هذا السيناريو اعيد بحذافيره على قطاع غزة ، ورغم فداحة العواقب التى تحملها كل من لبنان وقطاع غزة الا ان كلا من حذب الله وحركة حماس نجحا فى املاء ارادتهما على اسرائيل ، وخرجا من بشاعة الحرب التى دارت عليهما اكثر قوة من قبل .

                       من هنا يحق لنا ان نرفع صوتنا عاليا بالتحية والتقدير لفتية كتائب القسّام الشجعان الذين نفذوا عملية اختطاف الجندى الاسرائيلى جلعاد شاليط ببسالة ومهارة تدعو للفخر والاعزاز ، وان نرفع صوتنا عاليا بالتحية والتقدير لأشاوس حذب الله الذين سبقوهم فى هذه الاعمال البطولية ، ولوعيهما المتقدم فى فهم اللغة التى يجيد عصرنا الراهن التعامل بها .

السبت، 15 أكتوبر 2011

صراعات قادمة

      
                       مخطط اغتيال السفير السعودى بواشنطون والذى اعلنت عنه الادارة الامريكية متهمة ايران بالوقوف خلفه ، يجب ألا يأخذنا الى حالة من الجدل حول صحة تفاصيله من عدمها ، فهذه مسألة تقع تحت مسئولية الادارة الامريكية التى تعى جيدا تبعات مثل هذا الاعلان على اوضاعها الآنية والمستقبلية ، وتعى جيدا ان صدور الاعلان فى حد ذاته ، يعنى فتح ملف سيخضع لفحص دقيق من قبل مؤسساتها الامنية والقانونية والعدلية ، فضلا عن خضوعه لتحليل سياسي قاس من خصومها السياسيين بجانب ما تفيض به الميديا الامريكية والعالمية من تحقيقات لن تهدأ حملة تفتيشها حتى بعد قفل الملف ، فهذه المؤسسات وحدها كفيلة بتأكيد مصداقية الادارة الامريكية حول هذا المخطط من عدمها .

                        ما يهم حقا فى هذا الملف ، اشاراته المنذرة بالقلق والمخاوف من أنزلاق المنطقة الى صراع ليس كماتبدو صورته قاصرة على المملكة العربية السعودية وايران وحسب وانما صراع عرف على مر التاريخ بكونه المؤشر الابرز على انقسام العرب بين الشرق والغرب ، وتمتد جذوره التاريخية الى ايام المناذرة والغساسنة ، فالعالم العربى الآن يبدو اقرب من اى وقت مضى تجسيدا لحالة الانقسام هذه ، وتبدو هذه الحالة جلية فى محيط المملكة العربية السعودية وفى داخلها ، بدءا من العراق ، مرورا بالبحرين واليمن وانتهاءا بسوريا ولبنان ، والحضور السعودى الايرانى فى الحراك الدائر فى هذه الدول يبدو الابرز من بين كل الجهات الضالعة فيه ، ويبدو فى احد وجوهه مقدمة لصراعات كبرى قادمة على المنطقة المعتملة بثورات لم تستقر رياحها على اتجاه بعد .

                        ولكن من بين كل الاشارات المنذرة بالقلق والمخاوف التى احتواها هذا الملف ، ان تكون واشنطون عاصمة القوة العظمى المنفردة فى راهننا ، هى مسرح المخطط ، وبغض النظر عن صحة وقائعه من عدمها فثمة اشارة هنا تشى بعظم الاستحقاق الامنى الواقع على المملكة السعودية وعظم المواقف المنتظر منها اتخاذها ، سواء على صعيد الملف النووى الايرانى او ملفات المنطقة الملتهبة ، وبأعتبارها ضمن عضوية مجموعة العشرين - المجموعة التى ترسم وتشكل الصورة التى يبدو عليها عالمنا - فأن مواقفها حتما لن تخرج عن اطار ما ترسمه هذه المجموعة مهما تصادمت مع واقع المنطقة ، من هنا يبدو ان ثمة حصار بدأت دوائره تحيط بالمملكة السعودية ، حصار من شأنه ان يغيّر كثيرا من نهج المملكة على صعيدها الداخلى وعلى صعيدها الاقليمى .

                         اما اكثر الاشارات مدعاة للأسف والسخرية ، ان السعودية كراعية للمذهب السنى وايران كراعية للمذهب الشيعى اطلقا العنان لغلاة المتشددين فى المذهبين حتى بلغت منظوماتهم حدا من الترهل عجزت معه مؤسسات الدولة فى كل منهما عن السيطرة على تفلتاتهم ، واصبحوا مهددا رئيسا ليس لنظم الحكم بالبلدين فحسب وانما للحياة بالمنطقة ، واصبح الطراد بينهما لا تحده حدود او تردعه قيم ، فليت هذا المخطط يصبح مدعاة للعالم العربى والاسلامى لوقفة مع النفس يراجع فيها هذه الصراعات التى لن تحيق اضرارها الا به .

الخميس، 29 سبتمبر 2011

ارض هاجر


                  السيدة هاجر هى ارفع بنات ملوك الزمان مكانة ، وأم سيدنا ونبى الله اسماعيل وزوجة ابو الانبياء ابراهيم عليهم جميعا السلام ، وقصتها هى قصة اهل الديانات السماوية فى مشارق الارض ومغاربها ، يتداولونها بتفاصيلها الدقيقة جيلا بعد جيل ، متأثرين بعظمة دلالاتها وما اضافته من نبل القيم والاخلاق والمبادىء لحياة البشرية ، وما يهمنى فيها هنا ، هذه الارض التى بدت لى اكثر المنافى رعبا فى التاريخ ( واد غير ذى زرع ) تحيط به جبال تترآى مثل حرس مهيب تحيط بها صحراء تتبعها صحارى لا شى يرتجى فيها سوى العطش والجوع ، هذه الارض الممسكة بكل خيوط الموت والتى تجلّت فيها رحمة الله وقدرته لأمرأة لم ينقطع حبل ايمانها به وهى تقطع اشواطها السبعة فى غمرة عطشها وخوفها على وليدها ، هذه الارض وبئرها التى رفعها الله من باطن الارض لتنبثق مياهها تحت قدمى ابنها آية زادت ايمانها به ايمانا ، هى كل ما يهمنى فى هذه القصة .

