الأحد، 30 يونيو 2013

كلام فى الحلم


                     والحلم الذى اعنيه هنا ، هو ذلك الذى يغشاك وانت نائم ثم تصحو وانت على حالة من اليقين ان ما رأيته لن يخرج بأى حال من الاحوال عن كونه رسالة غامضة وغريبة من نوعها ، كتلك التى تقدمها قصيدة او رواية او فيلما سينمائيا ، قد تفهمها سريعا وقد تحتاج الى مساعدة لفهمها من آخرين يملكون مناهجا قادرة على الغوص داخل بنية النص او الحبكة ليستلوا منها الرسالة الموجهة اليك ، ولكن مع الحلم فأن طلب المساعدة قد يضعك محل تحليل نفسى يهز حتى قناعاتك الراسخة فى رؤيتك للحياة والعالم من حولك ، وقد يضعك محل تلاعب من منجمين يرتفعون بك الى سابع سماء ثم يهبطون بك الى سابع ارض ولا تجد امامك  فى خاتمة الرحلة سوى مهرج يجيد اللعب بالكلمات والاساطير ، وقد .. وقد .. ، ولكن لا واحدة من هذه المساعدات تقر بصحة يقينك ان ما رأيته فى الحلم لم يكن سوى رسالة جاءت من الخارج ، من خارج نفسك ومن خارج محيطك الحيوى الذى تتفاعل معه يوميا ، بأختصار ، رسالة جاءتك من عالم آخر ، وان الحلم فى هذا السياق ليس مجرد ساعى بريد او مرسال وانما آلية تواصل ايضا .

                       فرعون يوسف كانت رسالته فيلما مرعبا ، وقسطنطين كانت رسالته من كلمتين ورمز (افتح بهذا) وآلاف بل ملايين الرسائل المحكية فى حياة الشعوب لم تشغل فى التفكير سوى مصدر الرسالة وموضوعها ، لم يلتفت احد الى احتمال ان يكون الحلم آلية تواصل واتصال لم تفلح مداركنا فى الوصول الى تقنيتها بعد ، آلية تربطنا مع عالم آخر ومع عالمنا هذا ايضا .

                        فى الحلم رأيت حجرة عالية الجدران بها حصيرة على الارض عليها لحاف تجلس عليه أمى ، ولم تزد عن قول (اخرجنى من هذا المكان الحار) ثم طار الحلم وطار النوم وطار عقلى فى عش التفاسير ، يومها رأى الناس الهم والغم والحيرة تسير فى الطرقات فتجنبوها ، صديق من الذين اتسعت نفسهم لفجورها وتقواها ضحك علىّ وقال (تصدق بطعام) ، كل المال الذى معى وفّر لى اثنين كيلو لحمة ضأن وكيلو ونصف ارز واربعين رغيفة ، ثم حملت وعائين احدهما ملىء بشوربة ولحم الضأن والآخر بأرز مفلفل واربعة اكياس بلاستيك بكل منهم عشرة رغيفات ومضيت بهم الى اقرب (خلوة) كنت ارى صبيانها على الطريق بوجوه نائرة واجساد تشتكى قلة الغذاء ، بعدها سمعت جبال الهم والغم والحيرة تتكسّر داخلى ثم تتناثر هباءا فى الفضاء ، ونمت ليلتها نوم قرير العين هانيها .

                      وانا فى هناءة نومى ، عرفتها من على البعد ترفل فى بياض فراديسى ، كيف لا اعرفها وهى المعرفة الاولى والحب الاول واحفظ لها ملايين المشاهد والتفاصيل ، حكى عالم سودانى انه لا يزال يتذكر نفسه وهو يرضع فى ثدى امه ، وصدّقته ، فمن هيأت لنا مهدا فى احشائها من الماء حملتنا عليه وهنا على وهن ، ومدّت لنا حبلا سرّيا يغذينا بأفضل ما تشتهيه من طعام وحبلا من مودة لم ينقطع ابدا، لن تنسى ولن تنسى تفاصيل حياتنا معها ، سأعرفها حتى اذا احتشدت عليها مواطن الظلمة ، فستلوح لى هناك ملاكا ملفحا بأبيض فراديسى كما لاحت لى فى هذا الحلم جميلة كما عرفتها وأكثر جمالا مما عرفتها ، لم تقل شيئا ولم تزد عن طلّة بهيّة تسر الناظرين و تركتنى متلفعا بالرضا .

