الخميس، 31 أكتوبر 2013

غفلة اجرائية


                         لا اشك لحظة فى ان الحديث الذى ادلى به السيد وزير المالية حول ضرورة احالة الزيادات التى اعلنت على المرتبات والاجور الى المجلس الوطنى لتتم اجازتها ومن ثمّ العمل على تطبيقها على العاملين ، قد اثار من التسآؤلات القلقة عن الوضع المالى بالبلاد ما يدعو الى المخاوف من ان تكون صراحة السيد رئيس الجمهورية فى مؤتمره الصحفى الذى سبق انتفاضة الشارع فى اواخر سبتمبر الماضى والتى اشار فيها الى ان الاقتصاد السودانى على شفا الانهيار لولا ضرورة تداركه بحزمة الاجراءات المتعلقة برفع الدعم وزيادة الاسعار واخرى من بينها زيادة المرتبات والاجور ، ما يدعو الى المخاوف هو ان تكون تلك الحقائق التى ذكرها وكان قد هرب منها الجميع لا تزال قائمة  .

                          لا احد يجادل فى حق السيد وزير المالية بان يغطى اجراءاته التنفيذية لكل الحزم الاقتصادية الواردة بالميزانية العامة بشرعية قانونية ، بمعنى ان يكون تطبيقه لأى حزمة اقتصادية مستوفيا لكافة الاجراءات القانونية المطلوبة لأجازة الميزانية والتعديلات التى تطرأ عليها ، والتى تبدأ بعد اعدادها من وزارته بحكم العادة ، برفعها للحصول على موافقة مجلس الوزراء ، ثم الحصول على موافقة السيد رئيس الجمهورية ، ثم اجازتها من المجلس الوطنى لتصدر فى شكل قانون لا يجوز تعديله الا عبر ذات الاجراءات التى صدر بها .

                           ولكن السؤال الذى يطرح نفسه ، ألم تكن حزمة تعديل المرتبات والاجور ضمن الحزمة المتكاملة التى وضعت لتدارك انهيار الاقتصاد واجيزت من المجلس على هذا الاساس ؟ ام انها سقطت عنادا على طريقة ذلك المتسوّل الذى اوشك على الغرق ورفض ان يمد يده للآخرين لآنقاذه من كثرة تعوده لمدها على الأخذ منهم فقط ؟

                             على اى حال ارجو الآ يكون فى الامر زريعة لقتل هذه الزيادات خاصة بعد ان اكّد السيد الوزير على عزم المالية استرداد المبالغ التى صرفت لبعض العاملين والمعاشيين قبل عيد الاضحى خصما على الزيادات ، وارجو ألا نسمع ان المجلس ذهب فى اجازة قد تنتهى مع بداية السنة الجديدة فى يناير 2014 ليتيح مزيدا من الوقت حتى تتمكن المالية من اقناع الألف حلاّل ان يحلها من ورطة الزيادات ، وارجو ان يكون الامر مجرد غفلة اجرائية .

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

غار صدقى


                      خيبات العاشقين تحفر عميقا عميقا فى الروح ، وتبنى مزارا سريا اشبه (بتاج محل) يتسللون اليه خلسة عندما يأتى المساء ، وعندما يأتى المساء يبدأ مشوار يوم جديد شديد الوطأة على قلوب مفطورة ، تتحلّق فى غرفة صغيرة ضيّقة اطلقوا عليها اسم (الغار) ، كانت فى الاصل زريبة اغنام تتوسط حوش منزل اهل صدقى ، واستعلت عليها ثقافة الوظيفة الكاذبة ، فتراجعت الاغنام الى ركن المنزل واقام صدقى مكانها (الغار) ، فى هذه الغرفة او فى هذا (الغار) ، تبكى سرا قلوب شابة كل ليلة وتبث شكواها سرا ايضا مع الاغنيات ، ما اتحدث عنه هنا ، وقائع حقيقية لذوات منسية حرقت سنوات من عمرها فى الهيام  مع الاغنيات ، استدعاها الى الذاكرة خبر فريد من نوعه ، ليس هذا وقته ، المهم ان هذه المجموعة كانت حين يتقدم الليل بأقسى اسلحته ، يستدعون السيدة ام كلثوم ، سيّدة اغنية (الغار) المقدسة ، الاغنية التى تفتح مزاراتهم السرية علنا امام وحشة الليل ، انها (فكرونى) ، انا متأكد جدا ، انهم فى تأريخ اذاعة هذه الأغنية كانوا صبيانا يلعبون فى الشوارع لعبات شقيّة ، يلعبونها بلا استحياء بملابسهم الداخلية ، ثم ينامون ملء جفونهم حتى عن شوارد مطابخهم ، ان جاز تسمية تلك (الجخانين) مطابخا ، فما الذى زرع الليل فى نفوس هؤلاء الفتية خصما عنيدا اختاروا له (غار) صدقى ميدانا لمنازلته ، واعدوا له اسلحة تهزم الف ليل وليل ؟