                 دعوة سيدنا ابراهيم ( واجعل افئدة من الناس تهفو اليهم ) استجاب لها الله محمولة على اقدام ( جرهم ) حين وطأت هذه الارض لتبدأ سيرة طويلة مع قداستها ، ومن هنا تبدأ قصتى ، اولها هذه الدهشة التى تصيب المرء حين ينظر الى هذه القبيلة العربية الراحلة بكل خيلها وخيلائها ، نساءها ورجالها ، عدتها وعديدها وقوة لا تخفى مظاهرها على احد ، مع كل هذا الحضور المهيب لهذه القبيلة ،  تقدم سادتها بسمو اخلاق مدهش وادب عربى رفيع يستأذنون امرأة نوبية وحيدة فى هذا القفر ليستقوا من بئر فجر الله مياهها من تحت قدمى ابنها ، فتأذن لهم ، ثم يطيب لهم المقام فيستأذنوها ثانية بذات السمو الاخلاقى وذات الادب الرفيع ، السماح لهم بالاقامة قربها ، فتأذن لهم ، وما يدهش هنا ، ليس هذا الاستئذان الذى بدا اول صك من قبل الميلاد تجلت فيه مفاهيم واخلاق وادب العرب فى المبادىء التى تحكم ملكية الارض بأحالة حق ارض هذا الوادى وبئره لأمرأة وابنها سبق وجودهما عليها حضور هذه القبيلة ، وانما المدهش هنا حقا هو هذا الخلق العربى الرفيع الذى تشبعّت به هذه القبيلة فى اعلاء الحق على القوة .

                   ثانى الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب اوصى قيادات جيش الفتح المتجه الى مصر ، وشدد فى وصيته على امرين ، الاول بألا يتملكوا الاراضى والثانى بألا ينشغلوا بالزراعة ، وهى وصية لاتقف دلالاتها عند اقتصار عملية الفتح على تبليغ الرسالة وانما تعدتها الى التذكير بأحقية شعب مصر فى ملكية اراضيه ، اى ان ملكية الارض ظلت فى اخلاق وقيم ومبادىء العرب قبل الاسلام وبعده ، من الحقوق التى لا يعلو عليها لا بالقوة ولا بالسلطة ولا بالغزو او الفتح ، يعنى انها حق ثابت منذ ان تجلى فى ارض هاجر بجزيرة العرب ولن تغيره القوة بأرضها فى مصر .

                   وهاهو الحجاج بن يوسف الثقفى الذى لم يتورع عن رمى الكعبة (بيت الله الحرام) بالمنجنيق ، لم يتجرأ ان يخرج عن هذه الثوابت وقدم النصح لطارق بن عمرو قائلا : اذا ولاك امير المؤمنين على مصر ( سرد عددا من الوصايا الى ان وصل ) اتق فيهم ثلاثا :
                                         1- نساؤهم لاتقربهم بسوء والا اكلوك كما تأكل الاسود فرائسها .
                                         2- اراضيهم والا حاربتك صخور جبالها .
                                         3- دينهم والا احرقوا عليك دنياك ....
فالأرض ظلّت فى مفهوم الحكم الاسلامى ايا كان فقه حكامه ضمن ثالوث محرم انتهاكها ، تماما مثل العرض والدين .

                   واتفاقية ( البقط ) التى وقع عليها عبد الله بن ابى السرح ، كان من ضمن بنودها ألا يتملك المسلمون اراضى النوبة ، ودارت فى هذا الشأن عدة شكاوى فى زمن الخليفة ( المامون ) دفعت ملك النوبة بأرسال ابنه الى بغداد لعرض المشكلة علىه وسفره الى مصر عند زيارة المامون اليها لمناقشته فى مشكلة الاراضى ، فقيمة الارض عند النوبة ولدى العرب لم تخرج فى نظر حكامهم عن الثالوث المحرم ، وظلت امانة منذ ايام السيدة هاجر والى يومنا هذا وكأنما هى التى عناها رائعنا العظيم ( وردى ) حين غنى ( عربا نحن حملناها ونوبا ) .

                    والذين اضطلعوا على شهادات ملكية الاراضى فى العهد السنارى ، تأخذهم الدهشة للدقة التى تنجز بها ، فبعد تحديد موقع الارض الجغرافى ومساحتها ، يأتى اسم المالك مصحوبا بسلسلة من اسماء الآباء وامهاتهم عن طريق ابيه ، وسلسلة طويلة من اسماء الآباء وامهاتهم عن طريق امه ، لتبدو وثيقة الملكية اشبه بشجرة عائلة او نسب تمتد اجيالا واجيالا ، كل هذا التدقيق يأتى دلالة على ما تعنيه ملكية الارض فى ثقافة هذه الامة على مر العصور .

                   سيدى والى ولاية الخرطوم ، هذه هى قيمة ملكية الارض ، متجذرة فى ثقافة هذه الامة من قبل الميلاد فى شقها النوبى والعربى ، لا نزع فيها حتى فى زمن الفتح والاحتلال ، وملكية الارض لا تمنع الانتاج عليها اذا تعزر على مالكها القيام بذلك لأى سبب ، فثمة مصطلح من كلمتين وجد فيه الناس من زمن قديم حلا لهذا الاشكال ، هو ( ايجار المنفعة ) فهو كفيل بالحفاظ على ثوابت هذه الامة فى تعاملها مع ملكية الارض ، وكفيل بأن يحفظ لمالكها ومؤجرها وسلطات الولاية حقوقهم فى المنفعة العائدة من انتاجها .

الجمعة، 23 سبتمبر 2011

آخر رسالة سعودية لليمن


                    تبدو عودة على عبد الله صالح المفاجئة لليمن ، آخر رسالة سعودية للداخل اليمنى ، وايا كانت المضامين التى تحملها هذه الرسالة ، فأن درجة الغليان فى حراك الثورة اليمنية ينذر انفجارها اراضى المملكة العربية السعودية بنصيب وافر من شظاياه ، خاصة وان الحرب على الحوثيين كانت قد خبأت فى باطنها قدرا من الثأرات تبدو معه استمرار الازمة باليمن سبلا كفيلة بأن تبلغ غاياتها ، ويبدو ان القصف العشوائى العنيف بالأسلحة الثقيلة الذى طال الساحات والشوارع والمنازل والذى قامت به الاجنحة الموالية له داخل الجيش اليمنى كان له حضوره الفاعل فى اسباب هذه العودة المفاجئة ، فالسعودية آخر من يرغب فى انزلاق اليمن الى حرب اهلية تفتح علي حدودها ابوابا من الجحيم .