                     لا ابحث عن سر هذه الصدقة هنا كمفتاح لشيفرة رسالة آلحلم، ولا ابحث فى موضوع الرسالة ، فالجوعى مثلما يحيطون موتانا الاعزاء بالحر يحيطوننا نحن الاحياء بالحر والألم والمرارات والغبن ، ولكنى ابحث فى سر الحلم .. سرهذه الآلية
التى تصلنى بأعزائى فى عالم الاموات واعزائى البعيدين فى عالم الاحياء ، يقينى انّ الانسان لا يزال منطويا على خصائص لم يدرك بعد كنهها ، وان ثمة وظائف معطّلة بجسده وروحه قد تكون مفاتيح تشغيلها اقرب الينا مما نتصور .

                  

                      

                        

السبت، 29 يونيو 2013

قلق على مصر


                      الذين ابدوا قلقهم على مصر مما يجرى فيها محقون لأبعد حد فى ذلك بعد ان بلغت الازمة عتبات الدم والروح ، ولكن ابداء القلق وحده لا يحل الازمة فى مصر ، والذين يتحدثون عن شرعية صندوق الانتخابات وشرعية الرئيس مرسى محقون فى ذلك اخلاقيا وقانونيا ولكنها شرعية غير قادرة على حل الازمة فى مصر بعد ان قادت سياساتها خلال عام الى انفراط عقد صانعى هذه الشرعية وابتعادهم عنها ، والذين ينادون بالحوار فى هذا الجو الخانق الذى يخيّم على مصر الآن يؤذنون فى مالطا بعد ان اصبح الحوار طوال عام جحرا رئاسيا مراوغا للدغ المؤمنين بالديمقراطية وبشرعية الصندوق اكثر من مرة ، لا شىء فى تقديرى يحل الازمة القائمة فى مصر سوى الغاء عام كامل من عمر الحكم القائم فيها والعودة الى تلك اللحظة التى تم فيها اعلان فوز محمد مرسى برئاسة مصر ، وهى لحظة تتشكل الان فى ارض مصر بسرعة مذهلة وتدعو الى الاعجاب بهذا الشعب الثورى الذى استطاع بأكثر الطرق ابداعا فى سلميتها ان يستعيد حقوق ثورته و يجبر قواه السياسية ومؤسساته السيادية على الاصطفاف خلفه .

                     غدا فى الثلاثين من يونيو حين يكتمل قمر تلك اللحظة الفريدة من نوعها فى تأريخ مصر بدرا ، ليس امام الاخوان المسلمين وحلفائهم سوى التجرد من احلام التمكين الطفولية وثأرات البداوة التالدة والتقدم الى منصة ميدان التحرير معتزرين عن انكفائهم طوال عام فى كهوف الماضى القريب والبعيد ، ومبسطين املا جديدا فى استرداد الكتلة التى منحت مرشحهم شرعية لم يحلموا بها حتى فى ابعد شطحاتهم حلما ، وان يتخلوا كثيرا عن خيلائهم الذى طالما استدرجهم الى مناحى الزيف والغرور القاتل ويضعوا انفسهم بين صفوف الشعب المصرى مكونا ضمن مكوناته الراغبة فى الخروج بمصر من ازماتها التى تجمعّت فى سمائها عواصفا منذرة بأخطار لا تحصى .

