الثلاثاء، 17 يناير 2012

لا جدوى


               فى البدء كانت الكلمة ، ولا ادرى اى كلمة تلك التى قتل بها الأخ اخاه ، ولكنى ادرى ان الحرب اولها كلام ، وان كلمة من الممكن ان تطلق صاروخا يبيد قرية او مدينة او بلدا بأكمله ، وادرى ايضا تلك الكلمات التى تعود لصاحبها بطعنة نجلاء من سكين غادرة ، او بضربة قاتلة من عصا غليظة ، وادرى ايضا انه لولا الانترنت ، لظلّت الكلمات الحرة حبيسة فى ادراج وملفات وكراسات الى ان يطويها العدم ، او يتبادلها الناس سرا مثل شىء ممنوع ، فالكلمات ظلّت حكرا على جيش من السياسيين ، مدعوم بجيش من اهل الاعلام ، كل ما ينتجه الاخير ، خاضع برمته لرؤية سياسية هنا وهناك، لا يوجد تعبير حر على الاطلاق داخل ماكينة الاعلام ، الا بما يتفق مع السياسة هنا وهناك ، عدا ذلك فهو الذى قالوه يوما  (آذان فى مالطا)  ، فكل تعبير تحركه قوى خلفية ، لها خطوط لا تسمح بتجاوزها حتى اذا كان هذا التجاوز هو الحق بعينه ، فهل يصمد رأى حر داخل هذه الغابة المتشابكة بجيوش جرارة ، تحمى مصالح قد ندرى اولها ولا ندرى اين تنتهى ؟

               قالها الفيتورى ( واهم من ظنّ الاشياء هى الاشياء ) فما اروعه ، فقد فات علىّ زمن طويل حتى اكتشفت ان مسارى فى الحياة لم يكن سوى نطاق ضيّق حددته اياد ، بعضها يبدو اقرب اليك من حبل الوريد ، واخرى خارج مدى الرؤية ، وجميعها محميّة اما بسلطة اقوى منك ، واما بنبل فيك ، او زهد فيك ، او بعبط يلفك من رأسك الى اخمص قدميك ، وبعضها يبدو خارج مدى الرؤية ، بحيث لن تراها حتى تتوسّد تلك الحفرة التى تنتظر الناس جميعا ، فأذا قلت ام لم تقل ، لن يتغير شىء ، وانما يدفعك القول داخل جدران الألم والخيبة والاحباط ، فالعالم يسير كما يريده اولئك القابضون عليه بأياد ، لا تخشى ان تلوّثها الدماء ، او ان تمتلىء بقذارات الاموال الوسخة .

               التعبير الأنسانى الرفيع فى هذه الحياة ، هو التعبير بالفرشاة ، هو ذلك الذى تراه على لوحة مغطاة بالجمال ، وفى داخلها ضخب مدهش لحياة ، قد تكون لأنسان او طائر او حيوان او نبات ، فالرسام هو افضل وانبل معبّر عن الحياة بحريّة ، يمنحك زاوية نظر لا تلغى عقلك ابدا ، واذا صدمك داخل اللوحة شكل او خط ، يحميك من وقع الصدمة بخليط مبهر من الالوان ، فتمتص خيوط الضوء الخارجة منها ، خيوط الألم الطارىء عليك ، والألم الساكن فيك ، فمن اراد ان يعبّر بحرية فليرسم ، واذا افتقد الموهبة ، فليكن عبدا للجمال ، سيأخذه برفق الى عالم الطبيعة الزاخر بالبهاء حد الدهشة ، وسيخرجك برفق ايضا من عالمك الذى تعيش فيه الآن ، سيخرجك من روائح البارود والدم والموت ، وسيخرجك من اجواء الشتائم والاكاذيب والمؤامرات ، التى يتبادلها المهووسون بالتملك والامتلاك ، ومطاردة الاحلام الخائبة ، عندها ستكتشف عوالما من الدهشة تحيط بك ، كنت غافلا عنها بتعلقك بأكثر وجوه هذا العالم جنونا وقبحا .

               لا جدوى من القول ، لا جدوى من الكتابة ، سأبدأ من اليوم رحلة البحث عن كاميرا واسعة الزوايا ، لا تفوّت عينها الراصدة للجمال لقطة ، وان كانت مخبأة فى طرفة عين ، والى ذلك الحين سأنتقى من فضاء الانترنت اجمل ما التقطه من جمال .