                     ثمة امل يتراءى خلف هذه العودة بأن تكون المبادرة الخليجية مصحوبة بالتفويض الذى اصدره على عبد الله صالح من مشفاه بالرياض لنائبه للوصول مع المغارضة الى صيغة اتفاق يحقن الدماء  ويفتح افقا سياسيا ديمقراطىا جديدا يلبى مطالب ابناء اليمن ويديم استقرارها وامنها ، ثمة امل ان تكون هاتين المبادرتين الاخيرتين قد صادفهما النجاح وتبقت بصمته الاخيرة عليه ، خاصة وان تصريح الادارة الامريكية المنادى بأنتقال فورى وكامل للسلطة يشىء بأن اتفاقا فى هذا الشأن بين القوى الاقليمية والدولية  قد صادف اخيرا قبولها .

                   وايا كانت الاجندة التى حملتها عودته المفاجئة ، فأن الثورة اليمنية باتت على بعد خطوات قصيرة من اعلان انتصارها ، فصمودها الرائع على الساحات والشوارع لم يبق للنظام القائم شرعية يتكىء عليها ، فهذا الصمود رسالة واضحة وكافية للعالم اجمع بأن ارادة هذه الثورة غير قابلة للكسر ، لا بالعنف المسلح ولا بالدبلوماسية الناعمة ولا بمراوغات السياسة ولا بالضغوط الاقليمية والدولية .

                    فأن كانت هذه الآمال التى تراءت خلف عودته المفاجئة مجرد بروقا خلبا ، فأن عودته لن تكون سوى عودة شبح ينتظره اكثر من قبر تبدو شواهد كل منها قائمة على معظم اراضى اليمن التى لطخ اياديه بدماء ابنائها  .

الخميس، 22 سبتمبر 2011

ازمة ومواقف مأزومة


                   الخطوة التى اتخذتها السلطة الفلسطينية بالتوجه لمجلس الامن للحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية ، فتحت فى آفاق هذه القضية بابا لأزمة جديدة ، بدت جلية فى المواقف الرافضة لهذه الخطوة من امريكا ومن شايعها فى الغرب ، ومن حركة (حماس) ومن شايعها من الاسلاميين ، ومن اسرائيل بالطبع ، اذ ان الخطوة بدت فى منظور هذه المنظومة الرافضة لها ، طيا لصفحة تاريخ طويل من المفاوضات وما انتجته على الارض .

                    فالسلطة الفلسطينية بعد ان حرقت من عمرها قرابة العقدين من الزمان فى التفاوض ، كانت حصيلتها مزيدا من العقبات التى تقف حجر عثرة امام قضايا الحل النهائى سواء على صعيد الاراضى الفلسطينية التى لم تكن المستوطنات آخرها او على صعيد اوضاعها الداخلية التى بدا الانقسام سيدها بحكومتيه المتصادمتين بالضفة والقطاع ، لذا تجىء خطوتها هذه فعلا عقلانيا رشيدا يتجه الى اعادة ترتيب اوراق هذه القضية التى اختلطت بشدة وتشابكت خيوطها بأجندة داخلية واقليمية ودولية ظلت تتخذ منها مطيّة لتحقيق مكاسب لا علاقة لها بمواجع الشعب الفلسطينى ، وتكفى نظرة عاجلة لمواقف الرفض هذه لأكتشاف مدى تناقض نظرتها لهذه الخطوة مقارنة مع الوقائع التى تعيشها على الارض .

                     فحركة (حماس) ترى فى قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 ضربة قاتلة للآمال المعلقة على عودة جميع الاراضى الفلسطينية المحتلة ، اى فلسطين قبل قرار التقسيم الصادر فى 1947 ، وان قتل هذا الامل يعنى قفل الباب نهائيا امام عودة اللاجئين الى اراضى 1948 ، وهى رؤية رغم تصادمها بشدة مع الشرعية الدولية التى اصدرت قرار التقسيم الا انها على المستوى النظرى تبدو مبررا معقولا لرفضها خطوة السلطة الفلسطينية ، ولكن اجندتها الجارية على الارض تتناقض تماما مع رؤيتها هذه، اذ كيف يستقيم ان تطلب هدنة مع اسرائيل لمدة اربعين سنة دون اى اعتبار لقضية اللاجئين المحكوم عليهم بهذا الطلب ، الاستمرار فى شقائهم داخل مخيماتهم وعلى منافيهم اربعين سنة معادلة لتيه بنى اسرائيل ، ثم تأتى لتتزرع بهم الآن رافضة لقيام الدولة ، كما ان حكومتها المقالة بقطاع غزة وفى ظل شغفها بحكم القطاع تقوم بدور اقرب الى دور شرطى الحماية لحدودها المشتركة مع اسرائيل ، فموقفها المعلن من هجمات المقاومين من الفصايل الاخرى بأسم الهدنة يكفى، وبالتأكيد سيمتد لمنع اى خطوة لأقدام اللاجئين المتجهة الى اراضيهم القائمة داخل حدود 1948 ، من هنا لا يعدو رفض حماس لخطوة السلطة الفلسطينية سوى ان يكون تعبيرا عن موقف مأزوم يخشى من قيام الدولة على مكاسبه التى صنعتها المفاوضات .

                     اما امريكا فقد كان اقرارها بقيام دولة فلسطينية فى حدود 1967 طفرة نوعية فى ظل مواقفها التاريخية الطويلة على المحافل الدولية المتعلقة بالشأن الفلسطينى ، ولكن ان تقف الآن امام هذه الخطوة وتشترط على قيام الدولة ان تتم عبر التفاوض مع اسرائيل ، عبر ذات المفاوضات التى تولت ادارتها لما يقرب من العقدين واتقنت خلالها اسرائيل احراج اداراتها المتعاقبة بمواقفها المتزمتة من قضايا التفاوض ، للدرجة التى تضاءلت فيها صورتها كقوة عظمى فى اعين الفلسطينيين وشعوب المنطقة ورسّخت فى عقل المنطقة انها من انواع القوة التى لا تصنع حقا ، فأن موقفها هذا مع الفشل الزريع الذى الحقته حكومة نتانياهو الحالية بجهودها وقضى اصرارها على استمرار سياسة المستوطنات بآخر محاولاتها لا يعدو الا ان يكون تعبيرا عن موقف مأزوم تلعب فيه حسابات الداخل الامريكى المثقل بالمشكلات دورا رئيسا ، وتلعب فيه المصالح الاسرائيلية القائمة بثبات داخل عصب السياسة الامريكية دورا اكبر ولا يعدو موقفها هذا سوى ان يكون موقفا مماثلا لمواقف اللاعبين بكرت هذه القضية لتحقيق مصالح خاصة .