                        عدا ذلك فأن ما يلوح فى افق مصر المزدحم بالعواصف والانواء سيضعكم فى مواجهة مع شعب غاضب ومتخم بالمعاناة ، وفى مواجهة مع مؤسسات القوة كالجيش والشرطة والامن المعبأة تأريخيا ضدكم ، بأختصار سيضعكم فى مواجهة دولة وشعب ، ولا تعوّلوا كثيرا على دعاوى الفوضى او الفوضى الخلاّقة فعدواها مثل الفيروس القاتل يخشاها القريب والبعيد ، ولا تعوّلوا كثيرا على سند اقليمى او دولى ، فالعالم قد شبع واكتفى من ازمات المنطقة القائمة ، لا كبرياء ولا تكابر فى حق الوطن ، تواضعوا للوطن يرفعكم الله .

الأربعاء، 26 يونيو 2013

عنقريب الجنازة


                    يرى بعض الاقتصاديين والسياسيين ان سياسة رفع الدعم عن السلع الاستراتيجة ، سياسة ضرورية لتحرير الاقتصاد من اكبر الاثقال التى تعطّل نموه ، ولهم اطروحات منطقية فى هذا الشأن رغم انها تتصادم بقوة مع تأريخ طويل شهد عزوف وزراء المالية المتعاقبين على وزارة المالية والاقتصاد عن اللجوء لهذه السياسة بالرغم من محدودية موارد البلاد طوال تلك الحقب وتواضع عطائها ، وظلّ هذا العزوف اختبارا دقيقا لقدراتهم وكفآءتهم التى اثبتوا من خلالها قيادتهم لدفة اقتصاد البلاد بجدارة رغما عن تحديات شروط صندوق النقد والبنك الدولى ومؤسسات التمويل العالمية الاخرى ، ولا شك عندى ان تعاطى اولئك النفر من الوزراء مع الازمات الاقتصادية التى شهدتها البلاد خلال العقود الفائتة وتعاطيهم مع ضغوطات شروط مؤسسات التمويل العالمية ، قد خلّف ارثا مفيدا فى كيفية مواجهة تحديات الازمة الاقتصادية بمجمل اطرافها دون الحاجة الى تحميل المواطن عبء تبعات حلولها فى تلك الوصفة العجوز المنبوذة الواردة فى سياسة رفع الدعم عن السلع الاستراتيجية .

                       ان خيار رفع الدعم فى تقديرى هو الخيار الذى يلجأ اليه الوزير عندما تصل قدراته وافكاره فى مواجهة الازمة الاقتصادية الى نقطة الجمود ولم يبق له من مخرج سوى التعويل على تلك الوصفة العجوز المنبوذة ، وان وصول الوزير الى هذه النقطة يعنى بجلاء تام انتفاء الحاجة اليه كوزير يتطلع اليه مواطنوه كى يدير اقتصادهم وفقا لبرنامج يجعل حياتهم فى حدها الادنى حياة كريمة .

                       رهن اقتصاد البلاد لوصفات اجنبية كل الذى يهمها ان تدور عجلة الاقتصاد السودانى فى مضمار الاقتصاد العالمى حتى لو دهست هذه العجلة فى طريقها غالبية الشعب وتركته اشلاءا على الطرقات ، يعنى قصورا مريعا فى العقل الاقتصادى الذى يخطط لنقلة اقتصادية كبيرة كهذه ويهمل اهم عناصرها وهو الانسان السودانى ، اذ تبدو هذه النقلة فى هذا التوقيت هجمة شرسة عليه تأتى وهو فى اضعف حالاته التى تطوقها الازمات من كل جانب .

                          (الله يرفع عنقريبك) هذا الدعاء الغريب الشاذ ظل يتحمله رجل الخط فى مباريات كرة القدم بصبر جميل كلما رفع الراية لوقف هجمة رآها مسروقة ، وابتداءا من اول يوليو - موعد تطبيق هذه السياسة حسبما نشر- ترقبوا هذا الدعاء نغمة جديدة متداولة فى الاسواق والمحال التجارية والصيدليات والمواصلات ايضا ، مع امنياتى للسيد وزير المالية بحياة مديدة يقضيها معنا مواطنا عاديا يشاركنا عناء هذه السياسة .