الأحد، 15 يناير 2012

العفو والمقدرة


               قالت الوكالة العربية السورية للأنباء ، ان الرئيس بشار الأسد اصدر عفوا عاما عن الجرائم التى ارتكبت خلال الانتفاضة ضد حكمه والمستمرة منذ عدة شهور ، وهو فى تقديرى قرارا صائبا جاء متسقا مع توجهات الرئيس الاسد منذ تبنيه تيار الاصلاح داخل سوريا ، وجاء متسقا مع ثقافتنا وما نادى به ديننا (فمن عفا واصلح فأجره على الله)  ، والقرار جاء فى وقت مناسب من شأنه ان يجنّب سوريا والسوريين مصيرا مظلما يصعب التنبوء بمآلاته بعد ان ارتفعت الاصوات المنادية بالتدخل العسكرى لأيقاف حمام الدم المتواصل منذ اول يوم فى الانتفاضة ، وكان آخرها اقتراح امير قطر بأرسال قوات عربية.

               ولأن العفو يرتبط دائما بالمقدرة  ، فأن الأمل يبدو كبيرا فى ان يكون الرئيس الاسد قد امتلك القدرة اللازمة على تنفيذه بكامل متطلباته ، واولى هذه المتطلبات الافراج عن جميع المعتقلين والمحاكمين منذ اول يوم فى الانتفاضة والى ساعة اصدار العفو ، وجبر الاضرار التى ترتبت على الاعتقالات والمحاكمات التى تمت ، ثم العمل على تضميد الجراحات الغائرة التى احدثتها الأساليب الوحشية التى واجهت بها السلطة انتفاضة الشعب السورى ، وهو امر ممكن التحقيق ، فالسوريين اول الشعوب العربية التى علمت وعلّمت (ان للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق) .

                  ولأن الأزمة فى سوريا تختلف عن سواها من الازمات القريبة التى مرّت بها الدول العربية ، لوقوع سوريا داخل خط موازنات القوى الدولية والتى شهدنا بعض ملامحها داخل مجلس الأمن الدولى ، فأن مثل هذا القرار يحتاج دعما دوليا من الاطراف المعنية بهذه الأزمة والتى بلغت رؤياتها حول طرق الحل حدا قريبا من تصادمات ايام الحرب الباردة ، ويحتاج دعما عربيا من الاطراف المؤازرة للمعارضات السورية والأخرى المؤملة فى قدرة النظام على الاصلاح ، بتوفير الضمانات اللازمة للنظام القائم وللمعارضات بأن يكون قرار العفو هو اول خيط لفجر جديد تتسع فيه سوريا لجميع ابنائها بكامل حقوقهم وحرياتهم .

                    فبدون هذا الدعم لن يستطيع النظام بتأريخه المعلوم ان يبلغ بالعفو حدود الاجر والاصلاح ، وسنكون على موعد مع بشاعات مؤلمة الله وحده يعلم منتهاها .

الأربعاء، 11 يناير 2012

شبيحة للأبد


                  ليس غريبا على السوريين المؤيدين للنظام ان ينزلوا للشوارع والساحات تعبيرا عن مؤآزرتهم للرئيس بشار الاسد وتجاوبا مع ما جاء بخطابه الذى القاه يوم امس ، وليس غريبا على الرئيس بشار الاسد ان ينزل اليهم ويخاطبهم ، فهذه سمة الانظمة الشمولية تجسّدت فى ساحة الامويين فى اكثر صورها هيمنة واستبدادا ، ولكن المشهد فى هذا اليوم تحديدا وفى ذاك المكان ، كان تعبيرا فاضحا لجرم المخططين النافذين داخل النظام السورى .
                   فقد كان من الغرابة بمكان ان تنعم تلك الحشود التى امتلأت بها ساحة الامويين طوال ساعات الحشد بأمان وتأمين مذهل، تمّ فى ظل ازمة دامية وقاتلة قاربت العام من عمرها ، دون ان تشهد اى اختراق من المسلحين او (القاعدة) او عناصر الجيش المنشق ، والتى طالما تحجج النظام بهم فى تبرير افراطه فى استخدام القوة تجاه المتظاهرين المسالمين العزّل ، فأذا كان النظام يمتلك هذه القدرة الفائقة فى بسط الأمن على مثل هذه الحشود ، فما الذى منعه من توفيره للمظاهرات السلمية التى خرجت منذ بدء الانتفاضة بدلا من عمليات القتل الممنهج التى حصدت آلاف السوريين من الأبرياء المسالمين ومن غيرهم من الذين استعدتهم عمليات القتل وتماهوا مع النظام فى الفعل ؟

