الجمعة، 1 أكتوبر 2010

حركة 1924 .. اجندات متصادمة ومصادر شحيحة

                       تناول تاريخ السودان الحديث امر ينطوى على قدر كبير من الصعوبة والتعقيد ، فضلا عما يصاحبه دائما من مخاطر غير محسوبة العواقب . فأى باحث يقدم على تناول حدث له وجوده الفاعل فى تأريخنا الا وينفجر فى الذهنية السودانية كأنه وقع بالامس القريب ، وينكىء معه من الجراحات قدرا يبدو معه الوطن كأنه على اعتاب اعادة انتاج ذلك الحدث مرة اخرى . فواقعنا الراهن ما زال محتفظا بقدر كبير من مصادر تلك القضايا التى فجرت احداثا كبيرة عايشها الوطن من قبل بكل جراحاتها وآلامها ، الامر الذى يجعل من تناولها فى راهننا خطوة تحتاج الى قدر كبير من الحذر.

                       فهل يسعفنا التاريخ بدروبه ومسالكه الوعرة حينما نتناول حدثا فى حجم حركة 1924 بأن يفتق فى وعينا فكرا جديدا يمكننا من تجاوز الآثار التى افرزتها الحركة واصبحت معالما بارزة فى حركتنا السياسية الراهنة؟ هل فى مقدورنا ان نتناولها بمفهوم يرى فى احداثها التى وقعت آنذاك سواء اكانت محل رضا او محل سخط بانها احداث وقعت وفقا لشروطها التاريخية التى كانت قائمة آنذاك ولا نستطيع محاكمتها وفقا لشروط واقعنا الراهن؟

                     لا شك ان صعوبات جمة ستواجه هذا التناول ، وغالبا ما تصطدم جهود اى باحث مهما بلغ من الدقة والحيدة ومهما تنوعت وتعددت مصادره واتسع حجمها بالمصالح الآنية المتولدة من تلك الاحداث التى يسعى لتقديم اضاءات حول غموض بعض وقائعها . فالغموض سمة ملازمة للاحداث الهامة التى لها ارتباطات وثيقة بمصالح ممتدة من وقتها ذاك والى وقتنا الراهن ، وتبدو حركة 1924 نموزجا ساصعا . فبالرغم من كثرة البحوث التى تناولتها فى سعى جاد لأستجلاء حقائقها الا ان الغموض ظل سيدها ، فالى ماذا يعزى ذلك؟ لا شىء عندى سوى شح المصادر التى لعبت المصالح دورا كبيرا فى غيابها ، فجميع الاطراف المعنية بحركة 1924 بدءا من بريطانيا ومصر ، وآخرين من جنسيات مختلفة ، وانتهاءا بالسودانيين الذين صنعوا وشاركوا وعايشوا احداثها ، انطووا على كثير من حقائقها على نحو اشبه بالانتظار المتحفز للصدام مرة اخرى ، ويبدو هذا الامر جليا حينما يتقدم احد الباحثين باطروحة تتصادم حقائقها مع مصالح احد اطرافها ، فلن تمضى برهة حتى تعقبها اطروحة من احد الباحثين تتصادم حقائقها مع حقائق الاطروحة الاولى ، بل شهدنا كيف ان بعض صانعيها الذين سكتوا لعقود طويلة بعد نهاية الحركة وبعد الاستقلال ، اضطروا ان يدلوا بالنذر القليل من وقائعها لنفى او تأكيد حقائق بعينها طرقها احد الباحثين ، وفى هذا دلالة واضحة اننا ما زلنا اسرى للتبعات التى ترتبت على حركة 1924 وان صراعات اطرافها ما زالت تدور فى كثير من نواحى حياتنا ، وتبدو اكثر جلاءا فى حراكنا السياسى وعلى وجه الخصوص ، فى التعاقب الغريب بين نظام ديمقراطى وآخر عسكرى شمولى ، بينهما فترة انتقالية اشبه بهدنة ريثما تستعد اطرافها لنزال جديد ، وهنا تكمن مأساة الانسان السودانى الذى ادماه واقعه الراهن كثيرا ، وظل يتلفت زمنا طويلا فى آفاق هذا الوطن الشاسع المتعدد الاعراق والاديان والثقافات ، بحثا عن خلاص نهائى من هذا الصراع الطويل الذى تهدد حلقاته بحصار اجياله القادمة ، كأنما قدر الانسان السودانى ان يظل اسيرا لهذا الصراع جيلا بعد جيل .

                    من هنا احاول تناول هذه الحركة برؤية لا تسعى للبحث عن حقائق جديدة لأستهداف طرف من اطرافها وان اتجه السياق الى ذلك ، بقدر ما تسعى لتسليط الضوء على بعض زواياها للتأكد عما اذا كان الذين صنعوا احداثها من المصريين والسودانيين الذين شاركوا فيها ، والذين خاضوا فيها مضطرين ، والآخرين الذين شملهم تيار الفرز فى اعقابها بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية قد وقعوا ضحايا لأجندات استعمارية افرزها التنافس الاستعمارى المحموم على موارد افريقيا بين بريطانيا وفرنسا منذ خواتيم القرن التاسع عشر ؟ فثمة اجندات برزت  فى القاهرة على خلفية المسألة المصرية ثم انتقلت الى السودان فى 1896 حيث استقرت فترة من الزمن ، لتعود من جديد فى ذروة الصراع الذى دار بين مصر وبريطانيا فى اعقاب ثورة 1919 ، لتستدرج المصريين والسودانيين فى عشرينات القرن العشرين الى قبضة بريطانيا زمنا طويلا من الخرطوم فى اعقاب فشل الحركة فى 1924 . وتستند هذه المحاولة بشكل اساسى على المراجع التالية :-
                 
                  1- مؤلفات سليمان كشة
                  2- (الادارة البريطانية والحركة الوطنية فى السودان 1919 - 1939 ) للدكتور جعفر محمد على بخيت الطبعة الثانية 1987- المطبوعات العربية للتأليف والترجمة - نقله من الانجليزية الى العربية هنرى رياض .
                  3- (ثورة 1924 دراسة ووقائع) للدكتور احمد ابراهيم دياب - الطبعة الاولى 1977 مطبعة الجبلاوى - شارع الترعة البولاقية.
                 4- (على عبد اللطيف وثورة 1924 . بحث فى مصادر الثورة السودانية) للدكتورة يوشيكو كوريتا ترجمة مجدى النعيم - الطبعة الاولى - مركز الدراسات السودانية - القاهرة 1997 .
                 5- مراجع اخرى مشار اليها فى حينها .
اما فيما يتعلق بالمراجع اعلاه سأكتفى بأسم المؤلف وذكر رقم الصفحة عند التناول ، وذلك وفقا للمحاور الاتية :-

المحور الاول :
رؤية فى المصادر :-

                 المتتبع للبحوث والكتابات التى تناولت تأريخ السودان الحديث ، يلحظ ان ثمة مشكلة ظل الباحثون يشيرون اليها كثيرا ، وتتعلق هذه المشكلة بالمراجع والمصادر التى يحتاجونها لتغطية او لفهم الدوافع التى ادت لوقوع احداث معينة فى تاريخنا ، فثمة دعاوى معقولة ومقبولة ، تشير الى ان اكثر تفاصيل تاريخنا الحديث اثارة ، ما زالت حبيسة فى ملفات بريطانية وملفات مصرية كامنة فى الاضابير ، وملفات ثالثة متفرقة فى بلدان لعب ابناؤها ادوارا خطرة فى تاريخنا ، وملفات رابعة انطوى عليها سودانيون لا احد يعلم مراقدها، فالى اى مدى تؤثر هذه المشكلة فى الرؤية الفاحصة لحركة 1924 ؟

( ا ) رؤية فى المصادر البريطانية :-

               هذا الوجه من المشكلة على صعيد المراجع والوثائق البريطانية ، نجده اكثر وضوحا عند جعفر محمد على بخيت ، ففى اطار سعيه لأستجلاء حقائق تلك الفترة وصل ص8 الى قناعة ( ان الدراسة الشاملة الكاملة للسياسة البريطانية تحتاج لمزيد من البحوث فى المستندات المتعلقة بالسودان والمحفوظة بوزارة الخارجية البريطانية واوراق المندوب السامى البريطانى لمصر ٌسابقا ٌ والمستندات المحفوظة بدار الكتب المصرية ، ولما كانت تلك الوثائق ليست فى متناول اليد فقد اتضح انه من المستحيل الوصول اليها )وبالتالى يصبح من المستحيل الوصول الى حقائق السياسات البريطانية التى لعبت دورا مباشرا فى تفجير احداث هامة كحركة 1924 ، نظرا لأرتباط تلك الوثائق والمستندات بالمصالح الاستراتيجية لبريطانيا فى السودان والاقليم ويبدو حلما مستحيلا ان يتطور فكر سدنتها يوما الى موقف اخلاقى يدفع بضرورة اطلاق سراحها من محابسها تلك ، لتنهار معها كل المصالح التى انتجها المشروع الاستعمارى ، لذلك يأتى حبس هذه الوثائق والمستندات سياجا لحماية هذه المصالح ، ومع ذلك فالجانب الذى يبدو اكثر استحالة فى هذا الوجه من المشكلة كما يراه جعفر محمد على بخيت ص 5 ( ان الاستعمار لا يمكن ان يحقق الكثير بالطرق السلمية وفى شىء من السهولة الا اذا وجدوا من بين رعاياهم شركاء يمكن اقناعهم بشروط خاصة ليتعاونوا معهم ويجندوا بدورهم معاونة اتباعهم ، وهذا الجانب لا يرد فى اى وثائق او مستندات تخص دولتى الحكم الثنائى لأنه لم يؤخذ دائما فى الاعتبار عند كتابة تأريخ الادارة الاستعمارية ) ومع ادراكنا التام لتنبيه جعفر محمد على بخيت بضرورة الفصل بين النشاط السياسى التقليدى منه والحديث ، الذى كان قائما قبل الاستعمار واستمر كبناء قائم ضمن الابنية التى اسست عليها الادارة البريطانية هياكل حكمها ، وبين اشكال التعاون الاخرى التى تندرج تحت مظلة العمالة للاجنبى ، الا ان عدم اخذ هذا الجانب فى الاعتبار عند كتابة تاريخ الادارة الاستعمارية ، امر يبدو صعب التصديق ، اذ لا بد ان يرد فى ملفات الادارة الاستعمارية مهما كانت ضرورات السرية حوله ، لأن التعاون ايا كان شكله ، يعنى ان اموالا تدفع ومنحا تعطى ومزايا تخصص ، وهى امور تندرج ضمن بنود الميزانية التى تحظى لدى الحكومات الاستعمارية بدقة التسجيل ، كما انه لا يعقل ان يثمر هذا التعاون معلومات دون ان تحتويها ملفات سواء اكانت تلك المعلومات مخابراتية او غيرها ، وهى ملفات يتم استعراضها فى اعلى مستويات الحكم ، ومن المستحيل ان تدير حكومة ما شئونها شفاهة ، ولكن هذه السرية المضروبة حول مصادر هذا الجانب من اشكال التعاون ناتجة من ان الادارة الاستعمارية ترى فى هؤلاء المتعاونين حليفها الدائم ، سواء اكانوا من غير المنتمين لخارطة توزيعات الثروة والسلطة التى كانت قائمة بالبلاد قبل مجيئها او منها ، وترى فيهم الراعى لمصالحها بعد رحيلها ، فجانب بهذه الاهمية لا يمكن ان يغفله تاريخ الادارة الاستعمارية ، فأليوت بلقور احد كوادر الادارة البريطانية فى السودان يحكى (وفجأة انتهى كل شىء ، كان هناك حزم الامتعة التى نرغب فى حملها فقط الى ارض الوطن ، وحرق الوثائق السرية التى اذا انتقلت الى السياسيين ربما تسببت فى تسويد وجه الادارة السابقة .... الخ) راجع حكايات كانتربرى السودانية - تحرير دونالد هولى - ترجمة محمد اجمد الخضر - الطبعة العربية الثانية 2007 ص 143 - الناشر مركز عبد الكريم ميرغنى .، وما يهمنى هنا ان استحالة الوصول الى الوثائق والمستندات المتعلقة بهذا الجانب ، انتجت مناخا خصبا لنمو كافة اشكال الاتهامات التى وسمت حراكنا السياسى آنذاك ، وطبعت المعسكرين اللذين افرزتهما حركة 1924 بتهمة العمالة اما لمصر او لبريطانيا ، واصبحت هذه الاتهامات ثقافة راسخة الى يومنا هذا ، دون ان ننتبه الى ان هذا المناخ هو احد سواعد الاستعمار فى ادارة الشعوب التى احتل اراضيها ، سواء اكان ذلك فى حالة وجوده او رحيله ، والسؤال الذى يطرح نفسه الآن ، اذا كانت الوثائق البريطانية سواء تلك الخاصة بأدارتها فى السودان او الخاصة بالحكومة البريطانية فى لندن او الخاصة بالمندوب السامى البريطانى بمصر ، المتاح منها والمحظور وتلك التى من المستحيل الوصول اليها ، لم تسعف السودانيين فى تخطى ما افرزته حركة 1924 منذ ذلك التاريخ والى يومنا هذا ، فعلينا ان نعى اننا ما زلنا اسرى لأجندة استعمارية استهدفت ضمن ما استهدفت وحدة الشعب السودانى لأحكام السيطرة عليه ، وان ننظر لمجمل الاحداث التى وقعت فى تأريخنا فى هذا السياق .