                         لو امتلكت حوائط (الغار) القدرة على البوح بما اسرّه اولئك الفتية فى دواخلهم كما تفعل حوائط (الفيسبوك) هذه الايام ، لشهدت ليالى الانترنت فى السودان سرادق عزاء نوعية ، او لو كان (الغار) حاضرا فى زماننا هذا لصار مقهى اليكترونيا غير محكوم بمواقيت ، فقط يغلقه مدى قدرة الطرف الثانى على السهر ، المهم كل تأريخ (الغار) هذا بما حمله من لواعج العشق ، لم يستطع ان يستثنى تلك القلوب الفتيّة من الانخراط فى طقس زواج عمره قرون من الزمن ، صدقى اكتشف ان له ابنة خالة فى نواحى النيل الابيض فحزم حقيبة واصطحب معه عددا محدودا من كبار اهله وعاد الينا مقترنا بأمرأة لم يرها الا قبل كتب الكتاب بساعات قلائل ،
 وبدون ذكر اسماء ، كانت زيجات البقية على النحو التالى ، الثانى اختارها من خارج نطاق الاسرة لأنها لم تدخل سينما ولم تشاهد فيلما فى حياتها ، والثالث ترك الاختيار لوالدته ، والرابع اختارها قروية من ريف بعيد ، والخامس تعامل مع الامر كأنه يعنى شخصا آخر للدرجة التى كان ينسى فيها اسم خطيبته ، وتعايشوا جميعا فى سلاسة مع هذا الوضع الغريب واصبحوا آباءا يرددون اسطوانات الشكوى ذاتها التى لم تكف عن الدوران عقودا وعقودا  .

                         صدقى الذى كان يدعى سلطان العاشقين ، اول من برع فى استخدام الكمبيوتر ، واكثرهم نشاطا فى التجوّل على الانترنت ، ولا استبعد ان تكون له اكثر من صفحة بأسم مستعار فى كل موقع من مواقع التواصل الاجتماعى ، واعتقد مع قليل من الجزم ان للآخرين ذات النهج ، لكنى واثق تماما واجزم بشدة ان جميعهم اذا دخلوا عالم الاسافير هذا فسيكونوا قد دخلوا بحثا عن رفيق الروح المختبىء فى اعماق اعماقهم ، وليس هذا ما يدعو للمخاوف والقلق فمثل تلك العلاقات النقية اذا بعثت ،لا يمكن ان تؤدى الى هدم اسرة او شرخ فى منظومة الاخلاق ، فالأحترام دائما سيّدها ايا كانت اسباب الفراق .

                          ان الخوف الاكبر والفزع الاكبر والقلق الاكبر ، حدث عندما دخل احدهم صفحته ومن هول ما رآه ، احسّ كأن تيس اهل صدقى قد غرز قرنه فى قلبه فجأة ، وكان صراخه المكتوم داخله يحاكى ارخميدس (وجدتها  وجدتها) ويا لسخرية الاقدار ، فقد هدمت  صرخة ارخميدس هذه مزاره السرى فى رمشة عين ، ثم تدفقت مشاعر اعرفها جيدا من شغاف شغافه تناجى ( من اى سماء هبط علىّ هذا الملاك الأخير) (كيف استطاع هذا الجمال القادم من جنّات عالية ان يلغى تأريخ عشقى كله ويشدنى اليه فى صراط مستقيم ، يشدنى اليه وحده لا غير) (كل اللغات تصطف الآن معى وتعجز ان تقول له ما اريد) وقولا كثيرا يفضح حالة اللوعة  التى اعترته ، و القصة  ببساطة ان مهووسا بالجمال اكتشف صورة امرأة سودانية غاية فى الجمال وغاية فى الابداع ، وقام بمشاركتها مع قائمة اصدقائه حيث جاءت الى حائط احد هؤلاء الخمسة الكبار ، ففجرت فيه براكين العشق الخاملة سنوات وسنوات ، ثم اكتشف لاحقا انها سيّدة وان وعيها لايقل جمالا عن جمالها وان امومتها تشعل حنين المرء الى طفولته الباكرة وحنينه للأرتماء فى حضن رؤوم ، ولم يملك الا ان يضيف الى جراحه جرحا جديدا ويناجى (يا غار صدقى انجدنى) .

                        هذه الوقائع الحقيقية استدعاها الى الذاكرة ، خبر انتشر على مواقع التواصل الاجتماعى يقول ان شيخا سبعينى اتهم بالتحرش على تلميذة فى مرحلة الاساس ، وضبط خطاب غرامى او خطابات لا اذكر كان قد ارسله اليها ، فى بادىء الامر اصابنى الذعر ان يكون المتهم احد مجموعة الغار ، ولكن (سبعينى) طمأنتنى كثيرا وان كنت على يقين انه مستقبل منتظر لهم ، اما الآن ، فأن الفضول يقتلنى لقراءة سطر واحد او جملة او كلمة من تلك الرسالة حتى وان كانت كتلك الكلمات التى كادت ان تثقب طبلة اذنى من كثرة سماعها ، ان الفضول يقتلنى كى اعرف سحر المرأة الغامض الذى ينقلنا من الجمال الى الرعب مباشرة مثلما نقلتنا اولا من السماء الى الارض ، ومثلما نقلت هذا الشيخ المسكين الى رعب معطّن بالفضيحة ، ومن الحب ما فضح !!
                         