                   وكان من الغرابة اكثر ان يتصدر مشهد ساحة الامويين ، هتاف (شبيحة للأبد) فى اعقاب خطاب عدّد فيه الرئيس بشار الأسد خطواته المنجزة فى اتجاه الأصلاح ، فما مغزى هذا الهتاف المتصادم بشدة مع التوجه الاصلاحى ؟ اخشى ان يكون المخططون داخل النظام السورى قد استهلوا بهذا الحشد تآمرا جديدا موجها تجاه الرئيس بشار من جهة وتجاه قوى الثورة السورية من جهة ثانية ، فموقف الرئيس بشار مع من يمثلهم داخل النظام السورى من الجرائم التى حدثت بسوريا ، ما زال بعيدا عن قوائم الاتهام ، وهو امر يفرز بوضوح الضالعين والوالغين فى دماء الشعب السورى ، والزج بالرئيس بشار او توريطه فى مجرى جرائمهم ولو بالتحريض او المناصرة يعنى قفل الباب نهائيا امام فرص الاصلاح او فرص الحل التى تسعى لها عدة اطراف بما فى ذلك الجامعة العربية ، وتبعا لذلك يستعدون لبدء حملة ثانية اشدّ ضراوة وبطشا على الشعب السورى ، واضعين فى اعتبارهم مساندة الزوج المسيار الذى اتخذ من (طرطوس) اجمل عروس للروس ، لتصبح صورة سوريا : اسد ودب ومياه دافئة .

                   ومن الغرابة ايضا ان تنشغل المعارضة السورية بترحيل الأزمة الى مجلس الامن رغم مواجهتها فى السابق بالفيتو الصينى والروسى ، وتصر على مسعاها هذا رغم تأكدها من خيبة نتائجه ، فهذا المسعى يضعها فى صف واحد مع المخططين النافذين داخل النظام السورى ، فكلاهما يتكىء على خارج لتمرير او تنزيل مشاريعه على الشعب السورى ، وهما بذلك يساهمان بقوة فى انقسام الشعب السورى والارض السورية .

                   ان اسوأ ما تواجهه سوريا فى هذا المنعطف العاصف فى تأريخها ، ابتلاؤها بسياسيين امتلأت نفوسهم بالخيلاء ويمسكون بمفاصل السلطة والمعارضة، ويظنون آثمين بأن لهم القدرة على الخروج من هذه الأزمة منتصرين ، وبلغوا من تعنتهم وعنادهم وتعصبهم لآرائهم حدا يستوجب من شرفاء الشعب السورى سواء اكانوا ضمن مؤسسات الدولة او فى المجتمع بكل مكوناته اتخاذ خطوة عاجلة لأنقاذ سوريا والسوريين من هذا المنعطف الخطر فى تأريخها ، او الاستعداد لواقع جديد لن تبقى فيه جغرافية سوريا ولا سكانها على حالها الذى عرفناه .

الجمعة، 6 يناير 2012

دولة الجوهر ودولة الخلافة


                   أثار رأى المرشد العام للأخوان المسلمين بمصر حول اقتراب الجماعة من تحقيق خلافة اسلامية ، الكثير من الجدل والمخاوف فى اوساط النخب السياسية والدينية والفكرية ، ليس فى مصر فحسب وانما على امتداد العالم العربى والاسلامى الذى لا يخلو بلد فيه من فرع لهذا التنظيم الذى اتخذ بعدا عالميا ، وجمع بين صفوفه صفوة من مختلف فئات المجتمعات العربية والاسلامية ، ونجح فى توفير مصادر تمويل مبهرة ، وبدا فى واجهة العالم العربى والاسلامى ، القوة الأفضل تنظيما وتماسكا ، والأكثر اثارة للمخاوف لدى الانظمة الحاكمة والقوى السياسية المنافسة وقطاعات مقدرة داخل المجتمعات تخشى من مشاريع هذه الجماعة ان تؤثر على نمط حياتها الذى الفته عقودا طويلة ، فضلا عما عانته من مشاريع سابقة ضيّقت على حريّاتها وحقوقها ، فكان لابد لرأى مرشد الاخوان المسلمين فى مصر ان يثير من الجدل والمخاوف الكثير خاصة مع مظاهر الانبعاث الاسلامى السياسى التى طغت على فضاءات العالم العربى والاسلامى خلال السنوات الفائتة وصعود بعضها الى السلطة فى اكثر من بلد وتناغمها المعلن مع هذا المشروع - دولة الخلافة- بكل محموله التأريخى المعلوم .