(ب) رؤية فى المصادر والوثائق المصرية :-

                     وهذا الوجه من المشكلة على صعيد الوثائق المصرية ، يبدو اكثر وضوحا فى الوثائق الخاصة بفترة الحكم التركى التى تعادل فترة الحكم البريطانى ، وتاتى اهميتها من كونها الفترة التى تأسست فيها المصالح المصرية فى السودان ، وبالتالى تعتبر مرتكزا اساسيا لمصر الشريك الثانى فى اتفاقية يناير 1899 المبرمة بينها والحكومة البريطانية والمعروفة بأتفاقية الحكم الثنائى ، لذلك فأن وثائقها لا بد وان تكون حافلة بالكثير ، ولكن ما يثير الدهشة هنا ، اننا وبالرغم من خضوعنا لحكم الاتراك لأكثر من نصف قرن من الزمان ، الا انه من النادر ان نجد بين السودانيين من يجيد اللغة التركية ، لذلك اعتمد الباحثون الذين اهتموا بتأريخ تلك الفترة على ترجمات المتاح منها اذا وجدت ، ونجد هذا الامر جليا عند الدكتور حسن احمد ابراهيم فى ( محمد على باشا فى السودان - دراسة لأهداف الغزو التركى المصرى ) الطبعة الثانية 1991 مطبعة جامعة الخرطوم ، حيث اشار فى تصدير الطبعة الثانية - الطبعة الاولى صدرت فى 1973 وهى عبارة عن رسالة ماجستير اجيزت فى 1965 بعد ان ادخل عليها بعض التعديلات - فقد اشار فى تصديره للطبعة الثانية ص9 ( واود ان اشير هنا بصفة خاصة الى اننى لم اطلع عند اعدادى للطبعة الاولى من هذا الكتاب على نص التقرير الذى صدر باللغة التركية عن الرحلة التى قام بها محمد على باشا للسودان خلال عام 1838\1839 ولا على الترجمة العربية الرسمية لهذا التقرير ولكننى عثرت فى عام 1977 - وبمحض الصدفة فقط - على الترجمة العربية الرسمية لهذا التقرير فى مركز ابحاث مصر المعاصر الذى انشىء مؤخرا فى القاهرة لجمع كل الوثائق والمصادر الرئيسية الاخرى لتاريخ مصر منذ اعلان بريطانيا المنفرد لاستقلال مصر سنة 1922).وبالرغم من ان تصدير الطبعة الاولى ص 7 تضمن شكره لموظفى وموظفات دار الوثائق التاريخية بالقاهرة ، و آخرين وضعوا بين يديه كل ما احتاجه من وثائق ومراجع لرسالته التى اجيزت فى عام 1965 الا ان هذه الواقعة تكشف عن شح المراجع والوثائق المطلوبة لتغطية احداث فترات هامة من تاريخنا وصعوبة الحصول عليها ، فهل ننتظر الصدفة وحدها  للحصول على تلك الوثائق حتى نحدد مواقفنا من اطراف تلك الاحداث ؟ فأذا كان هذا هو الحال مع الوثائق والمستندات الخاصة بفترة الحكم التركى التى تجاوز السودانيون كثيرا من جراحاتها ، فما العمل مع الوثائق والمستندات الخاصة بحركة 1924 ، وتلك المتعلقة بطول فترة الحكم الثنائى ، والتى اشتكى عدد من الباحثين من استحالة الوصول اليها ؟والسؤال الذى يطرح نفسه الان :  ما هو مغزى هذا الاتفاق بين بريطانيا ومصر فى حظر الوثائق الخاصة بأحداث فترات هامة فى تاريخنا ؟ الا يدعو مثل هذا الاتفاق الى وجود شك معقول فى انه شامل لوجهة نظر موحدة تجاه السياسات التى فجرت احداثا كبيرة مثل حركة 1924 ؟ وكما يقول جعفر محمد على بخيت ص8 اذا كانت ( وجهة نظر كل من لندن والقاهرة لا تزال فى عالم الكتمان ) هل يمكننا القول ان ما حدث فى 1924 ، جاء نتيجة لسياسة مرسومة بدقة وعناية من قبل شريكى الحكم فى السودان ، وتتجلى اوجه المؤامرة فيها ساطعة فى اتفاقهما على استمرار سجن على عبد اللطيف حتى الموت ؟ ولكن علينا ان ننتبه هنا ان مصر داخل هذه الاسئلة ، خارجة منها القوى الوطنية التى ظلت تقاوم الوجود البريطانى منذ خواتيم القرن التاسع عشر ، وان كان هذا الفرز لا يعفى هذه القوى من تبعات ادوارها المباشرة وغير المباشرة فى الاحداث التى وقعت بالسودان منذ 1896 .

                    وما يهمنى الآن ان غياب المصادر والوثائق المصرية التى غطت احداث فترات هامة فى تاريخنا ، والتى اشتكى من غيابها عدد من الباحثين ، تلتقى مع غياب المصادر والوثائق البريطانية ، فالمصالح المصرية فى السودان برغم كل ما يربط البلدين من صلات ، لا زالت محل صراع وبالتالى فأن المصادر والوثائق المصرية المتاحة ، لن تسعف السودانيين فى تخطى آثار حركة 1924 ويبقى من الخطل بمكان ان تستمر حركتنا السياسية اسيرة لها . 

(ج) رؤية فى المصادر السودانية :-
                       اما هذا الوجه من المشكلة ، فهو الوجه الاكثر غرابة والاكثر اثارة للدهشة والمخاوف ، فقد توافق موقف بعض السودانيين الذين صنعوا وشاركوا وعايشوا احداثا هامة مثل حركة 1924 ، مع موقف دولتى الحكم الثنائى فى حظر المعلومات الخاصة بتفاصيل احداث هامة فى تاريخنا ، فقد امتد العمر ببعض الذين صنعوا وشاركوا وعايشوا حركة 1924 لأكثر من عقد بعد الاستقلال ، ومع ذلك امسكوا وسكتوا عن تفاصيل كانوا جزءا منها ، وظل غيابها يشكل معضلة لأى باحث يسعى للحصول على اجابات لأسئلة حائرة لا تزال تلوح فى افاقنا ، وهى ذات المعضلة التى واجهت وللغرابة سليمان كشة ، احد اهم مصادر تلك الفترة واحد الذين صنعوا وشاركوا وعايشوا احداثها لحظة بلحظة ، وبالرغم من حضوره الطاغى على احداث تلك الفترة ، و جرأته وشجاعته فى تناول احداثها من زاوية مشاركاته فيها ، الا ان شح المصادر شكل معضلة امامه ، فقد قال فى كتابه (وثبة السودان الاولى - اسرار ووثائق تأريخية) ص3 (التاريخ يحتاج الى مصادر والمصادر العربية التى تناولت تاريخ السودان قليلة ونادرة ويصعب الحصول عليها) وهو يعنى بالمصادر العربية هنا المصادر السودانية ، وما يهمنى الان ان المصدر السودانى لم يعد على غيابه وقلته وندرته وصعوبة الحصول عليه يشكل معضلة امام الباحثين فحسب وانما منتجا قويا للاسئلة الصعبة ، ومن ضمن هذه الاسئلة - اذا استثنينا القلة التى تناولت حركة 1924 من الذين صنعوا وشاركوا وعايشوا احداثها امثال سليمان كشة على قلة كتاباتهم وندرتها وصعوبة الحصول عليها ، فلماذا لم يكتب على عبد اللطيف رؤيته عن الحركة ، وهو المشهود له بكثرة الكتابة ؟ فحسب رواية زوجته العازة التى اوردتها يوشيكو كوريتا ص 72 ( وكثيرا ما كان يظل ساهرا يكتب ) والسؤال الذى يلح بشدة : اين ذهبت كتاباته هذه ؟ فأهميتها تنبع من انها لا بد وان تكون قد غطت الفترة التى سبقت بروزه نجما فى سماء الادب والفن ، والفترة التى شهدت نشاطاته السياسية ، وفترة سجنه  الاولى المنتهية فى ابريل 1923 والثانية التى بدأت فى 4\7\24 19 واستمرت حتى الموت ، فقد كان على اتصال بالعالم الخارجى ، وحسب يوشيكو كوريتا ص 74 ( ونجد فى صحيفة الاخبار المصرية يناير 1923 خطابا قيل انه مرسل من على عبد اللطيف  ٌ الذى كان وقتها فى سجن كوبر بالخرطوم بحرى ٌ حيا فيه الشعب المصرى بمناسبة ذكرى 13 نوفمبر - وشبه مصيره فى السجن بمصير سعد زغلول فى المنفى ) واوردت ص 76 ( ويبدو ان عليا حتى بعد اعتقاله فى بداية يوليو 1924 قد استطاع ان يظل على اتصال بالعالم الخارجى الى حد ما فارسل على سبيل المثال رسالة من سجن كوبر فى بحرى بمناسبة حادث بورتسودان فى اغسطس ) فأذا كانت لديه المقدرة على الكتابة اثناء فترة سجنه وتسريب ما يكتب للخارج ، فمن المفترض انه كتب رؤيته فى حركة 1924 ، وان هذه الرؤية اذا صدقت هذه الفرضية ، لن تخرج من الدائرة المحيطة به والتى استطاعت ان تحمل من قبل رسائله الى القاهرة وبورتسودان ، او ان تكون رؤيته قد وقعت فى ايدى المخابرات البريطانية او المصرية ، فغياب رؤية على عبد الطيف فى احداث الحركة ، تبدو احد اهم منتجى ظلال الغموض التى غطت احداث تلك الفترة ، لأنه كان مركزها فى الجانب المتفجر فى الاحداث ، ولأنه كذلك فلا شك عندى ان طرفى الحكم آنذاك ادركا خطورة وضعه هذا ، فاتفقا على استمرار سجنه حتى الموت . فما هى مخاوفهما المترتبة على اطلاق سراحه عند انقضاء مدة حكمه والتى حالت دون اطلاق سراحه ؟ هل كان الخوف ناتجا من احتمال تجدد انشطته السياسية المعارضة ؟ واذا كان كذلك فما هى مصلحة الشريك المصرى فى الحد من حرية نشاط وسم بأنه يعبر عن مصالحه فى السودان ؟ ولماذا يدخل الشريك المصرى فى اتفاق مع الادارة البريطانية يقضى باستمرار سجنه حتى الموت ، والمصريون يعلمون ان الادارة البريطانية بالسودان ، كانت قادرة ان تتخذ من الاجراءات ماهو كفيل بالحد من حريته حتى داخل احدى غرف منزله ؟ من هنا يبدو لى ان الخوف من اطلاق سراح على عبد اللطيف ، كان ناتجا من امر آخر ، يحظى بأهتمام بالغ لدى طرفى الحكم ، وذا صلة وثيقة بعلى عبد اللطيف ، ويبدو لى ان هذا الامر كان من الخطورة بمكان ان دفع كلا طرفى الحكم ان يحرصا غاية الحرص على الا يتناوله على عبد اللطيف بالحديث آنذاك ، او فى اى وقت لاحق ، ونظرا لصعوبة تحقيق هذا الهدف ، اتفقا على حرقه كمصدر وهو ما يزال تحت قبضتهما بوسيلة مخزية ، وهى اشاعة اصابته بالجنون ، حتى اذا تناول ذلك الامر بالحديث لا يعدو حديثه ان يكون سوى هذيان مجنون ، وقد نجحا فى حرقه كمصدر حرقا تاما بحيث لم يبق منه سوى ما يرويه الآخرون عنه ، واكثر ما يثير الدهشة هنا ، ان يمتد ذلك الحريق الى مقاله التاريخى الذى اثار جدلا كبيرا آنذاك ، فقد اوردت يوشيكو كوريتا ص 40 الهامش 34 ان النص الاصلى لمقاله التاربخى ٌمطالب الامةٌ لم يعد موجودا .

                      ان غياب رؤية على عبد اللطيف فى احداث حركة 1924 هى فى واقع الامر غياب للاجندة الحقيقية التى لعبت دورا كبيرا فى الاحداث ، وبالتالى يصبح من الصعوبة بمكان الوصول الى قناعات نهائية فى ان وحدة وادى النيل كانت هدفا رئيسا لكل للمنتفضين آنذاك ، فجعفر محمد على بخيت اورد ص81 ( ان اتحاد وادى النيل بأسره ليس - على الاكثر - غير وسيلة مؤقتة للتخلص من البريطانيين وذلك قبل قلب ظهر المجن للمصريين ) عليه يصبح من الخطل بمكان ان يبنى بعض السودانيين على نتائج تلك الحركة مواقفهم السياسية من بعضهم البعض ، ومن شخصيات حمّلت تبعات ليست من صنعها ، فثمة اجندات متصادمة كانت تجرى تحت مظلتها ، اهمها الاجندة الاستعمارية التى ارادت ان ينقسم المجتمع السودانى ليكون اكثر اتساقا مع نظام الحكم القائم آنذاك ، وهو الحكم الثنائى . اذ بدت نتائج الحركة فى احد وجوهها تعبيرا لهذه القسمة . وما يدعو للغرابة انه بالرغم من جلاء المصريين فى اعقاب فشل الحركة ، الا ان اتفاقية الحكم الثنائى ظلت سارية بينهما كما هى ، وعادا بعد معاهدة 1936 يديران شئون السودان وفقا لها.

                   ولعل اسطع مثال لغياب المصدر السودانى ، هو غياب رؤية على احمد صالح (ود حاجى) ، المحسى حسب رواية محجوب عمر باشرى فى رواد الفكر السودانى ، وتأتى اهمية هذا المصدر ، لأنه كان نجم الجانب (المظلم) فى الاحداث ، ولأن السمة الغالبة فى الكتابات التى تناولته ، ركزت على موقفه الخاص بافشاء اسرار جمعية اللواء الابيض للادارة البريطانية التى اعتبرته مع آخرين (شاهد ملك) فى المحاكمات التى جرت عقب فش الحركة ، فمن هو على احمد صالح ؟

                     يقول جعفر محمد على بخيت ص 56( واستطاعت الجمعية - يعنى اللواء الابيض - عن طريق على احمد صالح بوصفه منظما نقابيا بارعا ان تحظى بتأييد عمال فنيين وحائكين ونجارين وصناع احذية . ولعب اولئك بالتضامن مع المدرسين والموظفين الذين استغنت الحكومة عن خدماتهم دورا قياديا فى المظاهرات .)

                     ونشرت جريدة الصحافى الدولى العدد 256 السنة الاولى السبت 15\4\2000 نقلا عن السياسة الدولية عدد ابريل سنة 2000 ان الافكار الشيوعية تسربت الى السودان عبر روافد اربعة جاء فى رابعها ما يلى :- 

                      (عن طريق على احمد صالح عضو جمعية اللواء الابيض الذى كان متصلا بالاحذاب الشيوعية الاوروبية ثم هرب الى المانيا بعد الهزيمة التى لحقت بالثوار السودانيين حيث اصبح عضوا فى الحذب الشيوعى الالمانى ببرلين وكانت افكاره تتسلل الى السودان من خلال كتاباته الى اصدقائه فى الوطن .)