                 اما اسرائيل الرابح الاكبر فى لعبة المفاوضات ، تعلم علم اليقين ان المفاوضات فى ظل المؤسسات الدولية لن تتيح لها فرص الانفراد بتمرير اجندة دخيلة على اصل النزاع ، ولن تتيح لها ان تظل المفاوضات لعبة بلا نهاية ، فطول الزمن الذى صاحب هذه القضية وادى الى تراجع العرب عن كثير من مطالبهم التى نادوا بها عقب قرار التقسيم حتى استقرت فى وقتنا الراهن على الضفة وقطاع غزة اللتين كانتا تحت سيادتهم قبل حرب 1967 جعل من عامل الزمن افضل آلية تستطيع عبرها اسرائيل ان تنتزع التنازلات دون الحاجة الى اطلاق رصاصة واحدة ، لذا فهى حتى هذه اللحظة لم تستطع ان تقدم طرحا جديدا يشجع على العودة للمفاوضات ، وانما كرّست كل جهودها لقطع الطريق امام خطوة السلطة الفلسطينية على امل ان تفضى جهودها الى عودة ذليلة لمفاوضات بلا نهاية او تؤدى الى تجميد الاوضاع على ما هى عليه ، نفس اوضاع حالة اللاحرب واللاسلم التى تتقن لعبتها ولكن هيهات ، فقد دخلت القضية منعطفا الله وحده يعلم ما بعده .

                  اقبح صور هذه الازمة ان تكون حركة الفكر والدبلوماسية التى انبنت عليها الآمال فى حل القضية الفلسطينية رهينة داخل اطار وحيد يدعى المفاوضات المباشرة .
                      

الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

المفصولون قضية حيّة


                  اثارت عملية اعتقال رئيس اللجنة التنفيذية للمفصولين والتى تمت بمسجد رئاسة الجمهورية قبيل صلاة الجمعة اسئلة مقلقة عن جدوى وفعالية مؤسسات الدولة حينما يصل الحال بالمفصولين ان يتصيّدوا الفرص والمناسبات بما فى ذلك فرصة صلاة الجمعة بمسجد القصر الجمهورى لتقديم شكوتهم لرأس الدولة ، بعد ان استنفدت مساعيهم كافة الشروط المطلوبة لحلها على صعيد السلطة التنفيذية والقضائية والسياسية ، وتثير اسئلة مقلقة حول دور قنوات الاتصال بين الرئيس ورعيته .

                  والخوض فى عملية الاعتقال التى تمت وما تبعها من التحقيقات التى قال بها السيد رئيس اللجنة التنفيذية للمفصولين ، سينحرف بمسار هذه القضية من وجهتها الحقيقية التى يجب ان تمضى فيها الى متاهات مضللة غايتها ان تحجب عن بصر السيد رئيس الجمهورية واصحاب القضية ، القوة النافذة التى وقفت عقبة كأداء امام سبل الحل والمعالجة.

                   ما يهم حقا فى عملية الاعتقال التى تمت ، هو البحث فى خلفيتها عن هذه القوة النافذة التى نجحت فى احاطة هذه القضية بجدران سميكة تعذر اختراقها من قبل قرارات السيد رئيس الجمهورية وقرارات مجلس الوزراء واحكام القضاء الصادرة فى حق بعض اطرافها اضافة لمواقف لجان المجلس الوطنى - السلطة التشريعية الاعلى فى البلد - المؤيّدة لعدالة هذه القضية ، وعملية البحث هذه تهم السلطة القائمة اكثر من المفصولين ، على الاقل لأستعادة هيبة قراراتها المعتقلة بين جدران هذه القوة .

                    من جانب آخر فأن سعى السيد رئيس اللجنة التنفيذية للمفصولين لأستغلال فرصة صلاة الجمعة بمسجد القصر الجمهورى لمقابلة السيد رئيس الجمهورية وتسليم شكوته ، يعنى ان الأمل فى عدالة السيد الرئيس ما زال قائما ، وان القناعة فى قدرته على حل ومعالجة هذه القضية تستحق كل مخاطرة ، فالاعتقال الذى تم وبمنظور امنى يندرج تحت مهام اطقم حماية الرئيس المناط بها تأمين دائرة تواجده من اى اختراق ، ومحاولة رئيس اللجنة التنفيذية للمفصولين هنا تعد مخاطرة كبيرة ولكنها مخاطرة  تشى بأن قنوات الاتصال بالسيد الرئيس فى هذه القضية صارت افقا مسدودا ، وهو ما يثير القلق والمخاوف حول نهج الدولة فى تعاطيها مع قضايا الحقوق من جانب وقضايا الحريات من جانب آخر وما يترتب على ذلك من تبعات مسيئة لصورتها بمعايير العدالة .

                      قضية المفصولين لن تموت وستظل اختبارا عسيرا لشرعية كل الحكومات لأنها قضية تتعلق بالحقوق والعدالة ، والعدل هو اساس الحكم .

الاثنين، 19 سبتمبر 2011

زمن الوشاية


               الألفية الثالثة حفلت منذ عقدها الأول بالكثير المثير الخطر ، واحداثها منذ تفجير برجى التجارة العالمية ، انذرت بأن العالم لم يعد محكوما بذات الأطر والمفاهيم والقوانين والقيم التى حكمته طيلة العقود الماضية ، ومن بين كلما حفلت به الألفية الثالثة يبدو موقع (ويكيليكس) اكثرها اثارة واحد علاماتها البارزة ، فما ظل يبثه من خفايا كواليس الدبلوماسية الامريكية ، هزّ مفاهيم الناس عن الوشاية التى طالما كانت فعلا رزيلا ممقوتا يتحاشى الناس الاقتراب من اولئك الموسومين بها كما يتحاشون حاملى الامراض الخبيثة المعدية ، ولكن هذا الموقع  وبأستعراضه لكثير من احاديث القيادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية للدول التى طالتها تسريباته ، كشف ان الوشاية  لها وظيفة معززة لمكانة اولئك الواشين بمكنونات آرائهم لمتلقين غرباء ،  خاصة اذا كان متلقي الوشاية  احد ممثلى الدبلوماسية الامريكية ، القوى العظمى المنفردة حتى هذه اللحظة .