                  ومشروع دولة الخلافة كمشروع وحدوى تأريخى وليس دينى ، يقوم على نسق الاتحاد الاوروبى او الفيدرالية الامريكية او على نسق تجارب اخرى سبقتنا عليها شعوب الارض كما صححت بعض قيادات الجماعة فكرة المرشد ، لا يخيف احدا بل يبدو مشروعا جاذبا ومطلوبا بشدة ، ولكن الصبغة الدينية التى تضفيه عليه قيادة الاخوان المسلمين والتى تبدو واضحة سواء من خلال رأى المرشد العام للجماعة فى مصر او من خلال امانى واشواق منتسبيها على امتداد العالم ، ومن خلال جماعات اخرى مشغوفة بدولة الخلافة فى اكثر صورها اشراقا على عهد الراشدين ، لن تصمد معها فكرة التصحيح التى قالت بها بعض قيادات الجماعة فى مصر ، فقيام دولة جوهرية ذات معالم اسلامية واضحة جاذبة لبقية الدول ، هى اهم شروط قيام هذا المشروع ، وهنا تكمن المعضلة الكبرى ، لأن المشروع ستتم صياغته وفقا لفكر الاخوان المسلمين وسيأتى فى مجمله اقصائيا للآخر الاسلامى .

                  فى الفصل السادس من كتاب ( صراع الحضارات ) لصمويل هنتجتون الطبعة الاولى 2006  - دار الامل للنشر والتوزيع جاء فى صفحة 169 ما يلى :
( ان السياسات العالمية بعد ان حفزتها حركة التعصير، يجرى اعادة تركيبها الآن لتكون منسجمة مع الخطوط الثقافية . فتتقرب الشعوب والدول ذات الثقافات المتشابهة لتجتمع معا . بينما تتباعد الشعوب والدول ذات الثقافات المختلفة فتفترق . فالتكتلات التى حددتها العلاقات بالايدلوجية وبالقوة العظمى تنهار فتخلى السبيل لقيام تكتلات تحددها الثقافة والحضارة . ويجرى اعادة رسم الحدود السياسية على نحو يزداد يوما بعد يوم لتتلاءم مع الحدود الثقافية : العرقية والدينية والحضاراتية . وتحل التجمعات الثقافية الآن محل كتل الحرب الباردة ، وتصير خطوط الصدع بين الحضارات اكثر فأكثر هى الخطوط المحورية للصراع فى السياسات العالمية . )