                      واورد احمد ابراهيم دياب ص17 ما يلى :-

                       (اما تسمية الجمعية -يعنى اللواء الابيض- وتكوينها لم اجد له غير ثلاثة مصادر هى اقوال على احمد صالح ٌودحاجىٌ للمخابرات ومذكرات صالح عبد القادر فى جريدة الصحافة عدد 24\10\67 واوراق المخابرات السودانية التى هى عبارة عن اعترافات الذين انقلبوا شهود ملك ضد الجمعية وقدموا عرائض التماس طالبين العفو والافراج ) واقوال على احمد صالح هذه حسب احمد ابراهيم دياب ص 15 افادت بأن نشاطه السياسى مع على عبد اللطيف وآخرين بدأ فى 23\10\1923 فى جمعية اسمها (الشبيبة السودانية) وهذا الامر يلفت الانتباه الى ان على عبد اللطيف كان عضوا بهذه الجمعية عندما وقع التلغراف المعنون للحاكم العام فى 16 مايو 1924 مع المجموعة التى اتفق الباحثون على انها المؤسسة لجمعية اللواء الابيض ، وما يهمنى فى اقوال على احمد صالح ، انه كان احد مؤسسى جمعية الشبيبة السودانية السابقة فى تكوينها لجمعية اللواء الابيض ، وان انجازه فيها والذى انتقل به مع على عبد اللطيف الى جمعية اللواء الابيض ، كان قد تم وفقا لما يحمله من مبادىء وافكار وهو الانجاز الذى اشار اليه جعفر محمد على بخيت ص 56 ، اما المبادىء والافكار فهى التى اوضحتها جريدة الصحافى الدولى عدد 15\4\2000 فما الذى دفعه الى افشاء اسرار جمعية اللواء الابيض ليقضى عليها نهائيا؟

                 تقول يوشيكو كوريتا ص35 ( غنى عن القول ان اتحاد عام نقابات وادى النيل الذى تشكل فى مصر فى مارس 1924 بقيادة الوفدى عبد الرحمن فهمى كانت نتاجا لثورة 1919 وانه كان ثوريا بمعنى انه يرمز الى انجاز تحرك الحركة العمالية فى مصر الى ايدى مصريين اى (التمصير) بعد ان كانت تسودها العناصر الاجنبية فيما مضى ولكنها فى ذات الوقت منظمة ظهرت للوجود بهدف مواجهة تهديدات الشيوعيين ٌ كما يتجلى من حقيقة انه تشكل بعد فترة وجيزة من القمع الفظ للحركة الشيوعية فى الاسكندرية فى ربيع 1924 ٌ انها منظمة لمصالحة الرأسماليين والعمال وقد هاجم عبد الرحمن فهمى الشيوعية مرارا بأعتبارها ٌعقيدة الحرب والتخريب ٌ وشدد على اهمية النضال القانونى ، وخلاف وظيفة الاتحاد العام كوسيط بين الراسماليين والعمال كانت له وظيفتان خاصتان الاولى ان يكون حلقة وصل بين حكومة مصر الوفدية وحكومة بريطانيا العمالية والثانية ان يكون حلقة وصل بين مصر والسودان . وكان من المامول ان يقوى الاتحاد العام من خلال هاتين الوظيفتين موقف سعد زغلول فى تعاملاته مع ماكدونالد ) وتمضى قائلة ( كما نشط عبد الرحمن فهمى ايضا فى قضية الاتحاد مع السودان ومع ذلك كان حريصا الا تضر هذه الانشطة الحكومة الوفدية فى مفاوضاتها مع بريطانيا ، ولهذا السبب حثّ اعضاء الاتحاد العام على عدم الاشتراك فى مظاهرة كانوا يخططون لها للتعبير عن تعاطفهم مع الحركة - تقصد حركة اللواء الابيض- فى عطبرة فى اغسطس 1924 وقال ٌهناك خطر ان تتسلل بعض العناصر الشريرة فى صفوف العمال وتحدث اضطرابات قد تقود الى نتائج غير مرغوبة ٌ وبأيجاز فقد قيد العمال المصريون الذين انتظموا تحت راية الاتحاد العام بذات مفهوم ٌالقانونية والسلمية ٌ الذى قيّد اعضاء جمعية اللواء الابيض .ويبدو واضحا ان عبد الرحمن فهمى لم يكن يعنى بالانشطة غير القانونية وغير السلمية سوى انشطة الشيوعيين ولقد كانت جمعية اللواء الابيض مرتبطة بالاتحاد العام هذا ارتباطا وثيقا عبر منظمتها الفرعية  ٌجمعية العمال ٌ ) .

                    قول يوشيكو كوريتا اعلاه ، يكشف بوضوح غموض موقف على احمد صالح المتعلق بأفشائه اسرار جمعية اللواء الابيض ، فسيرة نشاطه والى ما قبل افشائه لأسرار الجمعية ، لا تعكس سوى صورة مناضل جسور ضد الاستعمار ، فقد كان ملتزما بكل مبادىء وتوجيهات الجمعية التى كانت تلزم اعضاءها من قادة المظاهرات الثبات فى وجه ٌالبوليسٌ ، وعدم الهروب عند محاولة القبض عليهم ( راجع احمد ابراهيم دياب ص 14 ) فعلى احمد صالح كان احد قادة مظاهرة 23 يونيو 1924 والتى نظمتها جمعية اللواء الابيض تحديا لقرار مدير مديرية الخرطوم الذى قضى بحظر المطاهرات ، وكان من الطبيعى ان يكون قادة هذه المظاهرة التى حملت طابع التحدى ، من اكثر العناصر صلابة وثباتا فى وجه البوليس ، وعلى احمد صالح الذى كان احد قادة هذه المظاهرة ، اعتقل فى اوجها مع آخرين ، وظل ممسكا عن الافادة بأى اقوال من شأنها ان تضر بأعضاء الجمعية او بحركتها المنتفضة ، طيلة الفترة من تاريخ اعتقاله فى 23\6\1924 وحتى تاريخ 28\8\1924 التاريخ الذى ادلى فيه بأعترافه لمستر بيلى مدير مديرية الخرطوم ( راجع احمد ابراهيم دياب ص 14) والملاحظة اللافتة للنظر ، ان الاعتراف تمّ بعد اعتقال عبيد حاج الامين فى 30\7\1924 وتقريبا بعد اعتقال معظم قادة جمعية اللواء الابيض ، فما الذى دفعه لأختيار تاريخ 28\8\1924 ليدلى بأعترافه فيه ، وكان فى مقدوره ان يفعل ذلك منذ اعتقاله فى 23\6\1924 ؟

                 فى تقديرى ان الفترة من تاريخ اعتقال عبيد حاج الامين فى 30\7\1924 وحتى تاريخ اعترافه فى  28\8\1924 قد شكلت فى داخله قناعة اثّرت بشكل كبير فى جدوى انتمائه للجمعية ، و هذه الفترة تبدو الفترة الاكثر اظلاما فى تاريخ اللواء الابيض ، فقد سكتت المصادر عن ذكر حتى ولو اشارة عابرة عن لمحة من حياة المعتقلين داخل السجن ، اما اعتراف على احمد صالح يبدو لى انه جاء نتيجة لحوار ساخن ، دار حول مآلات الجمعية خاصة بعد اعتقال عبيد حاج الامين ، فالاعتراف لا يبدو دافعه الخيانة او طمعا فى خلاصه من السجن ، كما انه لم يجىء نتيجة لقهر التحقيقات التى كانت جارية آنذاك ( راجع مذكرات صالح عبد القادر بجريدة الصحافة عدد 24\10\1967 ففيها صورة بشعة عن اساليب التحقيق التى اتبعتها المخابرات البريطانية ) فأعترافه اختار له مدير مديرية الخرطوم مما يعنى انه جاء بأرادة حرة وانه ينطوى على معلومات على مستوى عال تتطلب مسئولا على ذات المستوى ، وانه هدف فعلا لنسف جمعية اللواء الابيض ، قلماذا؟ يتضمن تناول يوشيكو كوريتا لعلاقة اتحاد عام  نقابات وادى النيل مع جمعية اللواء الابيض قدرا كبيرا من الاجابة على هذا السؤال ، فقد اتضح له ان نشاط الجمعية كان يجرى وفقا لأرادة تصادمت اهدافها مع اهدافه ومن يمثلهم داخلها ، وهو امر بات جليا بعد ان ارتبطت اللواء الابيض ارتباطا وثيقا باتحاد عام نقابات وادى النيل الذى وضحت اهدافه الحقيقية خلال الانتفاضة ، اذ لا يستقيم عقلا ان يتفق على احمد صالح بما ورد عنه مع قيادة واهداف هذا الاتحاد ، او يستمر التزامه مع جمعية اللواء الابيض التى خضعت له وامتثلت لتوجيهاته التى اضرت بحركتهم المنتفضة آنذاك ، والتى برزت فيها انجازاته جلية فى العناصر التى قادت وشكلت المظاهرات التى عمت الشارع فى ذلك الوقت ، فقد اوردت يوشيكو كوريتا ص78 ( ان اكثر الشعارات انتشارا بين المتظاهرين عام 1924 هى ٌ يعيش الملك فؤاد ملك مصر والسودان ٌ و ٌ يعيش سعد زغلول ٌ وغيرها ولكن هنالك دليل يشير الى انه الى جانب تلك الشعارات كان هنالك شعارات مثل ٌ يعيش على عبد اللطيف ٌ و ٌ يعيش السودان الحر ٌ ) الا تشى هذه الشعارات التى نادت بحياة السودان الحر وحياة على عبد اللطيف فى زحمة شعارات الملك فؤاد وسعد زغلول ، بأنها شعارات صادرة من ثقافة نشأت بعيدا عن الافكار التى نادت بوحدة وادى النيل ، وان لها علاقة قوية بجمعية الشبيبة السودانية التى كان من ضمن مؤسسيها على احمد صالح ؟ قثمة صلة بين هذه الشعارات وعناصر المظاهرات الشعبية التى اندلعت فى امدرمان و الخرطوم ، حيث كان الهتاف باسم على عبد اللطيف جنبا الى جنب مع اسم سعد زغلول وكانت كما اوردت يوشيكو ص78 (ظاهرة برزت لا فى مظاهرة 23يونيو وهى مظاهرة تمت بموافقة رسمية من جمعية اللواء الابيض ولا مظاهرة طلبة المدرسة الحربية المفترض ان لها صلة بالجيش المصرى فحسب ولكن فى المظاهرات الشعبية التى اندلعت فى امدرمان والخرطوم ايضا وقادها من الناس النجارين ومن ناس خياطين خصوصا شابين حسب تعبير ٌالعازةٌ بعد 23\يونيو1924 اى بعد ما قررت جمعية اللواء الابيض الابتعاد عن تنظيم المظاهرات كان اسم على يتردد باستمرار )الا تشير عناصر هذه المظاهرات التى اندلعت بعد قرار اللواء الابيض الابتعاد عن تنظيم المظاهرات الى انها ذات العناصر التى اشار اليها جعفر محمد على بخيت ص 56 بأن على احمد صالح بوصفه منظما نقابيا بارعا قام بضمها لجمعية اللواء الابيض ؟ وعلى ذلك هل يمكن ان تكون هذه المظاهرات التى قيل انها اندلعت عفويا فى امدرمان والخرطوم هى فى واقع الامر مظاهرات خطط لها وقام بتنظيمها اعضاء سابقون فى جمعية الشبيبة السودانية التى كان من ضمن مؤسسيها على عبد اللطيف وعلى احمد صالح ، وتجمعهم داخل جمعية اللواء الابيض فرعية العمال؟ وان خروج هذه المظاهرات ظاهرة تشير الى انقسام حدث فى جمعية اللواء الابيض ، خاصة بعد قرار ابتعادها عن تنظيم المظاهرات بعد 23يونيو 1924 اى بعد اعتقال على احمد صالح وان هذا الانقسام هو الذى قاد لأفشاء اسرار جمعية اللواء الابيض للادارة البريطانية ؟ تبدو فرضية اقرب الى الحقيقة خاصة وان فرعية العمال التى نهضت بالمظاهرات اذا لم تكن جسما شيوعيا خالصا ، فأن تاسيسها تم على يد شيوعى بارع فى التنظيم النقابى ، وان استمرارها فى التظاهر بعد قرار اللواء الابيض الابتعاد عن تنظيم المظاهرات ، وانسحاب بقية اطرافه من الشارع ، ادى الى بروز فرعية العمال جسما مكشوفا سهّل على السلطات مهمة ضربها ، فهل ثمة علاقة هنا بين سيناريو قمع هذه الحركة  مع سيناريو قمع الحركة الشيوعية فى الاسكندرية فى ربيع ذات العام ؟

                   ان غياب رؤية على احمد صالح فى احداث حركة 1924 لا تقل اهمية عن رؤية على عبد اللطيف ، وان غيابها لا يختلف كثيرا عن غياب رؤية على عبد اللطيف ، فكلا الرجلين كانا على اتصال مع بعض رفاقهما القدامى ، فأذا وجدنا لعلى عبد اللطيف المبرر نظرا لحالة الحصار التى فرضت عليه حتى الموت ، فما الذى منع على احمد صالح من طرح رؤيته لأحداث هذه الحركة ؟ هل هنالك ثمة مصالح قائمة ذات ارتباط وثيق بحركة 1924 اقتضت الضرورة السكوت عليها ؟ لا شك عندى فى ذلك فالصراع ما زال قائما منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا .

                   على اى حال فأن اسباب غياب المصادر السودانية تلتقى مع اسباب غياب المصادر البريطانية والمصرية ، والمتاح منها لم يستطع مساعدة السودانيين فى  تخطى ما افرزته حركة 1924 فضلا عما ظلت تنتجه من اسئلة حائرة لا زالت تلوح فى آفاقنا فهل بعد هذا يدانى المرء اى شك فى اننا ما زلنا اسرى لتلك الحركة التى احكمت حلقاتها بمكر ودهاء .

المحور الثانى

رؤية فى واقعة مقدمة كتاب نسمات الربيع :-

                    تتلخص هذه الواقعة فى ان المناسبات الدينية كانت  الفرصة الوحيدة التى تتيح للقوى الوطنية التجمع وطرح آرائها من خلال ما يقدمه شعراؤها من قصائد وقادتها من خطب ، وفى منتصف نوفمبر عام 1923 اتخذت جمعية الاتحاد السودانى السرية من الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف مشروعا لها يرمى الى توثيق انشطته الشعرية ، فقامت بجمع القصائد التى القيت فى ليالى المولد وقررت اصدارها فى كتاب ، كلف به سليمان كشة الذى كتب مقدمته واشار فيها للشعب السودانى ، بالشعب العربى الكريم مما اثار احتجاج على عبد اللطيف الذى كان رأيه ان سليمان كشة كان يجب ان يكتب شعب سودانى كريم حيث لا يجب ان يكون ثمة فرق بين العرب والجنوبيين راجع سليمان كشة فى (سوق الذكريات من ص 127 الى ص 130 ) .