                       
 ،  

الاثنين، 21 أكتوبر 2013

رمل الكلوزيوم


                          (لا شىء يلهى روما مثل رمل الكلوزيوم )
                      
                        لا يمكن ان يصدر هذا القول من احد دهاقنة الترفيه ممن يزدحم بهم عادة بلاط القياصرة والاباطرة ، أولئك الذين اعتادوا تقديم ابهى صور الملهاة  واكثرها ابداعا ، اذ ان العبارة بجانب كونها تشى بعمق سياسى ماكر ، فأنها تؤرخ لزمان قيصرها بمتلازمة القتل والملهاة ، لتفصح ببراعة ان الجالس على عرش روما طاغية تتوقف حياة البشر على اشارة من ابهامه فى حلبة الكلوزيوم .

                        وفى حلبة الكلوزيوم يتقاتل العبيد مع بعضهم البعض من اجل البقاء ، ويتقاتلون مع فرسان روما من اجل الحرية ، ويتقاتل جميعهم قتالا متوحشا يحاكون به اساليب جيش روما العظيم فى الحروب ، وكل ذلك  لا لشىء سوى ان يستغرق شعبها فى هذه الملهاة الدامية بعيدا عن سجالات النبلاء فى مجلس الشيوخ ، السجالات الساعية لبناء حياة مدنية كريمة يحكمها القانون وليس ابهام قيصر الذى اعتاد ان يسقى رمل الكلوزيوم بالدماء .

                          احاجى القدم هذه ، تتراءى لى حيّة متقدة ، ليس فى شوارعنا فحسب وانما فى معظم بلاد الدنيا ، فمن هو هذا القيصر الكبير الذى يمسك بخيوط هذه اللعبة الدامية منذ ذلك الزمان ليحيل بها شوارعنا كرمل الكلوزيوم عطشى دوما للدماء ؟

                           بعض هذا القيصر يسكن داخلنا ، ويتسلل بوعى منا او بغير وعى الى سلوكنا مع الآخر ، حتى لو كان هذا الآخر طفلا من لحمنا ودمنا ، فبعض هذا القيصر الذى يسكننا هو الذى يعمى بصرنا وبصيرتنا ، ويجعلنا نتماهى معه حتى فى طريق بحثنا عن الخلاص ، الى ان صار طريقنا الى الخلاص هو ذات الطريق الذى سلكه (سيزيف) الى اعلى الجبل ، لم تعوزنا قوته فى حمل الصخرة  ولا نجاخه فى الوصول بها الى اعلى الجبل ولا قدرته فى تكرار المحاولة بعد تدحرجها الى اسفل فى كل مرة ، فمن اكتوبر 1964 الى ابريل 1985 وما قبلهما ، وما بينهما ، وحتى اواخر سبتمبر الماضى ، والى القادم من المحاولات ، تبدو عملية نقل الصخرة اعلى الجبل وتدحرجها ثانية ، هى العائد من كل تلك الدماء الذكية التى سقت شوارعنا وكل تلك الارواح الطاهرة التى ازهقت فى جنباتها ، كأن التأريخ فى وعينا مجرد احاجى للتسلية ، احاجى لن تتيح لنا ان نلحظ اوجه الشبه بين ما جرى فى العام 1924 وما جرى فى هذه الايام القريبة من عمر الانقاذ فى عامها رقم 24 - مع الاخذ فى الاعتبار الفوارق- فآنذاك ابتعد السيدان فأصبحت حركة التظاهرات والاحتجاجات معزولة عن السواد الاعظم من السودانيين وكذا الحال فى حراك الامس القريب .

                            ثمة بداوة متوحشة تمسك بتلابيب العقول ، تنظر الى الآخر كمشروع ورثة لا اكثر ولا اقل ، بداوة تتجلى فى خطاب السلطة حين يصف بعض شعبها بما يطعن فى الصميم ، الكرامة التى يجب ان يضفيها على هذا البعض حق الوطن ، وتتجلى فى افعالها حين تطال مصادرة ممتلكات الناس ، بداوة تتجلى فى خطاب المعارضة بأطيافها حين تصف النظام القائم كأنه مجموعة من الغرباء هبطت فجأة ارض الوطن وليست جزءا من مكونات هذا الشعب ونتاجا طبيعيا لحراكاته ، و تدعو الى اجتثاثه من جذوره ، ثم تتجلى فى افعالها حين تحمل السلاح لتحقيق ذلك ، وتصبح فكرة القضاء على الآخر نهائيا هى فى واقع الحال فكرة تشغل عقل كل منهما ، بحساب التركة التى ستؤول اليه عند نهاية هذا الآخر ، لعنة الله على الملكية والتملّك .

                           شعب ينام ويصحو على امان بسيطة فى الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية ، لايستحق بفعل طموحات هنا وهناك ان تصير شوارعه كرمل الكلوزيوم عطشى دوما للدماء .
                            

                           

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...