                    كان الاستشهاد ( بهنتجتون ) ضروريا لأن طرحه الوارد بمؤلفه (صراع الحضارات) يشهد يوما بعد الآخر تطبيقا عمليا على ارض الواقع خاصة فيما يتعلق بأعادة رسم الحدود السياسية على نحو يزداد يوما بعد يوم ، ولكن الملاحظة البارزة فى هذا الطرح تناوله للأسلام فى اطار رؤى حركات الاسلام السياسي بالقدر الذى يبدو فيه اقرب الى دعاية محفزة لهذه الحركات لملء الفراغ القائم نتيجة لغياب نظام عربى اسلامى ، فأستشهاده بالدكتور حسن الترابى زعيم الحركة الاسلامية فى السودان فى اكثر من موضع فيه دلالة واضحة لميل قوى لأفكاره ينحى منحى التحريض له للمضى قدما فى مشروعه حتى وان كان متصادما مع واقع معقد ، ومع احترامى للدكتور الترابى ، الا ان الظاهرة البارزة ليس فى السودان وحسب وانما فى جميع انحاء الوطن العربى والاسلامى ، انسياق حركات الاسلام السياسى وراء هذا الطرح بقناعة تامة ، كانت حصيلتها فى السودان ، انفصال جنوب السودان لأختلافاته الثقافية : العرقية والدينية والذى صادف ايضا هوى واستجابة مذهلة لدى الجنوبيين بالقدر الذى بلغت فيه نسبة المؤيدين للوحدة فى استفتاء نزيه وشفاف اقلّ من 2% كأنما اعادة رسم الحدود السياسية مشروعا كلّفت به هذه الحركات ، وما يهمنى هنا ،ان الاخوان المسلمين فى مصر امام محك اشدّ خطورة من ذلك الذى واجهه رصفاؤهم فى السودان ، فالمضى قدما فى مشروع دولة الجوهر سيقود بالضرورة الى خروج الاقباط من هذه الدولة ، خاصة فى ظل الهجمات التى يتعرضون لها بين الحين والحين من متطرفين اسلاميين ، ولكن وبحكم وجودهم التاريخى السابق للأسلام ، سيكون خروجهم بأرض مصرية ، يعنى خريطة جديدة لمصر ، فهل يمتلك الاخوان المسلمون فى مصر القدرة على الخوض فى هذا المشروع بتبعاته الثقيلة هذه ؟

الثلاثاء، 3 يناير 2012

القدال : بيّنات زائفة


                   د. محمد سعيد القدال اكاديمى معروف ، عمل محاضرا بالجامعات السودانية والعربية ، وهو باحث فى التاريخ ومؤرخ له عدة مؤلفات فى تأريخ السودان الحديث ، وهذا الوصف يبدو كافيا بأن يضفى على اطروحاته التى تناولت احداثا ووقائعا وشخصيات معيّنة فى تأريخنا ، سمة علمية هدفها البحث بتجرد عن الحقائق الغائبة عن تلك الاحداث والوقائع والشخصيات ،

                   فى مؤلفه ( تأريخ السودان الحديث 1820 - 1955 ) وفى معرض حديثه عن الخلافات التى نشبت داخل جمعية الاتحاد السودانى السرية قال ص 311 ( واتخذ الخلاف اشكال ومظاهر مختلفة ، وبينما كان ذلك الخلاف محتدما ، تناهى الى اعضاء الجمعية ان المخابرات اخترقت صفوفها فكانت تلك الضربة القاضية التى ادت الى حلها ، ويقال ان سليمان كشة هو الذى افشى اسرارها مما دفع الشاعر توفيق صالح جبريل الى هجائه قائلا :-
                      
                               سليمان كان بديع الزمان    معانيه ساحرة ساخرة
                              هوى لا يعى ببساط الرياح  وحطّم مرآته الساحرة
                              فباع الضمير بفلس(لولس)   الا اين ذمتك الطاهرة
(وولس هو مديرالمخابرات) انتهى 

                 اذن نحن هنا امام حقيقة مثيرة  قدمها باحث واكاديمى ومؤرخ شديد الاعتزاز بقدرة منهجه فى اكتشاف الحقائق الغائبة ، واستنادا عليه فقد وصل الى حقيقة ان سليمان كشة هو الذى افشى اسرار جمعية الاتحاد السودانى السرية فى عشرينات القرن العشرين لمخابرات الادارة البريطانية التى ادارت شئون السودان فى ظل الحكم الثنائى فى الفترة من 1898 وحتى تأريخ استقلاله فى 1956 ، وان افشائه لأسرار هذه الجمعية ادى الى حلها ، وبنى طرحه هذا على بيّنتين ، الاولى اقاويل مجهولة النسب والثانية ابيات شعرية منسوبة للشاعر توفيق صالح جبريل الذى اجمع الباحثون فى تأريخ تلك الفترة ، انه احد الخمسة المؤسسين لجمعية الاتحاد السودانى السرية ومن بينهم سليمان كشة .