الجمعة، 14 يونيو 2013

قصة احلامك معايا


                        اروقة وقاعات المحاكم الشرعية صلدة وفظة ، تملأك بالصدمة وبفكرة راسخة تقول انها لا تعدو ان تكون فى افضل الحالات سوى منزلا رسميا لخيبات العاشقين ،  هنا يستحيل الحب زان يرجمه بلا رحمة عاشقان كانا الى وقت قريب اغنيته العذبة ، هنا تحترق ورقته الاخيرة ، وثيقة اصبحت فى نظرهما لا قيمة لها سوى انها تتيح لعاشقين سابقا ان يناما فى سرير واحد دون ان يحتج عليهما احد ، ذات الوثيقة التى توسلا لها يوما بالشعر والاغنيات وبرسائل تتدلى كل مساء من نجمات بعيدة ، ذات الوثيقة التى اقاما لها افراحا ومدا من اجلها موائدا ومشروبات من كل لون ، وبعدها اكتشفا فخا شديد القسوة ، اكتشفا وجه الحياة الحقيقى المختبى خلفها ، اكتشفا ان الحياة معنية بالحب وليس بأحلامه ، انها مثل الحكومات تريده ان يشيع بين الناس دون ان تمد له يدا اذا احتاج ان يبنى عشا .

                         شغلت تكاليف الزواج كل تفكيره فلم يستطع ان يبصر ما بعده رغم نظره العقلانى الذى لم يخب يوما معه ، وبوصفه محاميا بارعا تبدأ لافتة مكتبه بأختصاصه فى القضايا الجنائية وتنتهى بآخر ما ابتدعته المحليات من قضايا لم تغفل حتى مخالفات رسوم النفايات ، فقد كان يعلم جيدا ما يعنيه الوقوف امام المحاكم الشرعية على قلبه اولا وعلى صورته ثانيا ، فاكتشف ان السكن قضية كبرى ، ولسوء حظه كان المتاح وفقا لقدراته احد بيوت امدرمان القديمة من ذلك النوع الذى يعرّفه الناس بأنه (بيت مسكون) ، شبكات العناكب تتدلى على الابواب والشبابيك مثل ستائر سيدار و(السكن) على الجدران يقول لك كانت هنا (دوكة) ، شقوق وجحور تشى بموطن مزدحم بالزواحف والحشرات ، نظرت المسكينة الى هذا المشهد المرعب ثم تفرّست فى وجهه للتأكد عما اذا كان فى كامل قواه العقلية ، فأكتشفت ان زوجها من ذلك النوع الذى صدّق كلام الاغانى ، وتأكد لها انه اذا عاش معها فى مكب للنفايات فسيظل اكثر الناس سعادة ، ولم تزد عن تسآؤل حزين ( دا بيت زوجية ولا بيت طاعة ) فهم تماما ما يعنيه هذا التسآؤل بتهديده المبطن ، وكعادة الكثيرين انحشرا فى بيت الوالدين فى آخر المطاف ، فيا لشقاء الوالدين فى هذا الوطن .

                        ثورات الشباب العربى فى تقديرى احد بواعثها (قصة احلامك معايا) ، لأنها قصة تعنى الحاجة الى الوظيفة والى السكن والى اسرة جديدة تريد ان تسهم فى الحياة برؤية جديدة تغير شيئا من وجهها الكالح ، لكن المصيبة انها تريد كل ذلك فى ذات الاطار الاجتماعى القائم ، تثور لتغيير الاوضاع السياسية ، وتثور لتغيير الاوضاع الاقتصادية وذلك حتى تتمكن من الايفاء بمتطلبات التقاليد والعادات الاجتماعية ، ولكنها لا تثور يوما لتغيير هذه التقاليد والعادات التى تقف عقبة كأداء امام احلامهم ، وتقف عقبة كأداء حتى امام ارثنا الدينى الذى اعتبر الرضا بالدين وحسن الخلق شرطا كافيا لأتمام الزواج ، واكتفى بآية من القران مهرا ليصب جهدهما ومالهما فى تأسيس حياة زوجية مقبولة .