                  ولقد اثار اعجابى بشدة وعى سليمان كشة الراصد وانتباهته الذكية بضرورة تسجيل واقعة احتجاج على عبد اللطيف ضمن تسجيله لوقائع هذا المشروع منذ ان كان فكرة والى ان صدر فى كتاب تحت عنوان (نسمات الربيع) ، لأنها فى حقيقتها تؤرخ لموقف جديد يبدو مفارقا للموقف القومى المعلن الذى اتخذه على عبد اللطيف فى مقاله التأريخى "مطالب الامة" ، الامة السودانية يتعددها وتنوعها والتى تناغمت اشواقها وامانيها فى التحرر مع ذاك المقال . فما الذى دفعه الى اعادة النظر فى تركيبة هذه الامة التى كان يعبر عنها كأحد مكوناتها فى عام 1922 ودفع فى سبيل ذلك نهاية خدمته العسكرية فى الحكومة وعاما من عمره فى السجن ؟ ولماذا قام بعد خروجه من السجن بتصعيد قضية جديدة فى سماء الوطن بزجه بالعامل العرقى فى الصراع الدائر فى مواجهة الوجود الاستعمارى؟ ما الذى دفع تفكيره لتصعيد هذه القضية ؟

                  وما يهمنى هنا السؤال التالى : هل شكلت هذه القضية عائقا وطنيا اساسيا امام مواجهة الوجود الاستعمارى ام ان على عبد اللطيف اتخذها زريعة لأنفاذ مشروع جديد؟ لأنها اذا كانت تشكل لديه عائقا وطنيا اساسيا امام مواجهة الوجود الاستعمارى ، فأنه بتصعيدها يكون قد ادخل فى مجرى الصراع الدائر فى مواجهة الوجود الاستعمارى صراعا جديدا ، هو صراع سودانى سودانى ، اذ تبدو هذه القضية فى احد مظاهرها تعبيرا مبكرا لرؤى متصادمة حول الهوية ، وبالتالى فأنها ستقود بناء على هذا التصادم الى بسط ارادة الفصل والتقسيم ، ونظرا لأن معطيات نشاطه المعلنة لم تكن تشير الى جنوحه لبسط ارادة الفصل والتقسيم ، فلماذا صعّد هذه القضية فى الوقت الذى كان فيه الصراع فى مواجهة الاستعمار يحتاج الى استدعاء كل مكونات الشعب السودانى للأسهام فيه ؟ لا تبتعد الاجابة على هذا السؤال كثيرا  عن تداعيات الصراع المصرى البريطانى حول ؟المسألة السودانية" ، فموقف على عبد اللطيف من تقديم سليمان كشة للشعب السودانى بالشعب العربى الكريم فى احد وجوهه شكل الارهاصات الاولى لنشوء معسكر وحدة وادى النيل ، ويبدو ان موقفه الجديد كان محسوبا بدقة متناهية ، فقد وضع مختلف القوى الناشطة آنذاك امام خيارين احلاهما مر ، فاما ان تقبل بمبدا الفصل والتقسيم على اساس عرقى وما يترتب على ذلك من اضرار بالغة على جسم الوطن ، واما التخلى عن اهم عامل كانوا يستندون عليه فى مقاومتهم للوجود الاستعمارى وهو استدعاء العربى بكل ما يمثله من قوة وتأثير  . فالبريطانيون درجوا على تصنيف السكان فى السودان الى بريطانيين ومصريين وعرب ، وهو تصنيف رسمى له مدلولاته ومغازيه المؤثرة على سير المفاوضات الدائرة حول ( المسألة السودانية) بين مصر وبريطانيا ، بمثلما له من مدلولات ومغازى مؤثرة على وحدة الشعب السودانى ، وتصعيد مسألة الهوية العربية فى السودان فى ذاك الوقت ، يبدو فى احد وجوهه خدمة للموقف المصرى فى مفاوضاته مع بريطانيا اكثر منه قضية وطنية تهم مكونات الشعب السودانى ، ومع ذلك هل قصد سليمان كشة بنصفه البيجاوى ونصفه العربى حين قدم الشعب السودانى بالشعب العربى الكريم شكلا من اشكال التعالى العرقى والاقصائى للآخر السودانى ام قصد استدعاء قوة واسعة تشكل وجدانها بالثقافة العربية الاسلامية لتسهم فى الصراع الدائر فى مواجهة الاستعمار ؟ المؤكد ان هذه القوة امتدت على مساحة الجزء الشمالى من البلاد وشملت محيط الممالك الزنجية الاسلامية السابقة ، مثل الفونج على النيل الازرق وتقلى فى جبال النوبة بجنوب كردفان والفور بدارفور اقصى الغرب ، فقد اصبح هذا الجزء من البلاد نتيجة لهذا التشكل على درجة كبيرة من التجانس الثقافى والاجتماعى والوجدانى راجع( يوسف حسن فضل فى "العرب وافريقيا" مجلد ضم بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع منتدى الفكر العربى - الطبعة الاولى يناير 1984 ص 37) عليه فأن استدعاء العربى عند سليمان كشة ، هو فى حقيقة الامر استدعاء لهذه القوة المنتشرة على مساحات هذه الاجزاء من البلاد لمواجهة الوجود الاستعمارى واجندته ، اما الذين بنوا على هذه الواقعة موقفا متعجلا على انها تمثل احد اشكال الاستعلاء العرقى المتوهمة لديهم ، فقد اتخذوا بلا وعى موقفا اقصائيا من الآخر العرقى ، وهو رفض العربى السودانى . فبجانب هذه الاسباب التى دفعت سليمان كشة لأستدعاء العربى كقوة دافعة وذات تأثير قوى على مجرى الصراع فأن التجربة التأريخية الطويلة لتقدم الثقافة العربية الاسلامية فى هذا الجزء من البلاد ، لم يخرج من تاثيرها لا فى وجهها الثقافى او الدينى او اللغوى حتى على عبد اللطيف نفسه ، فهو يتمتع بثقافة عربية اسلامية رفيعة ، مكنته من الاسهام فى الحركة السياسية والادبية التى كانت جارية آنذاك حتى صعد فى سمائها نجما بارزا . وقد فهمت القوى  الناشطة آنذاك مغزى استدعاء العربى ، وظل هذا الفهم مستمرا فى تشكيلاتها الحذبية التى نشأت لاحقا من اقصى اليمين الى اقصى اليسار ، فعبد الخالق محجوب سكرتير الحذب الشيوعى السودانى قال فى معرض حديثه عن مثقفى الطبقة الوسطى عقب فشل حركة 1919\1924 كما يسميها ( اما النشاط العام للمثقفين فقد انحصر فى اندية الخريجين وخاصة فى الجمعيات الادبية والحفلات الاجتماعية . كان النشاط الادبى فى ذلك يتجه نحو التمسك بالتراث العربى وهو بذلك كان يمثل عملا لمقاومة الاتجاه الاستعمارى لهدم اللغة العربية وآدابها فى السودان ) اى هدم ما انتجته من قوة واسعة . راجع عبد الخالق محجوب فى (لمحات من تاريخ الحذب الشيوعى) الطبعة الثانية 1987 ص 23 . وعلى الذين حمّلوا هذه الواقعة اكثر مما تحتمل الرجوع لنص المقدمة فى (مرآة السودان) العدد الخامس يوليو 1957 صفحتى 11 و 12 فسيجدون فى الاهداء ما يدحض كل المزاعم المغرضة وليشكروا سليمان كشة الذى قام بتسجيل هذه الواقعة التى لولاه لما وجد المتحسسون من العرق زريعة لتصعيد مثل هذه القضايا .

المحور الثالث :

رؤية فى مسألة انقسام جمعية الاتحاد السودانى السرية:-

         لابد قبل الحديث عن مسألة الانقسام ، العودة الى بدايات النشأة . يقول جعفر محمد على بخيث ص 48 (ولكن مهما يكن من امر فأن البريطانيين بالخرطوم كانوا يعتقدون- صوابا او خطأ - بأن الحركة الوطنية السودانية قد نظمت فعلا او اوحى بها الوطنيون المصريون الذين حصلوا بعد حوادث 1919 على الاستقلال من بريطانيا رسميا فى 1922 . ذلك لأن الرأى العام السودانى كان حتى آخر عام 1920 وفقا لما ورد فى تقرير لمكتب المخابرات بالخرطوم "منطويا على القلق خشية ان تنجح مصر فى اضعاف مركز الحكم البريطانى فى البلاد على اى وجه ) وما يهمنى هنا انه فى ظل مناخ القلق هذا ، نشأت جمعية الاتحاد السودانى السرية التى اجمع الباحثون على انها تأسست فى حدود 1920 كأول تنظيم سياسى حديث بالسودان ، جاء نتيجة لتداعيات الصراع الدائر حول "المسألة السودانية" بين بريطانيا ومصر والتى دائما ما تتوقف مفاوضاتهما عندها ، وفى ذلك الوقت كانت القوى الغالبة بين السودانيين والممثلة فى القيادات الدينية والقبلية ، كانت قد اطمأنت لخيارها المعلن والقاضى بان يكون السودان تحت الوصاية البريطانية الى امد يحدد بعده استقلاله ، ولما فشلت فى الحصول قرار رسمى بذلك رغم انحياز الادارة البريطانية بالخرطوم الى حد كبير الى جنبها ، ازدادت مخاوفها بان يصير السودان جزءا من مصر . ثم جاءت السياسات التى اتخذتها الحكومة البريطانية فى اعقاب ثورة 1919 بدءا من توصيات لجنة ملنر وانتهاءا بتصريح 28فبراير 1922 الذى انهت فيه الحكومة البريطانية انتدابها على مصر بقرار منفرد عندما تعثرت مفاوضاتهما على اعتاب "المسألة السودانية" التى لم يشارك اى طرف سودانى برايه فيها ، فقد اعادت هذه السياسات الاوضاع فى السودان الى مربعها الاول ، لتتلقى القيادات الدينية والقبلية ضربة قوية هددت آمالها فى تحقيق وطن مستقل ، وكان من الممكن نتيجة لذلك ان تصير هذه القيادات فصيلا رئيسا فى حركة 1924 لولا انتباهة الحكومة البريطانية للاضرار التى سببتها سياساتها تلك على صعيد السودان ، فاسرعت بأرسال اللورد (اللنبى) المندوب السامى البريطانى فى مصر الى السودان فى ذات العام لمعالجتها . ومهما كان من امر النجاح الذى حققه اللورد "اللنبى" على صعيد هذه القيادات ، الا ان تلك السياسات التى اتخذتها الحكومة البريطانية بدءا من لجنة ملنر وانتهاءا بتصريح 28 فبراير 1922 ادت الى بروز قوى حديثة جديدة فى السودان ، وايا كانت اسباب ودوافع نشأتها فقد تأثرت جميعها برياح ثورة 1919 المصرية ، وبنضالات القوى الوطنية المصرية التى كللت نجاحاتها بالحصول على استقلالها الاسمى من بريطانيا ، لذلك استفزت زيارة اللورد اللنبى مشاعر القوى الحديثة بالسودان ، ورأت فيها استغفالا لعقول السودانيين ، الا ان هذه المشاعر المستفزة وجهت سهامها الى القيادات الدينية والقبلية وغيرها ، فالشاعر توفيق صالح جبريل احد مؤسسى جمعية الاتحاد السودانى السرية قال فيها شعرا لاذعا(ضمن جعفر محمد على بخيت ص 52 ) جاء فيه:-

                           ويح قلبى ماذا يروم اللنبى        يوم وافى يجر سيفا ثقيلا
                           جمع الجمع ارهب القوم           حتى صار السيد النبيل ذليلا

وبدا واضحا ان القوى الحديثة اصبحت لديها حاجة ماسة لتعلن رؤاها ومشاريعها تجاه قضايا الوطن ، او على وجه التحديد تجاه "المسألة السودانية" ، فقد شهدت الفترة من 1922 وحتى ديسمبر 1923 انشطة وحركات معارضة مختلفة . وفى هذه الفترة كانت جمعية الاتحاد السودانى السرية قد بلغت ذروة نجاحاتها بأستكمال هياكلها التنظيمية على معظم مدن السودان ( راجع سليمان كشة فى وثبة السودان الاولى ص 40) ولما كانت هذه الجمعية تعتبر التنظيم السياسى الاول فى السودان بحكم تأسيسها فى 1920 وبدت فى تقديرى الاولى والاجدر بطرح رؤاها حول "المسألة السودانية" خاصة وانها بعد ان استكملت بنياتها السياسية على معظم مدن السودان لم يبق لها سوى الانتقال الى مرحلة جديدة وان تخرج بالطبع للعلن و الاعلان عن نفسها وطرح رؤاها لقضايا السودان ، وهنا اجمع معظم الباحثين ان الانقسام فى جمعية الاتحاد السودانى السرية جاء نتيجة لأختلاف فى وجهات النظر حول سرية وعلنية نشاطها وتزامن ذلك مع حدثين هامين ، الاول هو اطلاق سراح على عبد اللطيف وخروجه نجما ساطعا فى سماء الحركة السياسية بالبلاد وفى سماء مصر ، والثانى هو زيارة حافظ بك رمضان رئيس الحذب الوطنى المصرى الى السودان فى ديسمبر 1923 .

                         فجعفر محمد على بخيت يقول ص 51 ( فقد رغب الجناح المتطرف فى ان يكون العمل علانية والدخول مع الادارة البريطانية فى معركة سياسية ضاربة لكسب التأييد الشعبى فى حين ان الجناح الآخر الاكثر تحفظا واعتدالا فضل الاستمرار فى العمل السرى واكتساب مزيد من التاييد نتيجة تقديم خدمات اجتماعية وادبية ومسرحية ، وكان اكثر ما احتاج اليه الجناح المتطرف بروز بطل محبوب مستعذب للأستشهاد على ايدى البريطانيين ان دعا الامر لذلك وتجسّد ذلك البطل فى شخص الملازم ثان على عبد اللطيف وهو من اصل دينكاوى) ومضى ص 23 قائلا ( ولما اضحى مجرد الحديث لا مساغ له او جدوى منه اتصل عبيد حاج الامين ببعض اعضاء جمعية الاتحاد لكى يؤسسوا عام 1923 جمعية اللواء الابيض التى امّلت ان تقوم فى السودان بما قامت به ثورة 1919 بمصركوسيلة لرد الحقوق المغتصبة من انجلترا) وفى معرض حديثه عن جمعية اللواء الابيض يقول ص 57\58 ( ولعل مما لا ريب فيه ان الجمعية كانت من ناحية التكتيك السياسى والثقافة والايديولوجية وثيقة الصلة بمصر ولكن ان كان رأى "ولس" صحيحا فى هذا الشأن فقد تناسى اهمية العوامل الانسانية الفطرية - ذلك ان جمعية الاتحاد السودانى التى تأسست قبل ثلاثة سنوات من جمعية اللواء الابيض كانت قد ارست معالم الاثارة الوطنية الطبيعية بل ان كثيرا من الاعضاء العاملين فى جمعية اللواء الابيض كانوا قد انتسبوا من فبل لجمعية الاتحاد بل كانوا اكثر الاعضاء نشاطا فيها ولذلك يبدو من الاوفق والاسلم ان نفسر حركة اللواء الابيض بأنها حركة سودانية لحما ودما وانها كانت تعمل لخدمة المصالح السودانية بالتعاون مع الوطنيين المصريين بأكثر من انها واجهة للقاهرة ) و"ولس" هو مدير مخابرات الادارة البريطانية بالسودان ورأيه كان ان الجمعية نشأت لما زار حافظ بك رمضان فى ديسمبر 1923 وشجع على عبد اللطيف وتوفيق وهبى المصرى الجنسية على تكوين هيئة تبدو من جميع الوجوه سودانية تماما رغم خضوعها لأشراف المصريين من وراء ستار( راجع نفس المصدر ص 58).