                ولمناقشة هذا الطرح يصطدم المرء فى اوّله بأسئلة محيّرة ابرزها ، كيف تسنى له ان يأخذ بأقاويل مجهولة النسب كحقيقة مسلم بها ويبنى عليها اتهاما شنيعا لرجل ظلّ محل ثقة ومصدرا اساسيا لباحثين كبار امثال البروفيسور محمد عمر بشير والدكتور جعفر محمد على بخيت والبروفيسور احمد ابراهيم دياب والباحثة اليابانية د. يوشيكو كوريتا بخلفيتها الماركسية وغيرهم ممن تناولوا تاريخ تلك الفترة ؟ ما الذى منعه وهو الباحث فى التاريخ ان يخضع هذه الاقاويل لمطارق بحث صارمة بما توفر له من مراجع بحكم موقعه الاكاديمى ليجلى مصادرها ومدى ما تتحلى به من مصداقية ثم مقاربة ما جاءت به مع وقائع واحداث تلك الفترة ونشاط سليمان كشة داخلها للوصول الى صحة تقاريرها من عدمه ، بأختصار ان يجعل منها موضوعا للبحث ، هذا فيما يختص بالبيّنة الاولى .

                اما البينة الثانية ، فهى ابيات الشعر المنسوبة لتوفيق صالح جبريل والواردة بديوانه (افق وشفق) والذى قامت دار الوثائق المركزية بتحقيقه ونشره ، والابيات ضمن قصيدة بعنوان (كش ملك) وردت بالديوان ص 86 كما يلى :-

                               سليمان كان بديع الزمان      معانيه ساحرة ساخرة
                  هوى لا يعى ببساط الرياح    وحطّم مرآته الساحرة
                 ترامت به عاصفات الشجون   وجافته دنياه  والآخرة
                 رتعنا معا فى ازدهار الشباب   وفلك الامانى بنا ماخرة
                 ففارقنا فى ضلال بعيد          وسارت سفينتنا زاخرة
                 بمن كانوا يبتغون الحياة        ونالوا هديتها الفاخرة
                 فباع الضمير بفلس(لولس)    الا اين ذمتك الطاهرة
                 لجأنا اى الله لما بغى          وقتنا عنايته الساهرة
                 معان لها لمعان ماضى        تلألىء آياته الباهرة
                                25\4\1955
هامش(1) للقطعة ثلاث نسخ خطية ورد فى نسخة منها قول الشاعر : من نافذة الفناء .

                 وما يهمنى هنا هذه القفزة التى نقلنا بها د. محمد سعيد القدال من البيت الثانى مسقطا اربعة ابيات ليصل الى بيت القصيد (فباع الضمير بفلس (لولس) ...الخ ، فهذه القفزة تشى بنوايا متلهفة للأتهام ، يعزز هذا القول اصراره على تكرار هذا الاتهام فى مقدمته التى سطّرها للباحثة اليابانية د. يوشيكو كوريتا فى مؤلفها ( على عبد اللطيف - بحث فى مصادر الثورة السودانية ) ثم فى مقال له بجريدة الصحافة العدد (4124) بتاريخ 24 نوفمبر 2004 تحت عنوان ( ثورة 1924 بعيون يابانية ) (2\2) ، وبالرغم من اتهامه بعدم موثوقية سليمان كشة كمرجع ، الا ان الباحثة اليابانية د. يوشيكوكوريتا بنهجها الماركسى الذى يعتزبه د. محمد سعيد القدال لم تأخذ بهذا الاتهام لا فى مؤلفها المشار اليه اعلاه ولا عقب صدوره ، اذ انه وبمعرفتى المتواضعة للمنهج الماركسى من خلال الذين اعتمدوا عليه فى اطروحاتهم امثال حسين مروة ومحمد اركون وغيرهم ، يقتضى ان مثل هذا الاتهام يستوجب البحث عن حقيقته داخل هذه الابيات وداخل الاسماء التى وردت بها وداخل الديوان الذى نشرت به وعلى وجه خاص داخل مقدمته وداخل عالم سليمان كشة وعلى وجه الخصوص علاقته بتوفيق صالح جبريل .