                 وبالطبع لا يستطيع كائن من كان ان يلوم الدبلوماسية الامريكية التى ظلت تفتح اذنيها لمثل هذه الوشايات التى تخدم مصالحها والتى تاتيها طوعا وطمعا وكرها احيانا ، وبأستثناء امريكا وهؤلاء الواشون فأن حكومات وشعوب البلدان المعنية بهذه التسريبات لاشك هم اكثر الأطراف امتنانا ل (جوليان اسانج) مؤسس موقع (ويكيليكس) الذى قام بنشر هذه الفضائح على الملأ ، وكشف لهم حقيقة تلك القيادات وايضا سوء تقدير تلك الحكومات وشعوبها فى اختياراتهم لحملة امانة مصائرهم .

                   المروّع فى الامر هنا ، ان نكتشف ان هذا السلوك كان فعلا مستمرا على مر الحقب والازمان ولكنه ظلّ آمنا مستترا فى كواليس لم تعد حصينة بعد ان اخترقت وسائل الاتصال الحديثة كل جدرانها السميكة ، والمروّع اكثر ان نكتشف ان الوشاية من اقدم مهن البشر التى لاتحوّج صاحبها من مهارات سوى مرونة اخلاقية عالية وارادة لا تحدها ايديلوجيا او تنظيم اذا كان من الوشاة بمكنون آرائه ، و اتقان فن الاستماع وامتلاك ذاكرة يقظة قادرة على تسجيل كل كبيرة وصغيرة ومن ثم تسويق حصيلة جمعه والتقاطه من احاديث الناس لمن يهمه امرها اذا كان واشيا تقليديا ، وهى مهمة فى مجال السياسة لا تتطلب منه سوى ان ( يندس فى السلطة ليكون معارضا ويندس فى المعارضة ليكون هو السلطة ويحارب السلطة بسلطة اخرى ولا يتبعه احد من فرط ما هو تابع ) حسب قول محمود درويش .

                    و(جوليان اسانج) فى هذا السياق يبدو اكبر وشاة التاريخ ، ولكنه فى ذات السياق يبدو عمليا ابرز دعاة حرية النشر دون اى اعتبار لأى تحفظات ، وهى مسألة لا يحد من خطورتها سوى ان يمتثل المنشغلون بالعمل العام فى طرح آرائهم وافكارهم ومواقفهم حول كافة القضايا وعلى مختلف المحافل بالوضوح والشفافية والعلانية ، فهذا زمن لايجدى معه المواربة والتستر ، فالوشاية صارت صناعة مربحة .

الاثنين، 12 سبتمبر 2011

قيمة الشهادة فى الراهن المصرى


                  اهتمت الميديا العربية والعالمية اهتماما بالغا بأعتزار كل من المشير طنطاوى والفريق سامى عنان عن حضور جلسات محاكمة الرئيس السابق محمد حسنى مبارك للأدلاء بشهادتيهما حول الاوامر الصادرة باطلاق النار على المتظاهرين المصريين التى اودت بحياة عدد منهم ، , وجاء اعتزارهما بسبب الحالة الامنية المحيطة بمصر والتى لا تخفى مخاطرها على احد .

                  وبالرغم من ان شهادتيهما تبدوان فى كل الظروف عاملا معززا لبسط الامن ، بأعتبار ان مثول اعلى سلطة فى البلد امام القضاة فى محاكمة طرفها الآخر السلطة العليا السابقة فى البلد ، يعنى ان القانون فى مصر هو سيّد الاحكام ، وان الناس هناك جميعا متساوون امام القانون ، وان مصر دولة مؤسسات تتمتع سلطاتها القضائية بأستقلالية تامة الى آخر ما يضفيه المشهد على صورة مصر من سمات التحضر والرقى ، وبالرغم من كل ذلك الا انه حينما تكون المؤسسة العسكرية طرفا اصيلا وضروريا فى مثل هذه المحاكمة ، فثمة اعتبارات يجب مراعاتها بعيدا عن ضرورات التمسك بالأجراءات الشكلية المعتادة فى المحاكمات .

                   اولى هذه الاعتبارات ، ان استدعاء اعلى رتبتين فى جيش دولة من دول العالم الثالث للشهادة فى محاكمة طرفها القائد الاعلى السابق لذات الجيش وفقا لأجراءات المحاكم الجنائية امر من شأنه ان يمس كبرياء وهيبة الجيش ، ويقود فى حالة تمسك قيادته بالاعتزار الى صدام بين من بيده القوة ومن بيده القانون ، وكلنا يعلم ان القوة الفعلية فى عالمنا بيد الجيش واذا تعارض امر مع تقاليده وعقيدته فلن يتوانى فى استخدامها للأطاحة به وبكل شىء يقف امامه ، محكمة كانت او نظام حكم .

                    ثانى هذه الاعتبارات ، ان استجابة قيادة الجيش المصرى لمطالب الثورة فى محاكمة قائده الاعلى السابق ورئيس الدولة ، كان من نتائجها مشاهدة الرئيس السابق محمد حسنى مبارك داخل قفص الاتهام من قبل ملايين الملايين الذين تابعوهوا على الفضائيات فى وضع صحى لايليق مشهده بأخلاقيات المنطقة ولا بكرامة قائد عسكرى تغنت ببطولاته مصر زمنا طويلا بغض النظر عن الانتهاكات التى تمت فى عهده على الانسان المصرى ومقدراته ، والمشهد وحده كان كافيا لطى هذا الملف بصورته التى اتسمت بسوء الخاتمة ، علما بأن حديثا طويلا دار قبل تنازله اتجه لأخراج التنازل بما يحفظ له و للقوات المسلحة تقاليدها وقيمها العسكرية التى رصعّت صدره بعديد الاوسمة والنياشين ، فهى استجابة كان من الضرورى ان تؤخذ فى الاعتبار و تعفى الجيش من اى ضغوط جديدة تضعه فى مواجهة  مع حركة التغيير الجارية فى مصر .

                   ثالث هذه الاعتبارات ، ان الحالة الامنية فى مصر تحظى مخاطرها العديدة بأولوية الاهتمام اذ سيتحدد على ضوئها حاضر ومستقبل مصر ، ومع تقديرى الكامل لمشاعر اسر شهداء الثورة ، ومع وقوفى بشدة مع المنادين بضرورة محاكمة الضالعين فى عمليات القتل التى طالت المتظاهرين العزّل ايا كانت مواقعهم السابقة ، الا ان المحاكمة فى ظل وضع يعانى من اضطراب امنى من شأنه ان يضر كثيرا بسير اجراءات المحاكمة وبفرص تحقيق العدالة لتأثير الحالة الامنية على صعيد افادات الشهود والمستندات .