                        اما احمد ابراهيم دياب فيقول ص 14 ( فى اوائل 1923 بدا بعض اعضاء جمعية الاتحاد السودانى السرية وعلى رأسهم عبيد حاج الامين يضغطون داخل الجمعية من اجل التغيير فى التكتيك والتنظيم السياسى . فقد رأوا ان الطرق السلمية والدعاية بواسطة المنشورات والنشاط الاجتماعى و الادبى يجب ان يتحول الى وسائل اكثر فعالية. فالمواجهة المفتوحة للنظام الاستعمارى والمتعاونين معه من اعضاء الهيئة السياسية السودانية وغيرهم من السودانيين احسن وسيلة لتوسيع القاعدة الجماهيرية للجمعية و لتخلق لها تأييدا جماهيريا وارضا لآرائها ومبادئها وفكرها السياسى . لقد ايدت الاغلبية التى تتكون من العناصر المحافظة فى الجمعية استمرار الاستراتيجية القديمة التى سارت عليها الجمعية وذلك لأنهم رأوا ان البلاد لم تنضج بعد لتستوعب نشاطا مفتوحا ومعركة سياسية مع الانجليز. وان خطوة كهذه ستؤدى الى رمى الحركة فى الوحل . ارتبط هذا الاختلاف فى الراى وسط زعماء الجمعية بفك اعتقال سجين سياسى كانت خبرته وارائه السياسية قد ساعدت الى حد كبير اصحاب الافكار الثورية فى الاشتراك معه ليكونوا جمعية اللواء الابيض . وهذا السجين كان على عبد اللطيف ) وفى معرض حديثه عن اعتقاد "ولس" مدير مخابرات الادارة البريطانية وغيره من السودانيين الذين وقفوا ضد دعوة وحدة وادى النيل بأن اللواء الابيص نشأت نتيجة لزيارة حافظ بك رمضان رئيس الحذب الوطنى المصرى ، يقول عن هذه الزيارة ص 15 ( ارى انها فى حد ذاتها لغز . اذ كيف سمحت له الحكومة بدخول السودان وقد صرح قبلها فى نوفمبر "سير لى استاك" بأن الدعاية المصرية فى السودان سببها الزعماء المصريين ، كما ان الحكومة نفسها قد منعت من قبل حضور وفد محامين للدفاع عن على عبد اللطيف . فكيف تمنع اولئك وتأذن لزعيم حذب سياسى معروف بعدائه للانجليز منذ مصطفى كامل و محمد فريد . وكيف يترك مصر وحذبه يعمل لخوض الانتخابات التى كانت عند حضوره فى قمتها وهو الرئيس والزعيم ومرشح فيها ؟ ان وراء حافظ رمضان نفسه ووراء زيارته تلك للسودان وفى ذلك الوقت سرا لم اجد له تفسيرا .) 

                    اما يوشيكو كوريتا فتقول ص 27 ( وبأيجاز نستطيع ان نفترض ان السبب الاساسى للانقسام وسط اعضاء الاتحاد السودانى القياديين لم يكن هو اختلاف الرأى حول وحدة وادى النيل ، فقد اتفقوا ان تكون وحدة وادى النيل هى هدف حركتهم . وبكلمات اخرى اتفقوا على ان يفوض السودانيون حقوقهم الى مصر فى المفاوضات القادمة . وكانت نقطة خلافهم هى اى قسم من السودانيين مخول للتحدث بأسم الشعب السودانى ؟وقد مال بعض الاعضاء القياديين مثل سليمان كشة الى قبول ادعاء الزعماء الدينيين والقبليين ان الشعب فوضهم ليتحدثوا بأسمه . لكن آخرين مثل عبيد حاج الامين لم يقبلوا هذ الزعم . غير ان الاختلاف فى وجهة النظر هذه لم يبرز حتى النصف الاخير من عام 1923 عندما اشعل ظهور على عبد اللطيف ونفوذه المتنامى فى الحركة الصراع بين المجموعتين ) وتمضى ص 28 قائلة ( جمع سليمان كشة فى خريف 1923 وكجزء من انشطة جمعية  الاتحاد السودانى القصائد التى تليت فى ليلة مولد النبى ونشرها فى كتاب وصدر الكتاب بمقدمة بدأها بشعب عربى كريم واحتج على عبد اللطيف اذ كان يرى ان كشة كان يجب ان يكتب شعب سودانى كريم حيث لا يجب ان يكون ثمة فرق بين العرب والجنوبيين  . وانقسمت جمعية الاتحاد السودانى عقب هذه الواقعة ببرهة الى مجموعتين  فشرعت المجموعة التى تزعمها عبيد حاج الامين فى تأسيس اللواء الابيض يدا بيد مع على عبد اللطيف بينما امتنع الآخرون ومن بينهم سليمان كشة عن الانضمام لها وتراجع بعد هذا عن المشاركة النشطة فى الحركة .) .

                    هذه الآراء الثلاثة والتى تبدو كأنها نقلت من مضابط اجتماعات جمعية الاتحاد السودانى السرية ، تواجهها ملاحظات صعبة ، تشكل فى مجملها عقبة حقيقية تحول دون الاخذ بها كحقائق قاطعة ، او على وجه التحديد تحول دون الاخذ بمسألة الانقسام امرا قاطعا . وقد احسنت يوشيكو كوريتا حين عزت رأيها بكل وضوح فى مسألة الانقسام الى انه مجرد افتراض ، ولكن هنا تطرا مشكلة لأن هذا الافتراض يبدو معقولا ومقبولا فى حالة يوشيكو كوريتا وحدها ، لأنها لم تحظ بما حظى به كل من جعفر محمد على بخيت واحمد ابراهيم دياب ، اذ ان مصادرهما فيما يتعلق بجمعية الاتحاد السودانى ، كانا اثنين من المؤسسين لها وهما سليمان كشة بالنسبة لجعفر محمد على بخيت ، ومحى الدين جمال ابو سيف بالنسبة لاحمد ابراهيم دياب . فكيف يستطيع المرء ان ينفى مسألة الانقسام التى اشارا الى وقوعها ومصادرهما فى ذلك كانا اثنين من المؤسسين ؟ والاجابة ببساطة تعود الى انهما عند طرحهما لمسألة الانقسام ، لم يرد عند اى منهما ما يشير صراحة الى ان مرجعه فى ذلك كان احد المصدرين المتفق على انهما من المؤسسين ، مثلما فعل جعفر محمد على بخيت فى معرض حديثه عن مؤسسى الجمعية ( راجع ص 49 الهامش 3 و 4 ) ومثلما فعل احمد ابراهيم دياب فى معرض حديثه عن اهداف الجمعية ( راجع ص 8 ) هذه ملاحظة اولى ، اما الملاحظة الثانية والتى تدفع بقوة الى عدم الاخذ بمسألة الانقسام كأمر قاطع عندهما ، ان كلا منهما عند طرحه للمسألة يقفز قفزة مباشرة من ابريل 1923 تأريخ اطلاق سراح على عبد اللطيف ، والى 15 مايو 1924 تأريخ قيام جمعية اللواء الابيض. ، وفى تقديرى ان هذه القفزة جاءت نتيجة لعدم وجود دليل او حتى اشارة تؤكد مزاعم الانقسام خلال تلك الفترة سوى وجود عبيد حاج الامين وأخرين من الاعضاء السابقين بجمعية الاتحاد السودانى السرية ضمن عضوية جمعية اللواء الابيض ، ولذلك بدا واضحا ان جعفر محمد على بخيت واحمد ابراهيم دياب اضافة ليوشيكو كوريتا ، قدروا ان بوادر الانقسام بدأت من تأريخ اطلاق سراح على عبد اللطيف فى ابريل 1923 واستمرت حتى بلغت منتهاها بقيام جمعية اللواء الابيض فى 15 مايو 1924 . وبما اننى بصدد البحث فى حقيقة هذا الانقسام ، فأنه من المهم جدا البحث عن مظاهره خلال تلك الفترة ، اى من ابريل 1923 وحتى 15 مايو 1924 ،  وخلال هذه الفترة شهدت الساحة السياسية بالسودان اربعة احداث بارزة ، اولها بلا شك كان اطلاق سراح على عبد اللطيف فى ابريل 1923 ، والحدث الثانى كان الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف فى منتصف نوفمبر 1923 وهو واحد من المناسبات التى كانت تتيح للقوى الوطنية التجمع وطرح قضاياها . والحدث الثالث  كان زيارة حافظ بك رمضان رئيس الحذب الوطنى المصرى للسودان فى ديسمبر 1923 ، والحدث الرابع كان احتفال نادى الضباط المصريين بالسودان بمناسبة افتتاح البرلمان المصرى فى 15 مارس 1924 .

                      من بين هذه الاحداث الاربعة ، كان الاحتفال بالمولد النبوى الشريف هو الحدث الابرز الذى يمكن مشاهدة مظاهر الانقسام المزعوم من خلاله ، لأنه يجمع القوى الوطنية فى لياليه ومن ضمنها جمعية الاتحاد السودانى السرية التى كانت قد اتخذت من جمع القصائد الملقاة فى لياليه مشروعا لها ، والمفاجأة هنا ان المجموعة التى كلفت للقيام بهذا العمل تكونت من 1- سليمان كشة 2- عبيد حاج الامين 3- الامين على مدنى وآخرين من عضوية الجمعية ، اتفقوا على منهج معين فى تدوين القصائد التى كان يلقيها شعراء تلك الليالى ، وهى القصائد التى صدرت لاحقا فى كتاب " نسمات الربيع " ( راجع سليمان كشة فى "وثبة السودان الاولى" ص40 ). اذن فأن عبيد حاج الامين كان وحتى اواخر نوفمبر 1923 عضوا فاعلا فى انشطة جمعية الاتحاد السودانى السرية . ونظرا لأن يوشيكو كوريتا قالت بأن الانقسام وقع بعد برهة قليلة من واقعة مقدمة كتاب "نسمات الربيع" فهذا يعنى ان جمعية الاتحاد السودانى السرية ظلت محتفظة بسلامة تنظيمها وكامل عضويتها طيلة الفترة التى احتاجتها لجمع واعداد وطبع ونشر وتوزيع كتاب "نسمات الربيع" وحتى وصوله لايدى القراء ومن ضمنهم على عبد اللطيف ، اى على اقل تقدير احتاجت للفترة من اواخر نوفمبر 1923 والى اوائل يناير 1924 ، مما يعنى ان جمعية الاتحاد السودانى السرية حتى يناير 1924 كانت محتفظة بتنظيمها سالما وبعضويتها كاملة ومن بينها عبيد حاج الامين احد قيادييها البارزين ، وهذا يعنى ان كل ما اثير حول انقسام الجمعية حتى هذا التاريخ لا اساس له من الصحة . 

                    من جانب آخر فأن يوشيكو كوريتا قالت فى معرض افتراضها ، ان السبب الاساسى للانقسام وسط اعضاء جمعية الاتحاد السودانى القياديين انهم بعد ان اتفقوا على ان يفوض السودانيون حقوقهم الى مصر فى المفاوضات القادمة بينها وبريطانيا كانت نقطة خلافهم هى اى قسم من السودانيين مخول للتحدث بأسم الشعب السودانى ؟ وان الاعضاء القياديين مثل سليمان كشة مالوا الى قبول ادعاء الزعماء الدينيين والقبليين ان الشعب فوضهم للتحدث بأسمه لكن آخرين مثل عبيد حاج الامين لم يقبلوا هذا الزعم ، وان الاختلاف فى وجهة النظر هذه لم يبرز حتى النصف الاخير من عام 1923 عندما اشعل ظهور على عبد اللطيف ونفوذه المتنامى فى الحركة الصراع بين المجموعتين . والسؤال الذى يطرح نفسه الى اى مدى وصل الجدل حول قضية تفويض الحقوق بين المجموعتين ؟ فذا اخذنا بما قالته يوشيكو كوريتا بانه وصل الى المدى الذى ادى الى انقسامها فهى بذلك تكون قد طعنت فى جدوى قيام الجمعية من اساسها ، وطعنت فى وعى ووطنية قياديى الجمعية بمن فيهم عبيد حاج الامين . فالجمعية نشأت استجابة لضغط رأى سودانى عريض تبلور فى اذهان المؤسسين وفى غيرهم ، وكان يلح بشدة فى الوصول الى فضاء "المسألة السودانية" المغلق على مصر وبريطانيا ، وان قيام تنظيم هذا دافعه يعنى ان مجموعة المؤسسين كانت تعلم ان ثمة طريق شاق طويل فى انتظارها ، وانها اذا تمكنت من توفير آالياته وبنياته ، ستحتاج الى قنوات تفتح على جهات رسمية فى السودان او فى مصر او فى بريطانيا  ، كتلك التى يتمتع بها الزعماء الدينيين والقبليين وعلى عبد اللطيف ، و حتى اذا تمكنت من تحقيق ذلك ستجد نفسها مواجهة بعقبة ، هل جمعية الاتحاد السودانى هى التنظيم الوحيد فى الساحة السياسية المخول بالتعبير عن السودانيين خارج اطار القيادات الدينية والقبلية ؟ فالجمعية حتى اواخر عام 1923 انتهت فقط من مرحلة البناء حيث بلغت ذروة نجاحاتها باستكمال هياكلها التنظيمية فى معظم مدن السودان ( راجع سليمان كشة ص 40 وثبة السودان الاولى ) وهنا يبدو من الطبيعى انها بعد مرحلة البناء لا بد وان تخطو لمرحلة جديدة وهى الخروج الى العلن وطرح مشاريعها على الملأ ونظرا لعدم قيامها بتلك الخطوة فقد عزا معظم الباحثين ذلك الى ان جدلا حادا دار بين الاعضاء القياديين حول مسألة علنية وسرية نشاط الجمعية وان اختلاف النظر حول هذا الموضوع قاد فى النهاية الى انقسام الجمعية وقد عزّز هذا الرأى وجود عبيد حاج الامين وآخرين ضمن عضوية اللواء الابيض .