               فقد ذكر محققا هذا الديوان ص 14 تحت عنوان جانبى (اسلوب التحقيق) ما يلى :
(وتزيدعدد مسودات القصيدة الواحدة منها فى اكثر الحالات على ثلاث نسخ والواضح فى كل المسودات والمخطوطات محاولة تصنيف الشاعر لأعماله توطئة لنشرها ، فأبياته مذيّلة فى الغالب بتوقيعه والتأريخ ومكان النظم بالاضافة الى ترقيم الابيات ) وفى هامش ص 86 حيث وردت ابيات قصيدة (كش ملك) محل الاتهام ، اشارا ان للقطعة ثلاث نسخ خطيّة ورد فى نسخة منها قول الشاعر( من نافذة الفناء) وما يبعث على الحيرة والتسآؤل هنا ، لماذا تخلى المحققان عن اسلوبهما الذى اتبعاه فى احاطة القارىء بالأسم الثلاثى للمقصود فى الابيات حينما يرد اسمه الاول فقط او لقبه كما بيّنا ذلك فى ص 16 حتى يعلم القارىء ان المقصود بسليمان فى هذه الابيات هو سليمان كشة وان المقصود بالمرآة هى مجلته (مرآة السودان) التى اصدرها فى العام 1933 ، وعما اذا كانت النسخ الثلاثة لهذه الابيات ضمن النسخ المزيلة بتوقيعه وخطه ام خلافه ؟ اذ ان هذه القصيدة تبدو لى من اخطر قصائد الديوان لما تحمله من تهمة خطيرة لا تطعن فى شخص سليمان كشة فحسب وانما فى شخص توفيق صالح جبريل ايضا ، فضلا عن تصادم معطياتها مع حقائق معلومة اهمها :-
1- ان (ولس) بعد تخرجه من جامعة اكسفورد فى العام 1904 عمل بالسودان فى الفترة من 1905 وحتى 1914 فى وظيفة ادارية بكل من مديرية كردفان والبحر الاحمر ، ثم شغل منصب مدير المخابرات بالانابة فى الفترة من 1914 وحتى 1919 ثم مديرا للمخابرات فى الفترة من 1919 وحتى 1926 تأريخ انتهاء خدمته بالسودان ( راجع د.جعفر محمد على بخيت فى الادارة البريطانية والحركةالوطنية فى السودان 1919-1939 ) .
         
             فلنبحث فى ظل هذه المعلومة عن الحقائق التى يمكن ان تربط علاقة سليمان كشة (بولس) هذا للدرجة التى تدفعه لبيع ضميره له : -
            الحقيقة الاولى ، ان سليمان كشة بعد استشهاد والده فى معركة كررى ، تكفل به خاله حاج محمود المكى سر تجار مدينة (ودمدنى) آنذاك وعمه ابو فاطمة باكاش التاجر المعروف بكل من سواكن وبورتسودان ، وانه عقب تخرجه انخرط فى العمل التجارى حتى عد فى عام 1919 من اثرياء السودان حسب ماورد فى (رواد الفكر السودانى) لمحجوب عمر باشرى وفى موسوعة البروفيسور عون الشريف قاسم (تأريخ القبائل والانساب فى السودان) ، اى انه لم يكن فى حاجة الى فلوس (ولس) ليبيع ضميره .
      
           الحقيقة الثانية ، ان سليمان كشة وتوفيق صالح جبريل من ضمن الخمسة المؤسسين لجمعية الاتحاد السودانى السرية ،ولم يسبق ان ورد من اى من هؤلاء المؤسسين ما يشير الى اتهام احدهم للآخر بافشاء اسرار الجمعية ، بل ان د. جعفر محمد على بخيت اشار فى مؤلفه (الادارة البريطانية والحركة الوطنية فى السودان 1919- 1939 ) انه تسلم من سليمان كشة وتوفيق صالح جبريل بعض الوثائق والمستندات الخاصة بجمعية الاتحادالسودانى السرية ) كما ان توفيق صالح جبريل على وجه الخصوص كان الوحيد من بينهم الذى تكاد افاداته حول تلك الفترة فى حكم الندرة ان لم يكن العدم ، ولم يسبق ان تسربت منه اى معلومات حتى فى اكثر ايام الدهليز هياما وحزنا وعزلة ، وان اقوى اسباب الغموض التى احاطت بتأريخ تلك الفترة يعزى فى تقديرى الى تكتم اعضاء هذه الجمعية لأسرارها ، فهم اشبه بمغارات سرية لا مداخل لها ولا مخارج منها .