                  فهل تستحق شهادة المشير طنطاوى والفريق سامى عنان كل هذا الاهتمام فى ظل الراهن المصرى المنذر بمخاطر عديدة على صعيدها الداخلى والخارجى وعلى فرص التحوّل الديمقراطى المنشود ؟

الأحد، 11 سبتمبر 2011

ذكرى 11\9 : كراهية ام حزن


                عشر سنوات مرت على العملية التى ادت الى تفجير برجى التجارة العالمية ، وخلّفت آلاف الضحايا من الامريكيين وجنسيات اخرى من العاملين فى البرجين، والذين تصادف وجودهم بالمنطقة لحظة الانفجار ، وبعض اطقم الدفاع المدنى التى خفت لموقع الحادث ، والمسافرين على متن الطائرات التى استخدمت فى العملية واطقمها ، وطوال هذه العشر سنوات ، ازدحم فضاء هذا الحادث المروّع فى كل عام يصادف ذكراه ، بأطروحات مربكة ، بعضها ظل يتناوله فى اطار نظرية المؤامرة التى احاطت الادارة الامريكية وقتها بأسئلة صعبة ولا زال يتوالد منها المزيد بحثا عن اجابات شافية ، لغموض بعض الوقائع المصاحبة للحادث والتبعات التى ترتبت عليه على صعيد الداخل الامريكى وعلى صعيد العالم وعلى وجه الخصوص بالعراق وافغانستان ، وبعضها ظل يتناوله بحرفية عالية لتجييره لصالح صراع الحضارات ، ويزج بالاسلام والمسلمين على خلفيته خطرا محدقا بالمدنية ، وبعضها لم يخرج تناوله للحادث من اغلفة ملفات التجارة العالمية التى احتواها البرجان ، وحدهم ذوى الضحايا ظلوا يعيشون مرارة الفقد والم الحزن فى ذكرى هذا اليوم .
            
                
                  وما يدعو للحزن حقا ان كثيرا من الغربيين استغلوا ذكرى هذا اليوم وملأوا المواقع على الانترنت بفيض من كراهية عمياء للمسلمين والاسلام ، ووصل الامر ببعضهم ان استدل بنصوص غريبة تم نسبتها للقرآن الكريم ليضفى على كراهيته مسحة عقلانية ويشى بان الاسلام دين يحض على القتل والتفجير والدمار وينسون فى ذات الوقت واقعة مبنى التجارة الدولية (بأكلاهوما) الذى قام بتفجيره (تيموثى ماكفى) ، الامريكى والمتشدد فى مسيحيته والذى بذلت معه السلطات ما وسعت ليبدى قليلا من الندم على فعلته وصلت الى حد مقايضته فى ذلك بالسجن المؤبد بدلا عن الاعدام ، ومع ذلك لم يخطر على بال احد المسلمين بأن المسيحية دين يحض على القتل والتفجير والدمار وينتج للعالم مسيحيين ارهابيين يهددون الحياة والمدنية فيه ، لا فى تلك الواقعة ولا فى ما تلتها وآخرها تفجيرات (اوسلو) (بالنرويج) والقتل المروع الذى صاحبها ، فمثل هذه الافعال لا يمكن ان تنتجها الاديان التى تدعو جميعها الى السلام والمحبة والتسامح .

                   يحزننا جدا كمسلمين مقتل الابرياء من ضحايا هذه العمليات ايا كانت اديانهم ومعتقداتهم ، سواء اكان الفاعل مسلما او مسيحيا ، ويحزننا اكثر ان يتغابى العقل الغربى عن قيم ديننا التى تحضنا على فعل الخير ، وتأمرنا ان ندخل فى السلم كافة ، وتذكرنا بأن هدم (الكعبة) - بيت الله الحرام - اهون عند الله من قتل النفس بغير وجه حق ، وان من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا ، وحتى فى حالة من يثبت عليه جرما يوجب قتله ، يحضنا ديننا ان من عفى واصلح فأجره على الله ، فالعفو دائما مقدم لدينا ، فلماذا هذه الكراهية العمياء ؟

                   لا يملك المرء فى مثل هذه الذكرى الا ان يعزى اسر الضحايا الابرياء الذين سقطوا فى هذه العمليات ، ويعزى اسر جميع الضحايا الابرياء الذين سقطوا نتيجة لها فى العراق وافغانستان ، ويعزى اسر جميع الضحايا الابرياء الذين سقطوا نتيجة لمثل هذه العمليات فى جميع بقاع الارض ، وندعو الله ان يلهم الناس جميعا ان يجنحوا للسلم والتسامح .
                 

السبت، 10 سبتمبر 2011

ما بعد اقتحام السفارة


                بعد قيام احمد الشحات احد شباب الثورة المصرية بأزالة العلم الاسرائيلى من مبنى السفارة ورفع العلم المصرى فى مكانه ، يجىء اقتحام السفارة الاسرائيلية يوم امس رسالة ثانية تعبّر بجرأة وحدة عن موقفها من العلاقات بين البلدين ، وهذا التسلسل فى الاحداث تجاه وجود السفارة الاسرائيلية بمصر ينبىء برسائل قادمة تبدو اشدّ حدة وعنفا ، فالعلاقات المصرية الاسرائليىة على المحك الآن .

                 وبلا شك ان الحادثين يعبران وبشكل منظم عن احد مطالب الثورة المصرية التى لازالت تكافح لبلوغ غاياتها ، وهو قطع العلاقات مع اسرائيل ، ويبدو ان هذا المطلب  مع نجاح الواقفين خلفه على اختراق الحواجز الامنية حول السفارة ، والوصول الى اعلى المبنى فى المرة الاولى ، وقلب المبنى فى المرة الثانية ، تدفعه قوة راغبة فى الصعود به الى الحد الذى من شأنه ان يعيد شبح الحرب ليخيّم فى سماء المنطقة الملبدة اصلا بظلاله على جبهاته المألوفة ، فضلا عن ا لزخم الذى اضافه الموقف التركى المتوتر مع اسرائيل حول حادثة السفينة (مرمرة) المرتبطة توتراته عضويا بحالة قطاع غزة الواقع تحت توترات تبعات الحصار التى طالت الحدود المصرية ،  اى ان هناك وضع اقليمى فى ظل الربيع العربى يبدو مواتيا لخدمة هذا المطلب ومد القوة الواقفة خلفه ماديا ، اما الجانب المعنوى فقد ظلت تتكفل به جدران غرف المصريين المحتشدة بصور الشهداء والعلاقات التجارية المختلة التى اقامها النظام السابق مع اسرائيل ومن قبل ومن بعد ، استمرار القضية الفلسطينية على اسوأ من حالها الذى سبق حربى 1967 و1973 .