                    فى تقديرى ان المسألة التى حظيت بجدل واسع داخل الجمعية ليست مسألة سرية او علنية نشاطها وانما كانت انشطة التنظيمات الحديثة التى اخذت تجرى على ذات المضمار الذى جرت فيه انشطتها من قبل والتى شكل على عبد اللطيف قاسمها المشترك الاعظم ويمكن ملاحظة هذه التنظيمات بوضوح عند احمد ابراهيم دياب ص 19 ا( فقد تحول المكتب السياسى الذى كوّن فى مايو برئاسة على عبد اللطيف فى منتصف يونيو الى جبهة عريضة للجماعات والهيئات مثل بعض ضباط الجيش والموظفين والطلاب و العمال والمزرعين والاجناس والاديان المختلفة )  فاطراف هذه الجبهة فى اطرها الصغيرة التى كانت ناشطة آنذاك من قبل قيام جمعية اللواء الابيض هو ما اقلق جمعية الاتحاد السودانى السرية ، وشكل عقبة حالت دون خروجها للعلن ، لذا حظيت هذه المسألة بأولوية اهتماماتها او على وجه اقرب صارت مشروعا اضافيا لمرحلة البناء وهى مسألة اقتضت منها تجميع هذه القوى المتفرقة وضمها تحت جناحها حتى تستوى قوة ذات صوت واحد وموازية للقوى الدينية والقبلية ومن ثم يمكنها ان تعلن رأيها دون ان يخرج عليها صوت آخر يزيد الوضع تعقيدا اكثر مما هو عليه ، فهل يعقل بعد كل هذا الجهد المضنى الذى بذلته الجمعية فى مرحلة البناء ان يكون هدفها هو تفويض حقوق السودانيين لمصر او لغيرها ؟ وهل يعقل فى ظل المهام الكبيرة التى تنتظرها على صعيد توحيد هذه القوى ان يقدم احد مؤسسيها على عمل يؤدى الى انقسامها ليبدا ثانية من نقطة الصفر ؟ من الصعوبة بمكان تصديق هذا القول .

                          اما اهم الحقائق التى تجعل من الانقسام مجرد فكرة ساذجة ، هى ان مجموعة المؤسسين نجحت فى تصميم نظام اساسى يحظى بقدر وافر من المرونة والاتساع بحيث يستحيل معه حدوث مثل هذا الانقسام المزعوم ، واكثر ما يلفت الانتباه فى ذلك النظام ابتعاده عن تمركز السلطات فى ايدى اى شخص او اشخاص ايا كان ذاك الشخص او الاشخاص ، وتميّز بأتساع مدى الحريات داخله الى اقصى حد يحتاجه الاعضاء . لذلك نجد ان هيكل الجمعية الوظيفى يخلو من وظيفة الرئيس واستعاضوا عنها بما سمى مجلس امدرمان ، وهو مجلس دائرى يتيح لهم تداول القضايا بحرية وتساو ، بل مضى ابعد من ذلك بأن خوّل للاعضاء المؤسسين حق تنظيم خلية من تسعة اشخاص يكون العضو المؤسس عاشرهم وله حق ادارتها دون الرجوع لمجلس امدرمان ( راجع سليمان كشة فى وثبة السودان الاولى صفحتى 38 و39 ) وبما ان عبيد حاج الامين الذى اجمع الباحثون على انه احد مؤسسى جمعية الاتحاد السودانى يتمتع بهذا الحق فما حاجته للانقسام ونظام الجمعية يكفل له حق تنظيم خلية ايا كان اسمها وشكلها وله حق ادارتها منفردا سواء اكانت علنية او سرية دون ان يشكل ذلك خرقا للنظام الاساسى . ومع ذلك يظل وجود عبيد حاج الامين و آخرين من اعضاء الاتحاد السودانى ضمن عضوية اللواء الابيض سؤالا مؤرقا .

                     تقول يوشيكو كوريتا ص 28 ( بدا على عبد اللطيف عقب اطلاق سراحه فى ربيع 1923 الاتصال بالاعضاء القياديين فى جمعية الاتحاد السودانى ) ونظرا لأنها لم تقدم كيفية هذه الاتصالات او خلفية عن شكل العلاقة الذى كان قائما بينه وبين تلك القيادات الذين لم تحدد اسماءهم ، فمن سياق روايتها يبدو ان المعنيين بهذا القول هما سليمان كشة وعبيد حاج الامين ، وبما ان على عبد اللطيف لم يكن عضوا بجمعية الاتحاد السودانى حسب تأكيد سليمان كشة فى ( سوق الذكريات ص 130 ) فان هذه الاتصالات تمت معهما باعتبارهما من الناشطين فى تلك الفترة ، ولأن على عبد اللطيف كان يملك بجلاء فكرة واضحة عن اهدافه السياسية على قول يوشيكو كوريتا فلابد ان يكون الناشطون آنذاك موضع اهتمامه واتصالاته ومن هنا بدأت العلاقة الوطيدة بينه وعبيد حاج الامين وما يهمنى هنا موقف جمعية الاتحاد السودانى من هذه الاتصالات .

                 فى تقديرى انها لفتت انتباهها الى ان ثمة نشاط بدا يبرز فى الساحة السياسية من شأنه ان يضر بمشروعها السياسى الذى بات على اعتاب مرحلة جديدة ، وملامح هذا النشاط برزت فى ثلاثة احداث بارزة شهدتها الساحة السياسية وكان حضور على عبد اللطيف البارزفيها مصدر قلق كبير ، اولها كان لقاؤه بحافظ بك رمضان رئيس الحذب الوطنى المصرى فى 15 مارس 1923 عند زيارته للسودان وثانيها فى حواره مع سليمان كشة حول مقدمة كتاب "نسمات الربيع" وثالثها كان فى مشاركته احتفالات الضباط المصريين بناديهم فى الخرطوم بمناسبة افتتاح البرلمان المصرى قى 15 مارس 1924 ومن هنا يبدو واضحا ان جمعية الاتحاد السودانى السرية استشعرت مخاوفا حقيقية  من هذ النشاط الذى تزامن مع بداية دخولها مرحلة جديدة وادركت وبحكم حضورها المتخفى فى الساحة السياسية ان هذا النشاط ما هو سوى مقدمة لتنظيم جديد على وشك الخروج للعلن ، لذلك عمدت فى تقديرى على تطوير العلاقة بين عبيد حاج الامين وعلى عبد اللطيف لتصعد الى اعلى مستوى لها باعتبارها امرا ضروريا لأحتواء هذا التنظيم الذى بدا مهددا خطيرا لها والعمل على توجيه انشطته ليصب فى خدمة مشروعها السياسى ، لذا دفعت بمجموعة من اشد عناصرها صلابة واكثرهم نشاطا لأنجاز هذه المهمة مع عبيد حاج الامين واتاحت لهم بنياتها وامكانياتها القائمة على نطاق السودان ، لهذا السبب نجد ان بصماتها كانت الاكثر بروزا من بين كل الاطراف التى شكلت جمعية اللواء الابيض . فقد خرجت اللواء الابيض للوجود حاملة معظم مبادىء وافكار واهداف الاتحاد السودانى ، وكان تاسيسها على ذات النسق الذى تأسست عليه ، حيث تكونت الخلية الاولى من خمسة اعضاء مؤسسين ( راجع احمد ابراهيم دياب ص 16 ) وبعد قيام اللواء الابيض نلحظ اتصالات مستمرة اشبه بالتلازم تبدو جلية بين سليمان كشة وعبيد حاج الامين من جانب وعبد الله خليل وصالح عبد القادر من جانب آخر . وهذا التلازم يبدو لى شكلا من اشكال الدعم المستمر لعبيد حاج الامين ومجموعته ظلت تضطلع به جمعية الاتحاد السودانى السرية لتمكينهم من احكام السيطرة على الجمعية وانشطتها وقد تجلى ذلك بوضوح حينما تولى رئاستها عبيد حاج الامين بعد اعتقال على عبد اللطيف فى 4 يونيو 1924 حيث ادارها بذات النهج الذى اعتمدته جمعية الاتحاد السودانى السرية والذى كان يرى (ان البلاد لم تنضج بعد لتستوعب نشاطا سياسيا مفتوحا ومعركة سياسية مع الانجليز وان خطوة كهذه ستؤدى الى رمى الحركة فى الوحل)- بين القوسين اقتباس من احمد ابراهيم دياب - فقد لاحظت يوشيكو ان انشطة اللواء الابيض قد انتهت بحلول يوليو1924 وفشلت فى ان تشارك رسميا فى الحركات الاخرى البارزة التى حدثت خلال تلك السنة ( راجع يوشيكو ص32 ) والى هنا يتضح ان وجود عبيد حاج الامين وآخرين من اعضاء جمعية الاتحاد السودانى السرية داخل جمعية اللواء الابيض جاء استجابة لأرادة جمعية الاتحاد السودانى السرية ولا علاقة له بالمزاعم القائلة من انه جاء نتيجة لللانقسام .  

المحور الرابع
رؤية فى دور مصر فى حركة 1924 :

            من الملاحظات الملفتة للنظر ان معظم الباحثين ربطوا حركة القوى الحديثة الناشئة فى عشرينات القرن العشرين بما فى ذلك جمعية الاتحاد السودانى السرية بالقوى المصرية او بالقوى الوطنية المصرية حسب فرز جعفر محمد على بخيت الذى يفيد ص 47 ان ( الرأى العام السودانى كان حتى آخر عام 1920 وفقا لما ورد فى تقرير لمكتب المخابرات بالخرطوم "منطويا على القلق خشية ان تنجح مصر فى اضعاف مركز الحكم البريطانى فى البلاد على اى وجه" ) وفى ظل مناخ القلق هذا نشأ اول تنظيم سياسى حديث فى السودان وهو جمعية الاتحاد السودانى السرية التى قال عنها محى الدين جمال ابوسيف احد مؤسسيها ان هدف الجمعية هو الدعوة لوحدة وادى النيل (احمد ابراهيم دياب ص 8 ) بينما يقول عنها سليمان كشة احد مؤسسيها من قياداتها البارزين فى "وثبة السودان الاولى" ص 40  ان هدفها كان (السودان للسودانيين ومصر اولى بالمعروف ) والراجح عندى هو قول سليمان كشة وهذا لا يعنى ان فكرها كان متطابقا مع فكر مجموعة جريدة الحضارة وانما بنت على اساسه فكرا متطورا لا يرى فى شعار "السودان للسودانيين" ما يمنع التعاون مع مصر من اجل الاستقلال طالما ان هنالك تعاون قائم مع الانجليز من اجل الاستقلال خاصة وان الشعب المصرى ايضا ظل يناضل من اجل الاستقلال والسؤال الذى يطرح نفسه الى اى مدى وصل ذلك التعاون بين جمعية الاتحاد السودانى السرية ومصر ؟ 

                   حتى ذلك الحين كان قاصرا على الاستفادة من الفرص والمعارف التى تتيحها دور النشر بالقاهرة ، والاستفادة من فرص التعليم التى تتيحها مصر كما تبين ذلك فى حالة توفيق احمد البكرى وبشير عبد الرحمن والدرديرى احمد اسماعيل (راجع احمد ابراهيم دياب ص 14 ) ومن هنا يبدو واضحا ان الفترة من اوائل العشرينات وحتى ديسمبر 1923 تاريخ زيارة حافظ بك رمضان رئيس الحذب الوطنى المصرى للسودان ، لم يكن للقوى الحديثة الناشطة آنذاك اى صلة او علاقات مؤسسة مع الحركة السياسية فى مصر او مع جهات رسمية مصرية ، كما لم يكن للحركة السياسية المصرية اى دور مباشر فى مجريات الحركة السياسية فى السودان والذى كان جسمها الغالب قد حدد موقفه من شريكى الحكم فى اختياره وصاية بريطانيا على السودان الى امد يحدد بعده  استقلاله ، وظل المصريون يلعبون دورهم فى السودان حسبما هو محدد فى اتفاقية الحكم الثنائى المبرمة بينهم وبريطانيا فى يناير 1899 والتى ضمنت للخديوى حقوقه السابقة للمهدية لذا فأن ("لندن والقاهرة لم يكونا فى عجلة من امرهما للقيام بعمل اى شىء خاص فى السودان بعد ان تمت تهدئته وابعاد شبح التحدى الفرنسى ، وذكر سالسبورى فى خطاب ارسله الى كرومر - ليس من المحتمل ان تتدخل معنا اى من الدول الاجنبية ... وليس هناك من خطر فى ان نقضى وقتا كبيرا فى هذه المهمة -" راجع جعفر محمد على بخيت ص 15 ) الى ان جاءت زيارة حافظ بك رمضان فى ديسمبر 1923 التى يرى فيها احمد ابراهيم دياب ص 15 ( انها فى حد ذاتها لغز . اذ كيف سمحت له الحكومة بدخول السودان وقد صرح قبلها سير "لى استاك" بأن الدعاية المصرية فى السودان سببها الزعماء المصريين" . كما ان الحكومة نفسها قد منعت من قبل حضور وفد محامين للدفاع عن على عبد اللطيف فكيف تمنع اولئك وتأذن لزعيم حذب سياسى معروف بعدائه للانجليز منذ مصطفى كامل ومحمد فريد . وكيف يترك مصر وحذبه يعمل لخوض الانتخابات التى كانت عند حضوره فى قمتها وهو الرئيس والزعيم ومرشح فيها ؟ ان وراء حافظ  رمضان نفسه ووراء زيارته تلك للسودان سرا لم اجد له تفسيرا . واعتقد "ولس" مدير المخابرات وغيره من الذين وقفوا ضد دعوة وحدة وادى النيل بأن اللواء الابيض نشأت نتيجة لزيارة حافظ رمضان حيث عمل على تكوين هيئة يجب ان تبدو من جميع الوجوه سودانية تماما رغم خضعوها لأشراف المصريين من وراء ستار ).