              الحقيقة الثالثة ان مجلة (مرآة السودان) اصدرها سليمان كشة لأول مرة فى 1933 اى فى تأريخ لاحق لتأريخ نهاية خدمة (ولس) بالسودان ، وهى فى حقيقتها مجلة ناطقة بأسم الجمعية وممولة عن طريقها ،

              والحقيقة الرابعة ان توفيق صالح جبريل قال فى قصيدته المعنونة (رجاء الى اخوانى الشعراء والغاوين) والواردة بذات الديوان ص 16 ، حينما عزم جمع قصائده لأصدارها فى ديوان :

                ان ضاع شعرى (فالمبارك) مرشدى   و(نجيلة) والشاعر ابن رجائى
           لولم ينر (منير)  مبعث ضوئه                 يأتى بنور كالبريق فجائى
           واذا نسيت (فكشة) يدنى المدى          و(الازهرى) الناضر الارجاء
الى آخر القصيدة المحتشدة بأسماء عدة ، وفى الهامش بذات الصفحة ذكر المحققان تعريفا كاملا بالآسماء الواردة بين القوسين فى الابيات ، ومن ضمنهم سليمان كشة المعنى فى البيت الثالث ، فكيف يستقيم ان يأتمن الشاعر توفيق صالح جبريل على ذاكرته من يصفه ببائع الضمير لمخابرات الادارة البريطانية بالسودان ؟ ليس هذا فحسب بل ويمده بقصائده لنشرها بالمجلة ، ففى 21\11\1956 نشر له سليمان كشة بذات المجلة تحت عنوان الى الشهيد عبيد حاج الامين قصيدة منها هذه الابيات :

                    جاهدت لا مثير ما تخشى الردى     وظللت تعمل والانام هجود
                    وأرتك اكتاف الخلود مجاهدا          ما بينى وبينك يا (عبيد) بعيد
ثم ينشر له فى 11\11\1957 قصيدة (شهران سهران ) حينما كان طريحا بمستشفى الخرطوم جاء فيها :

                    طال ليلى برح الالم    وبرانى السهد والسقم
            يا رعى البر الرحيم(اخا)    تؤامين اخت بره عم
           وفتى جلّت مواهبه        مفرد فى طبعه علم
           واخلاء لطلعتهم           يتوارى الداء والسأم
           اين سمار الضحى اجفو   وندامى الكأس اين هم
           ان نأوا والداء يعبث بى   لأدنو والعفو منسجم
  وكل هذه القصائد تأتى فى تاريخ لاحق لتأريخ قصيدة (كش ملك) محل الاتهام ، فأذا كان قد فات على المحققين الانتباه لتصادم مضمونها مع كل هذه الحقائق واهملوا لسبب اولآخر الوقوف والتأنى لتمحيصها والتأكد من صحة نسبتها للشاعر خاصة وان الديوان كان قد تنقل فى رحلة ليست بالقصيرة من يد لآخرى حتى وصل الى دار الوثائق المركزية من لجنة النشر بوزارة الارشاد آنذاك ، فكيف فات على د. محمد سعيد القدال ان يقف ولو قليلا عند هذا التصادم العنيف بين مضمون قصيدة (كش ملك) وهذه الحقائق قبل ان يصدر اتهامه لسليمان كشة ، او على الأقل النظر اليها من خلال بيت الشعر القائل:

                 وهب قلت ان هذا الصبح ليل       ايعمى العالمون عن الضياء
لا شك عندى ان البّينات التى اعتمد عليها د.محمد سعيد القدال فى اتهامه لسليمان كشة بافشاء اسرار جمعية الاتحاد السودانى لمخابرات الادارة البريطانية بالسودان بيّنات زائفة ، وان تلهفه لأصدار هذا الاتهام دون تمحيص او دراسة يثير كثيرا من الأسئلة حول مصداقية اطروحاته حول تأريخ هذه الحقبة مع مثل هذا الحكم المتعجّل ليس فى حق سليمان كشة كأحد المصادر الموثوق بها فى تأريخنا فحسب وانما فى حكمه الغريب القائل بحل جمعية الاتحاد السودانى السرية بناء على افشائه اسرارها للمخابرات دون ان يقدم ما يثبت صحة ادعائه هذا ، اخشى ان يكون تأريخنا قد تعرّض فى كتابته لمثل هذه الاحكام الجائرة التى تتخذ من ابيات شعر اشبه بحجر العصفورين حين يسقط من يد صياد خائب دليلا على صدق اقاويل مغرضة ، فقصيدة (كش ملك) تبدوشبهة الدس فيها اقوى من ان تكون صادرة من شاعر رافق المتهم رحلة طويلة فى النضال من اجل التحرر .

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...