                   من هنا يبدو هذا الحادث سببا كافيا لمصر بكل مكوناتها الرسمية والسياسية والشعبية ان تفتح ملف العلاقات مع اسرائيل على مصراعيه ، وتتناول تفاصيله بكل شفافية ، مصحوبة فى ذلك بمصالحها ومصالح القضية الفلسطينية ومصالح قضايا المنطقة ، فالعلاقات بين البلدين رغم استمرارها لأكثر من ثلاثين عاما الا انها على الصعيد السياسى و الاجتماعى لم تستطع ان تبنى قدرا ولو ضئيلا من التطبيع فى الشارع المصرى الذى عبىء بجدارة فى مواجهته ، و عززت سياسات اسرائيل العدوانية داخل الاراضى المحتلة وعلى الصعيد العربى والاسلامى من تصاعد هذه التعبئة لتبلغ اقصى مداها بأقتحام سفارتها بالقاهرة يوم امس .

                    ولكن قبل ذلك لابد من معالجة تداعيات هذا الاقتحام الذى هزّ صورة الدولة المصرية وافقد الثقة فى قدرة اجهزتها الامنية على حماية ارض السفارات وهو امر من المحتمل ان تفضى اقل تبعاته الى زريعة دخول قوات اجنبية للأضطلاع بذلك ، فضلا عن انعكاسات ضعف الحالة الامنية على الصعيد الاقتصادى خاصة مجال السياحة احد موارد مصر المقدرة ، اما اسوأ تداعياته فتكمن فى الوثائق التى تحصل عليها المقتحمون وعرضت بعضها القنوات الفضائية ، والتى من المحتمل ان تطال رموزا على مستويات مختلفة فى الدولة المصرية وداخل القوى السياسية وداخل المجتمع المصرى الذى لن تشفع لديه العلاقات القائمة بين البلدين مبررا لقيام علاقات بين مصريين و اسرائيل حتى لو كان طابعها اقتصاديا مرتبطا بالاتفاقيات الرسمية المعقودة بين البلدين ، فهذا الجانب يستدعى تحركا عاجلا حتى لا يكون ثغرة تنفذ عبرها اجندة تستطيع ان تنتج عددا من الوثائق الزائفة ، من شأنها ان تغرق مصر فى فوضى لا يتمناها احد لها ، فكل ما يحتاجه الامر هنا ، شيئا من الشجاعة والشفافية من الاجهزة المعنية ومن الذين ارتبطوا بمصالح خاصة مع اسرائيل ابان فترة النظام السابق وتحمل المسئولية الاخلاقية لهذه العلاقات .

                      مصر الآن فى منعطف خطر للغاية ، لا يجدى معه اى نوع من المناورات السياسية او الالتفافات على القضايا العاجلة والملحة ، امن مصر واستقرارها هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق امانى وتطلعات شعبها ، فلتوضع كل الاوراق على الطاولة وليتعاون اهل مصر جميعهم على حلحلتها مهما كان الثمن المقابل لذلك .

الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

هؤلاء القتلة


               نشرت دورية (لانسيت) الطبية ، دراسة عن اعداد ضحايا الهجمات الانتحارية فى العراق للفترة من 20 مارس 2003 وحتى 31 ديسمبر 2010 اى خلال الاعوام السبعة التى تلت الغزو الامريكى للعراق وجاء فيها :-

                1- مقتل 12 الف و284 مدنى عراقى من اصل 108 الف و624 قتيلا مدنيا
                2- مقتل 200 من جنود التحالف بينهم 175 امريكيا
                3- اصابة 30 الف و644 مدنيا
(تفاصيل اوفى تجدونها عبر قوقل او بموقع اذاعة العراق الحر)

               الارقام مفزعة وتتحدث عن نفسها وتثير اسئلة اشدّ فزعا عن طبيعة النفس البشرية عندما تنحط الى هذا الدرك من التوحش ، وتدعو للتسآؤل عن هوية العقل الواقف خلف هؤلاء القتلة المتوحشين ، واهدافه التى تتخبى خلف دماء الابرياء ، واساليبه التى جعلت من ارض العراق ( لا رايات للموتى كى يستسلموا فيها ولا اصوات للأحياء كى يتبادلوا خطب السلام ) وانما ساحة مظلمة يتبختر فيها كل قاتل جبان يتصيّد ضحاياه من المدنيين العزّل المسالمين .

                رحلة البحث عن هوية العقل الواقف خلف هذا القتل البشع فى العراق ، تخرج فى اولها بحقيقة اننا امام عقل مسكون بالاجرام ومفتون بالقتل ، تقوده نزعة منفلتة فى عدائها للبشرية وللحياة ، عقل لا يردعه دين ، فضحاياه من كل دين وكل ملة ، لم يسلم منه المسلمون ، شيعة كانوا ام سنة ، ولم يسلم منه المسيحيون ، فلا اهل القبلة بمنجاة من جرمه ولا اهل الكتاب دع عنك اصحاب الديانات الاخرى ، استباح المساجد والكنائس قتلا وتفجيرا وتهديما معلنا بذلك عن احد وجوهه الكريهة ، عدوا للدين الذى تحرّم كل رسالاته قتل النفس بدون حق ، اما عداؤه للبشرية  فصوره اكثر بشاعة بأستهدافه للنساء والاطفال والشيوخ الذين حظيوا طوال التاريخ البشرى حتى فى اكثر عصوره توحشا وانحطاطا بأوضاع آمنة ، يكمن فى الاسواق والطرقات ووسائل النقل ويعتدى على حرمات البيوت عدوّا للحياة بلا منازع .