                     بالتأكيد فأن اسئلة احمد ابراهيم دياب حول توقيت الزيارة الذى تزامن مع ذروة العملية الانتخابية فى مصر امر لا تفسير له سوى ان اهداف الزيارة كانت اكبر واسمى من انتخابات لن تغير فى الوضع المصرى شيئا طالما ان الانجليز سيظلون باقين فى ارضها . فهل كانت زيارته بداية لدور مصرى فى الحركة السياسية بالسودان ؟

                     يقول جعفر محمد على بخيت صفحتى 13و 14 ( بيد انه فى 1898 جاء كتشنر الى السودان على رأس جيش من المصريين لدحر ابطال المهدية فى امدرمان ، وكان ذلك نتيجة الوضع الشاذ الذى فرضه التخطيط الهندسى لأقتسام افريقيا بين انجلترا وفرنسا وتنافسهما على كل من مصر واعالى النيل الامر الذى ادى الى حادث فاشودة المشهور . فالبريطانيون لم يحضروا لأى غرض حقيقى من وراء احتلالهم للسودان اكثر من ان يضمنوا ابعاد الفرنسيين عنه .) كلام فى غاية الغرابة لا يمكن فهمه الا فى اطار ضرورات البحث لدى مؤسسات الدول الضالعة فى موضوعه فالعكس هو الصحيح ويبدو لى ان ميمونة ميرغنى حمزة كانت غاية فى الدقة حينما اوضحت بجلاء نية البريطانيين المبكرة فى ان يكون السودان ضمن دائرة نفوذهم فى قولها ص 59 من كتابها "حصار وسقوط الخرطوم" (اما غردون فقد كان يرى فى السودان موقعا استراتيجيا هاما بالنسبة للنفوذ فى منطقة الشرق الاوسط ولابد من السيطرة عليه . فالتطورات التى تحدث فى السودان سيكون لها ردود فعل بعيدة المدى فى كل من مصر وبقية البلدان العربية .) فأذا كان البريطانيون راغبين حقا فى الشراكة وموافقين على الوجود المصرى بالسودان لجاءت اتفاقية الحكم الثنائى فى بداية اندلاع الثورة المهدية حينما ارسل غردون باشا الى السودان لأخلائه .

                   يقول د عبد العظيم رمضان المؤرخ والباحث المصرى المعروف فى مجلة اكتوبر المصرية العدد 412 الصادر بتأريخ 16 سبتمبر 1984 ص 23 ( وفى الحقيقة انه كان لدى مصطفى كامل والخديوى عباس الثانى فى ذلك الحين ما يدعوهما الى الامل فى تدخل فرنسا لصالح مصر سريعا . ففى ذلك الوقت كان التنافس الاستعمارى بين فرنسا وانجلترا فى قلب افريقيا على اشده . وكان الصراع على اقتسام مناطق النفوذ فى السودان قد بلغ ذروته . وقد فكرت فرنسا فى استغلال المسألة المصرية لأنتزاع مركز هام فى اعالى النيل تصد به الزحف الانجليزى فى باطن افريقيا وتفتح باب المسألة المصرية على مصراعيه وتجبر انجلترا على تنفيذ عهودها فى الجلاء من مصر . ولتنفيذ هذه الاغراض اعدت حملة عسكرية بقيادة الكابتن مارشان لأحتلال فاشودة الواقعة على النيل . وقد استطاع الساسة الفرنسيون اقناع الخديوى ومصطفى كامل ومن يلتف حولهم من المصريين بأن حملة مارشان هى الحاملة لراية استقلال مصر . فصاروا كما كتبت مدام جوليت آدم - فيما بعد "يعتقدون ان تحرير وطنهم سيأتى من السودان. ) 

                  لا ادرى عما اذا كان الفرنسيون ولأهداف خاصة بهم اعادوا وبتكتيك ماهر تشكيل الخريطة الاستعمارية فى افريقيا على النحو الذى اتاح لبريطانيا ان تمد وجودها الاستعمارى من مصر شمالا وحتى منطقة البحيرات جنوبا من خلال الحملة الاستعمارية الثانية التى استهدفت السودان فى 1896 ؟ ام ان البريطانيين استغلوا عملية احتلالهم لفاشودة زريعة لأنفاذ مشروع جاهز لأحتلال السودان ؟ ام ان الامر برمته تم ترتيبه على نحو ما بين بريطانيا وفرنسا ؟ فالاسرة المالكة فى مصر والحذب الوطنى المصرى ومن التف حولهم من المصريين وقعوا ضحية فكرة استعمارية استهدفت بلادهم فى المقام الاول ، اذ عزّزت الوجود البريطانى بأرضهم ومكّنته من التمدد جنوبا ليحكم حصارهم من السودان ، واصبح البلدان نتيجة لذلك تحت قبضة اجندة استعمارية شديدة البأس والدهاء . ورغم ذلك فأن هذه الكتلة من المصريين وللغرابة لم يراجعوا خطل هذه الفكرة الساذجة التى هدفت الى استخدام السودان ورقة ضغط تدفع لجلاء الانجليز عن مصر برغم الفشل الذريع الذى صادفها ، و تحمّل الانسان المصرى تكاليفه الباهظة ، وراح ضحيتها عشرات الالاف من السودانيين ، وسقط وطن بأكمله تحت قبضة الاحتلال ، والاغرب من ذلك ان تظل ذات الفكرة حيّة فى العقل السياسى  لهذه الكتلة  لتنشط بعد ربع قرن من الزمان فى زيارة حافظ بك رمضان رئيس الحذب الوطنى المصرى الى السودان فى ديسمبر 1923 ثم تتحول بعد ذلك الى جسم ثابت فى مؤسسات الدولة المصرية ( ففى آخر مارس 1924 تم تكوين لجنة برلمانية لشئون السودان فى مجلس النواب المصرى تحت رئاسة النائب البرلمانى الوفدى حمدى بك سيف الدين ومعه 14 عضوا . "راجع احمد ابراهيم دياب ص 39 " )وهى التفاتة متأخرة للوضع فى السودان وقد يبدو معقولا ان يكون المعنى بها الوجود المصرى بالسودان .

                    من هنا يبدو ان ما ذهبت اليه مخابرات الادارة البريطانية بالسودان  من ان جمعية اللواء الابيض - الاطار المفترض للفكرة - نشأت بعد ان قام حافظ بك رمضان بتشجيع على عبد اللطيف وتوفيق وهبى المصرى الجنسية على تكوين هيئة تبدو من جميع الوجوه سودانية رغم خضوعها لأشراف المصريين من وراء ستار امرا قابلا للتصديق ، وهذا يعنى انه وللمرة الثانية اتفقت القوة الرئيسة فى مصر - الحذب الوطنى وحذب الوفد - على رؤية موحدة تجاه السودان مستندة على ذات الفكرة الفرنسية التى مفادها استخدام السودان ورقة ضغط لجلاء الانجليز عن مصر . وما اشبه الليلة بالبارحة فبدلا من ان تؤدى هذه الخطوة الى جلاء الانجليز عن مصر ادت الى جلاء المصريين عن السودان فتبنى فكرة استعمارية مليئة بالاجندة القاتلة من اجل التحرر والاستقلال كان خطأ فادحا ، فما ان تنزلت على ارض السودان مع زيارة حافظ بك رمضان حتى صارت هدفا لأجندة الادارة البريطانية ولأجندة القوى الدينية والقبلية ولأجندة القوى الحديثة ، فلم تصمد طويلا لوقع هذه الاجندة ، فالقوى الدينية والقبلية صاحبة النفوذ الاكبر فى السودان اعتزلت واتباعها حركة المنتفضين فى عام 1924 فبدت معه الانتفاضة معزولة عن السواد الاعظم من السودانيين رغم ان بعضها التزم الحياد الايجابى آملا فى ان تصبح حركة المنتفضين عامل ضغط تحقق من ورائه مكاسبا من اجل الاستقلال  كما فى حالة السيد عبد الرحمن المهدى (راجع احمد ابراهيم دياب ص 33 ) اما جمعية الاتحاد السودانى السرية التنظيم السياسى الاول فى السودان فقد رأت فيها فرصة سانحة لتجميع واستيعاب القو الحديثة الناشطة خارج اطار تنظيمها وتوجيهها لخدمة مشروعها السياسى ، فسعت فى وقت مبكر لأحتواء اطار الفكرة فى مهدها المتمثل فى جمعية اللواء الابيض ، اما على عبد اللطيف الذى كان يملك بجلاء فكرة واضحة عن اهدافه السياسية ، ادت هذه الحركة الى تلاشى اهدافه السياسية  مرة والى الابد ، ولم تعد تظهر منها سوى اسئلة حيرى عن اسباب اتفاق شريكى الحكم فى سجنه حتى الموت . وكانت الادارة البريطانية بالسودان سيّدة الموقف منذ ان وطأت قدما حافظ بك رمضان ارض السودان ، حيث رأت فى هذه الزيارة وما تحمله من اهداف فرصة ذهبية لتوجيه ضربتها القاتلة للقوى الناشطة فى مقاومة الاستعمار البريطانى بالبلدين ، وفعلتها بمهارة واقتدار ، ففى مصر اجبرت الشروط التى املاها اللورد "اللنبى" على اثر مقتل سير "لى استاك" حاكم عام السودان ، اجبرت سعد زغلول على تقديم استقالة حكومته ليتولى الوزارة خلفا له احمد زيور الذى كان خاضعا للنفوذ الاجنبى ، اما فى السودان فقد قطعت الطريق امام القوى الحديثة المتنامية وقبرت انشطتها لفترة طويلة مع جمعية اللواء الابيض ليتمكن البريطانيون بعد ذلك من احكام سيطرتهم على مصر والسودان ، وكم كانت مذهلة ثورة يوليو عبد الناصر عندما قلبت هذه الفكرة الاستعمارية الماكرة رأسا على عقب بتعاونها مع القوى الوطنية فى السودان لنيل استقلاله وجلاء الانجليز عن اراضيه لتتمكن بعد ذلك من جلاء الانجليز عن ارض مصر . من هنا يتضح  ان المصريين لم يلعبوا اى دور سياسى فى السودان ولا علاقة لهم بنشأة التنظيمات الحديثة التى ما قامت الا تلبية لحاجة سودانية خالصة ويكفى اتهام حافظ بك رمضان دلالة على انها الخطوة الاولى التى حاولت فيها بعض القوى المصرية لعب دورا فى السودان  وانتهت الى فشل ذريع .

المحور الخامس 
رؤية فى دور الادارة البريطانية بالسودان فى احداث حركة 1924 : 
          تعتبر الادارة البريطانية بالسودان اهم الاطراف فى حركة 1924 لأنها السلطة الحاكمة التى كانت هدفا للحركة وباعتبارها الطرف الذى حسم الصراع لمصلحته ، وبالتالى فأن الضرورة تقتضى النظر فى دورها لا فى مجريات الحركة فحسب ، وانما فى مجمل اساليب ادارتها لشئون السودان منذ توقيع اتفاقية الحكم الثنائى فى يناير 1899 للوقوف على حقيقة رؤيتها فى الشريك المصرى . فقد افترضت الاتفاقية ان الادارة البريطانية بالسودان هى الجهاز التنفيذى لأدارة شئون السودانيين وفق السياسات المتفق عليها بين الحكومتين البريطانية والمصرية ، فألى اى مدى التزمت بالقيام بأدوارها حسب ما هو محدد بالاتفاقية  ؟

              يقول جعفر محمد على بخيت ص 17 ( فقد رفع "كرومر" عقيرته بالشكوى اولا ثم تبعه "غورست" من ان "ونجت" وموظفيه بالخرطوم كانوا يقومون بكل ما امكنهم لكى يتحللوا من نفوذ القاهرة ويرسخوا فكرة استقلال السودان عن مصر ) ويمضى ص 29 قائلا (وكانت جميع الافكار المتعلقة بالاصلاح الادارى فيما قبل الحرب والتى نوقشت بواسطة الموظفين البريطانيين منذ عام 1917 وفيما بعد سواء عن طريق مباشر او غير مباشر هادفة الى ابعاد العنصر المصرى من الحكومة وتشديد قبضة البريطانيين على زمام الامور واحلال الموظفين السودانيين الصغار محل الموظفين المصريين وجذب السلطات التقليدية الى دائرة الادارة الاهلية .) ويقول ص 30 ( وفى 1917 ايضا تقدم "بونهام كارتر" السكرتير الادارى بأقتراحات استهدفت اساسا التقليل من سلطات المآمير المصريين فى المراكز التى خضعت لهم وقد ذكر فى هذا الصدد "ليس لدى ثقة كبيرة فى الوسطاء والسماسرة" واستطرد يقول "ان طريقة التخلص منهم هو ان نجعل الطرفين اصحاب المصلحة الحقيقية - البريطانيين والسودانيين - يقفان وجها لوجه" .) .

               هذه هى رؤية الادارة البريطانية بالسودان فى الشريك المصرى ، ولعبت كل ادوارها منذ توقيع اتفاقية الحكم الثنائى فى يناير 1899 وحتى قبيل حركة 1924 بناءا على هذه الرؤية التى جعلت من ابعاد الشريك المصرى هدفا استراتيجيا لها ، ويبدو ان البريطانيين ارادوا ان يتحملوا وحدهم عبْ ونتائج الاحتلال ، ولم تعد بهم حاجة للشريك المصرى الذى لم يكن يمثل منذ بداية التجهيز للأحتلال سوى ظل الفيل الذى يستوجب توجيه الطعنات اليه.، ورغم ان هذه السياسة التى استهدفت المصريين العاملين بحكومة السودان كانت تستوجب على الاقل احتجاج الشريك المصرى الا انه ليس هنالك ردود فعل ملحوظة تنبىء عن معارضتهم لها ، ويبدو لى ان المصريين كانو مطمئنين الى ان وجودهم بالسودان محكوم بأتفاقية الحكم الثنائى ، لذلك تعاملوا مع تلك السياسات على اساس ان الادارة البريطانية بالسودان لا تملك السلطة او الحق فى اتخاذ قرار بهذا الشأن الذى هو من صميم اختصاص حكومتيهما فى لندن والقاهرة ، وفى ظل هذا المناخ السائد جاءت زيارة حافظ بك رمضان رئيس الحذب الوطنى المصرى للسودان فى ديسمبر 1923 وما يهمنى هنا ان المصريين العاملين بحكومة السودان آنذاك ، لم يكونوا ندا مكافئا لشركائهم البريطانيين ، ولم تفهم الحكومة المصرية آنذاك طبيعة الجهاز البريطانى فى السودان حتى يدفعوا بكادر مماثل له بدلا من اتخاذ عمل المصريين بالسودان شكلا مفزعا للعقوبة ان لم يكن النفى .

                   يقول جعفر محمد على بخيت ص 8 ( كان للاداريين البريطانيين بالسودان جهاز اكثر حساسية لتقدير الحركات السياسية للسودانيين مما كان موجودا بمعظم المستعمرات البريطانية بأفريقيا . فجهاز المخابرات كان مزودا بموظفين سياسيين اذكياء لا برجال بوليس عاديين وكانت قيادة الجهاز تدرس بدقة فائقة التحولات فى الحركة السياسية للسودانيين كما كانت تهم اهتماما بالغا فى تقديراتها . وحكومة السودان - بخلاف الحكومات الاخرى - كان عليها ان تمارس الشئون السياسية وقد لعبت بترو ووضوح ومهارة المحترف كما لم تلعبه اى حكومة بريطانية بأفريقيا . وفضلا عن ذلك لم يكن الجهاز الادارى بالسودان -كما زعم البعض- طبقة من السادة تحكم السودان . وسجلات السودان توضح ان التفكير السياسى والتفكير الادارى كان فى مستوى عال -بل كان بالنسبة لذلك الزمن -يسبق بمراحل وضع الخطط فى المستعمرات البريطانية .)

                  هذه قدرات الادارة البريطانية بالسودان والتى علمنا رؤيتها فى الشريك المصرى آنفا ، فحكومة بهذه القدرات وتلك الرؤية لابد وانها كانت تنتظر تلك الخطوة فى السياسة المصرية حتى تضرب ضربتها القاضية ،. فكانت ضربة البداية سماحها لحافظ بك رمضان بدخول السودان فى ديسمبر 1923 بالرغم من انها تدرك تماما ان الرجل فى ذات نفسه يمثل اجندة معادية لبريطانيا وللبريطانيين ، وان تحركه فى ظل ظروف عادية داخل مصر يعتبر تحركا لأجندة معادية للوجود البريطانى بها فما بالك حين يطال هذا التحرك السودان الذى شهد طيلة الفترة من يناير 1922 وحتى قبيل زيارته فى ديسمبر 1923 نشاطا معاديا للبريطانيين ولسياستهم فى السودان ، انعكس فى المنشورات المعادية التى شهدتها بعض مدن السودان واعمال تخريبية على خطوط السكة حديد بالنيل الازرق وانشطة على عبد اللطيف قبل وبعد محاكمته الاولى اضافة لنشاط جمعية الاتحاد السودانى السرية خاصة فى ليالى المولد النبوى الشريف فى نوفمبر 1923 ( راجع احمد ابرهيم دياب صفحتى 37 و38 ) وان هذا النشاط المعادى لبريطانيا ولسياستها فى السودان كان يعزى للزعماء المصريين وحافظ بك رمضان هو زعيم الحذب الوطنى المصرى ، الحذب المشهود له بعداء الانجليز منذ خواتيم القرن التاسع عشر ، فكيف نفسر سماح الادارة البريطانية بدخوله السودان ؟ هل يفوت عليها ان سماحها بدخوله هو فى واقع الامر السماح بدخول اجندة معادية لبريطانيا بالسودان وان ثمة مواجهة بانتظارهم عقب دخول هذه الاجندة المعادية ؟ لا شك عندى ان سماح الادارة البريطانية بالسودان بدخول حافظ بك رمضان بكل ما يمثله وبكل ما يهدف اليه لا يعنى سوى انها كانت على اهبة الاستعداد لمواجهة تبعات هذه الزيارة ، وعلينا هنا الا ننظر الى سمة التراخى التى طبعت اجراءاتها منذ دخوله فى ديسمبر 1923 والى ما بعد قيام جمعية اللواء الابيض ، على انها اجراءات تدل على غفلتها عما كان يجرى فى الساحة ، او انها تفآجأت بالانتفاضة الجماهيرية التى جرت آنذاك ووصلت ذروتها فى المظاهرات التى اندلعت وعمت مدن بورتسودان وعطبرة والابيض وكوستى منذ اول مظاهرة صاحبت تشييع اليوزباشى عبد الخالق حسن مامور امدرمان المصرى الجنسية فى 19\6\1924 بمقابر البكرى بامدرمان وحتى آخر مظاهرة قامت من امام "قهوة" حسن سعد بالخرطوم فى 21\9\1924 (راجع احمد ابراهيم دياب من ص 42 والى ص 65 ) فسمة التراخى التى طغت على اجراءاتها فى مواجهة هذه الاحداث كانت ناتجة فى واقع الامر من اهتمامها فى البحث عن امر آخر ، فحسب جعفر محمد على بخيت ص 58 ( ان ما كان يشغل بال "ولس" هو انفتاح الجمعية على صغار ضباط الجيش سواء المصريين منهم او السودانيين "عربا" ام "سودا" والذين كان يفترض ان لعلى عبد الطيف اثرا كبيرا عليهم وخاصة فيما بين السود من السودانيين .) ويضيف ص 70 ( اما بالنسبة للجماهير فقد كانت السلطات الانجليزية على ثقة بأن الاجراءات الجزائية والعقابية وتوافر مزيد من الطائرات كفيلة باستتباب الامن.) .

               اذن فأنها ظلت طيلة الفترة من ديسمبر 1923 مرورا بالانتفاضة حتى 21\9\1924 تبحث عن دليل يؤيد اتهاماتها القائمة منذ مطلع العشرينات بتورط المصريين فى نشوء الحركات المعادية لبريطانيا بالسودان ، وبالرغم من انها واجهت المظاهرات باجراءات عادية اقتصرت على العصى ومقابض السيوف لتفريقها ، وبالرغم من غرابة ان تنفجر الاوضاع فى مستعمرة بريطانية وتستمر لمدة ثلاثة اشهر دون ان تحدث خسائر فى الارواح مثلما حدث فى مصر والهند - نستثنى من ذلك ما وقع بعطبرة لمشاركة قوات مسلحة- بالرغم من غرابة ذلك ، الا  ان هذا الوجه السلمى الذى واجهت به الاحداث كان يخفى من ورائه وجها اشد قسوة وقمعا تجلى فى اجراءات التحقيق التى طالت قادة المظاهرات وقيادات الجمعية واستهدفت بشكل مباشر البحث عن صلة تربط المصريين بتلك الاحداث ، وعن صلة تربط العسكريين المصريين والسودانيين بالمخطط العام للحركة ، ويمكن ملاحظة هذا البحث  بجلاء فى التحقيقات التى جرت مع صالح عبد القادر ، فقد خضع لتعذيب شديد ليقر بصلة عبد الله خليل الضابط بالجيش آنذاك بالحركة ( راجع مذكرات صالح عبد القادر - الصحافة عدد 24\10\1967 ) وما يلفت النظر هنا ، ان استهداف العسكريين السودانيين جاء نتيجة لأن القوات السودانية والى ذلك الحين كانت تعتبر جزءا من المؤسسة العسكرية المصرية ، من هنا يتضح انه بجانب هدف الادارة البريطانية بالسودان القاضى بأبعاد الشريك المصرى ، كان هنالك هدف لا يقل اهمية عنه ، وهو تفكيك البنية العسكرية السودانية لأنها الوحيدة من بين بنيات مؤسسات الدولة السودانية التى تم تأسيسها بعيدا عن يد الادارة البريطانية ، لذلك ظلت هدفا سعت لتصفيته تماما مثل سعيها لأبعاد الشريك المصرى عن السودان ، وقد وجدت الزريعة الكافية لتحقيق هذه الاهداف بعد ان توقفت المفاوضات بين "رمزى ماكدونالد و"سعد زغلول" فى 3 اكتوبر 1924 لأختلاف وجهات النظر حول مستقبل السودان ضمن مسائل اخرى ، اذ ان التطورات التى اعقبت قطع المفاوضات بدءا من اعلان "رمزى ماكدونالد" ان السودان تحت الوصاية البريطانية ، وتحذيره لمصر بالتوقف عن استخدام ضباط الجيش والموظفين المصريين لأثارة الامن والنظام فى السودان ، وانتهاءا بمقتل السير "لى استاك" فى 19 نوفمبر 1924 وما اعقبه من الشروط التى املاها "اللنبى" والتى دفعت سعد زغلول للاستقالة ، فان كل هذه التطورات كانت تتجه لتغيير الوضع فى السودان حسب التصور الذى خطط له البريطانيون ، وان هذا التغيير كان رهينا لمسألة وقت فقط وهو الوقت الذى تحتاجه حكومة زيور باشا لتنفذ ارادتهم . وان هذه التطورات فى معظمها كانت تدور فى القاهرة بين الحكومتين البريطانية والمصرية بأعتبار ان تغيير الاوضاع فى السودان امر من صميم اختصاصهما ، الا ان الادارة البريطانية فى السودان وبتكتيك ماهر سعت لأستعجال الامر بقيامها فى 24\11\1924 باصدار الاوامر لقوات الجيش المصرى بمغادرة السودان ، وهى تعلم تمام العلم ان هذه القوات تتلقى اوامرها مباشرة من قائدها الاعلى الملك فؤاد بالقاهرة ، وان الرفض سيكون الرد الطبيعى لأوامرها ، فوجدت فى الرفض الزريعة الكافية للقيام بحصار معسكرات الجيش المصرى بغية خلق واقع جديد ينذر بعواقب وخيمة سيدفع بالتأكيد  الحكومتين الى العمل من اجل جلاء المصريين من السودان ، ثم قامت بتعزيز هذه الخطوة بخطوة اخرى اكثر اثارة ومأساة حينما وجدت ضالتها فى قوة من الكتيبة السودانية (11) التى قادها التوتر الكبير الذى احاط بمعسكرات الجيش المصرى ، للتحرك نحوه فى 27 نوفمبر 1924 لمشاطرته مصيره المنتظر بأعتبارهم جزء منه ويخضعون لذات القائد الاعلى الملك فؤاد ، وما يهمنى هنا ، ان الصدام العنيف الذى وقع فى ذلك اليوم كان يمكن تفاديه بذات الاسلوب الذى اتبعته الادارة البريطانية فى تعاملها مع مظاهرة طلبة المدرسة الحربية فى 9\8\1924 فبالرغم من مظاهر تسليح تلك المظاهرة التى تنبىء عن استعدادها للقيام بعمل عنيف ، وبالرغم من اعلان موقفها الصريح المؤازر لمصر فى مفاوضاتها حول "المسألة السودانية" الا ان تحاشى البريطانيين الاصطدام بها كانت نتيجته ان عادت الى ثكناتها دون وقوع خسائر ، فلماذا بادرت قوات الجيش البريطانى باطلاق الرصاص هذه المرة وفى الوقت الذى هدأت فيه شوارع البلاد من حركة المنتفضين وقبع معظم قادتهم فى السجون وبدت فيه سيطرة البريطانيين على البلاد جلية للعيان ؟ وهل كانت تلك القوة من الكتيبة (11) تنوى فعلا الاصطدام بقوات الجيش البريطانى ام كانت تسعى للانضمام لقوات الجيش المصرى لمشاركتهم مصيرهم المنتظر ؟ الشواهد تشير الى انهم لم يكن لديهم اى نوايا للاصطدام بالجيش البريطانى او بالوجود البريطانى بالرغم من مظاهر تسليحهم فقد ( اوقف "هدلستون" سردار الجيش البريطانى وكان من خلفه قوات بريطانية سير تلك القوات السودانية بالقرب من المستشفى العسكرى بالخرطوم وتسآل "هدلستون" ان كانوا يستجيبون لأوامره فأجابوا " اننا لا نعرف هدلستون باشا بل نعرف رفعت بك فقط " ومن ثم اطلق "ارجلس" الرصاص على الجنود السودانيين الذين دافعوا عن انفسهم بالقرب من المستشفى العسكرى .- راجع جعفر محمد على بخيت ص 76 ) فلماذا بادرت القوات البريطانية باطلاق النار وكان فى امكانها على الاقل الرجوع لرفعت بك احد كبار ضباط الجيش المصرى بالسودان (وكان سردار الجيش البريطانى على يقين بان لم يكن لرفعت بك ادنى اتصال بأى نوع من تمرد الفرق السودانية . جعفر محمد على بخيت نفس الصفحة ) ليس هذا فحسب بل كان واضحا للبريطانيين ان هذه القوة السودانية وطوال خط سيرها عبر طرقات العاصمة ( لم يقوموا بالاعتداء على الاوروبيين او اموالهم وذلك لأنه "لم تنتهك حرمة مسكن واحد كما لم يصب اى اجنبى بسوء" ) ( بل اكثر من ذلك غرابة فأن الثوار عندما وصلوا الى شارع الخديوى واضطروا للتراجع قليلا لمواجهة حصار قوات الجيش البريطانى قد سمحوا للضباط الانجليز وزوجاتهم واولادهم بالمرور من بينهم دون الاستيلاء عليهم كرهائن مثلا . جعفر محمد على بخيت ص 77 )  فهل يعقل ان يكون هذا سلوك قوات تنوى القتال ؟ ولكن لأن اهداف الادارة البريطانية فى السودان كانت قد اينعت وحان قطافها جاءت مجزرة 27 نوفمبر 1924 لترفع درجة التوتر الى اعلى سقوفه بالقدر الذى استعجل كلا من لندن والقاهرة الى اتخاذ قرار سريع ففى اليوم التالى للمجزرة ( فى 28 نوفمبر حملت الاوامر على جناحى طائرة خاصة الى الخرطوم . وقد غادر الجيش المصرى دون مزيد من الضجيج والعجيج . نفس المصدر ذات الصفحة ).

                    من هنا يتضح ان الادارة البريطانية بالسودان كان اللاعب الاول فى الاحداث ، اللاعب الذى لعب بمهارة المحترف فى استغلال حركة 1924 لتحقيق اهدافه فقد ابعد الوجود المصرى عن السودان ، واعاد تشكيل القوات السودانية التى كانت تشكل له معقلا للمخاوف والمخاطر فى قوة دفاع السودان لتصبح بذلك كافة مؤسسات البلد من صنع يديها لتطمئن لوجودها بالسودان ردحا طويلا من الزمن  . 

خاتمة 
                تبدو حركة 1924 محطة هامة فى تأريخ السودان الحديث ولكنها محطة لا زال يلفها كثير من الغموض ، وقد تنجح الدراسات والبحوث يوما ما فى القاء اضواء كاشفة على زواياها المظلمة ، ولكنها ستجد صعوبة بالغة فى التأثير على السودانيين ليتخطوا آثارها التى اصبحت من الثوابت فى الحركة السياسية السودانية ، وقد افلحت يوشيكو كوريتا حين قالت ان تناولها لأحدات 1924 (قد يحرج الذين لا يزالون يعزون ذكرى هذه الحركة الوطنية ولكن يجب ان نبدأ من ادراك نقائض الحركة الوطنية وليس فقط تمجيدها اذا اردنا التفكير بجدية فى مسألة الوطنية .) وهذا لا ينفى البتة عظمة اولئك الرجال الذين فجّروا تلك الحركة على مختلف مشاربهم فقد اصطدمت اشواقهم وامانيهم فى التحرر بأجندات وظروف داخلية وخارجية كانت اقوى من حساباتهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...