                هذه هى هوية العقل الواقف خلف الهدر الفظيع للأنسانية فى العراق ، من العار ان يكون ممثلا لجهة سياسية داخل العراق  ، ومن العار ان يقف اهل العراق على اختلاف اطيافهم مكتوفى الايدى امام وحشيته المنذرة بأكثر منها هولا وفظاعة اذا نجح فى الوصول الى السلطة ، ومن العار ان يكون ممثلا لجهات اقليمية او دولية ترى فى الدم العراقى المهدر على الطرقات والمساجد والاسواق قربانا لمشاريعها ايا كانت طبيعة هذه المشاريع ، ومن العار ان يقف العالم متفرجا على هذه المشاهد المخزية للأنسانية ولا يحرك ساكنا بينما مخابراته قادرة على احصاء الآهات فى مخادع الفاجرين ، وعار علينا جميعا ان يصبح المشهد العراقى مناسبة نتداول فيها احصاء الموتى .

                ما يجرى فى العراق وباء قاتل ومدمر و سريع العدوى ، يبدو الحياد فى مواجهته دعوة مريحة الى الانتقال  الى ديارك .

الاثنين، 22 أغسطس 2011

نهاية حكم الطغاة


                   اجتياح الثوار الليبيين للعاصمة طرابلس يوم امس بتلك القفزة المفاجئة التى ادهشت العالم ، يعد حدثا تأريخيا ليس فى حياة الشعب الليبى وحده الذى احتفت جموعه الغفيرة به ، وانما فى حياة كل الشعوب التى ترزح تحت حكم الطغاة ، ويعد من جانب آخر احدث سيناريو تشهده الساحة الدولية فى كيفية التعامل مع الانظمة المتحدية لأرادة الداخل الوطنى والمحيط الاقليمى والاسرة الدولية ، ولأن معظم انظمة بلدان المنطقة لا تخلو من شبهة التحدى لواحدة من هذه الارادات او لمجملها ، فأن تكرار هذا السناريو يبدو قريبا منها  .

                  فالداخل الوطنى لم يعد كما فى السابق خاضعا بكامله لسيادة الدولة ، فثمة قضايا كقضايا الحقوق والحريات التى اقرتها المواثيق الدولية اخذت فى الآونة الاخيرة تشكل مطلبا ملحا لتطبيقها على الارض ، مطلبا ظلّت تنادى به المنظمات الاممية و المعنية بحقوق الانسان ومنظمات المجتمع المدنى وشخصيات عالمية بارزة ، وهذا المطلب اصبح ظاهرة بارزة فى السياسة الدولية ، ظاهرة تسعى جاهدة لتجريد الشأن الداخلى من سطوته على هذه  القضايا ، بحجة ان اشتطاط حكومات الانظمة فى انتهاكها لحقوق وحريات شعوبها فعل يؤثر على مجمل الحالة الاقليمية والدولية بالقدر الذى يصبح معه الشأن الداخلى مهددا للأستقرار والمصالح ، وبالتالى فأن مطالب الشعوب الخاصة بقضايا الحريات والحقوق لم تعد مطالبا خاصة بالشعوب و انظمتها وانما مطالبا دولية سيطال تحديها تحدى المجتمع الدولى وبالتالى تصبح تلك الانظمة عرضة لسلسلة من الاجراءات نهايتها لم يعد غزوا كما كان فى الحالة العراقية وانما نهايتها هو السيناريو الليبى بعينه خاصة وان معظم دول المنطقة تزخر بذات البنيات التى شكّلت كتلة الثوار الليبيين ومستعدة للعب ذات الدور .

                وبما  أن سياسة حسن الجوار تبدو معيارا دقيقا لحسن نوايا النظام القائم مع محيطه الاقليمى ، فان التدخل فى الشأن الداخلى لدول الجوار يعد  انتهاكا صارخا لحق الدولة وشعبها  فى انتهاج السياسات التى تلبى حاجاتها وحاجات شعبها ،  سواء على الصعيد السياسي او الاقتصادى او الاجتماعى  ، وعلى مر التأريخ ظل التدخل فى شئون دول الجوار ومبادلتها العداء ، احدى سمات انظمة الطغاة ، والزريعة المفضلة لهؤلاء الطغاة لقهر شعوبهم ونشر ثقافة الحرب والقتل والدمار على اوسع نطاق ، وهذه السمة ظلت علامة مميزة لعدد من الانظمة العربية والاسلامية ، بعضها كان مدفوعا فى تدخله بحكم امانى المشروع الوحدوى بتعقيداته فى شقيه العروبى والاسلامى ، وبعضها كان تدخله فعلا استباقيا لأتقاء تداعياته ، ولم يكترث اى منهم الى حقيقة ان هنالك واقع موضوعى داخل كل دولة مرتبط بقوة مع مصالح اقليمية ودولية يستحق ان يحظى بالاحترام وعدم المساس به ، والا فأن الصدام مع القوى الاقليمية والدولية المرتبطة مصالحها مع تلك الدولة يصبح امرا محتوما ، وتاريخ المنطقة القريب والراهن يشير بأصابعه العشرة الى ورطة تلك الانظمة وطغاتها داخل بؤر النزاع المنذرة بأنهيارات قادمة لأنظمة تظن نفسها عصية على رياح التغيير .

                  وما يدعو للغرابة ، ان الانظمة العربية جميعها بلا استثناء تعرف بدقة متناهية ما تعنيه (الشرعية الدولية) ، وتعرف اكثر ما يعنيه اصطدامها بها ، وتتعاطى سرا مع كثير من مطلوباتها وتسعى جاهدة لتكون جزءا منها دون ان تستوف لشروط التحاقها لا فى بنياتها السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية ، ومع ذلك تغرق شعوبها فى جهل تام بحقيقة ما ظل يدور بينها وهذه الشرعية خلال فترة حكمها الطويل ، حتى اذا جاءت ساعة اصطدامها معها خرجت علينا بخطاب ملتبس ، يصنفها حينا ضمن دائرة الحرب الصليبية وحينا ضمن دائرة الحرب الاستعمارية وحينا تحت دائرة الغزو الثقافى الى آخر ما تجود به قرائح الهاربين من فضيحة التستر على خداع الشعوب ، وكل ما يهمها من خطابها الملتبس هذا ، ان ينجح فى تعبئة شعبها بالحق او بالباطل ليصبح لها ترسا تتقى به ضربا كانت تعلم علم اليقين انه واقع عليها لا محالة ، كأنما لسان حالها يقول (علىّ وعلى شعبى يارب ) ولكن الشعوب قد ادركت ان مثل هذا الخطاب لا يعنى سوى ان ثمة طاغية فى ( حاجة لمزيد من الظلام ليسفك مزيدا من الدم ) .

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...