                         الحكومات معنية بأحلام من يحكمون ، ومن يحكمون حريصون على ابقاء الاطر والعادات والتقاليد الاجتماعية كما هى عليه طالما انها تخدم اهدافهم ومصالحهم بكفاءة وامتياز ، اما احلام العاشقين .. لا مكان لأحلام العاشقين فى هذه البلاد ، العشق هنا فخ ،  اما قادك لأن تكون جزءا من احلام من يحكمون واما قادك للهجرة والاغتراب واما قادك للثورة ، وحتى هذه الخيارات الثلاث صارت فى راهننا المأزوم اكثر ضيقا من ذى قبل ، يبدو اننا على اعتاب ثورة اجتماعية او ربما فوضى اجتماعية لا قداسة فيها لتقاليد او عادات او اعراف ، لا قداسة فيها لشىء ، هكذا تقول يومية الحوادث الرسمية  فى الجانب المعلن منها وتقوله يومية الحوادث الاهلية المتداولة سرا فى اضيق المجالس .

الجمعة، 7 يونيو 2013

لوزير ماليتنا والنواب

              
                      اتخذ عدد مقدر من السادة النواب موقفا متحمسا ومؤيدا ومساندا لسياسة السيد وزير المالية الرامية لرفع الدعم عن سلع استراتيجية على رأسها الجازولين ، ووصلت بهم الحماسة حد التصفيق الحاد لتوجهه هذا ومطالبته بأستعجال الاجراء ، وبرغم دهشتى لأتكاء سياسة السيد الوزير فى هذه الخطوة على التهريب كأحد اسباب رفع الدعم فبرغم دهشتى من هذه الاتكاءة الجريئة التى اساءت  بوعى او بغير وعى الى قوات عسكرية وامنية رقابية معنية بسد الثغرات التى ينفذ منها التهريب ، واساءت الى ادارات فى المركز والولايات من ضمن مهامها ضبط احتياجات البلاد من هذه السلعة وضمان وصولها الى محتاجيها ، فبرغم هذه الدهشة الا ان دهشتى كانت اكبر واعجزتنى عن تفسير موقف النواب المتحمسين لهذه السياسة الاقتصادية بكل تأثيراتها الكبيرة على حياة المواطنين ؟ لا يهم فربما لم يكن لهؤلاء المواطنين فضل بوصول اولئك النواب لمقاعد المجلس ، اما موقف السيد الوزير فليس لدى ما سأقوله سوى ان انقل لسيادته وللسادة النواب ما قاله احد منظرى النظام العالمى الجديد فى هذا الشأن واعنى به ، صمويل هنتجتون فى مؤلفه صراع الحضارات وبناء النظام الدولى ص 256 طبعة دار الامل للنشر والتوزيع الطبعة الاولى 2006 :

                         ( ويحاول الغرب الآن وسيظل يحاول دعم مكانته العظيمة والدفاع عن مصالحه بوساطة تعريف هذه المصالح بأنها مصالح " المجتمع العالمى" ولقد اصبحت تلك العبارة اسما مركبا يلطف (ويحل محل عبارة "العالم الحر") لأضفاء الشرعية العالمية على الافعال التى تعكس مصالح الولايات المتحدة والقوى الغربية الاخرى ، وعلى سبيل المثال ، يحاول الغرب الآن دمج اقتصاديات المجتمعات اللاغربية فى نظام اقتصادى واحد يهيمن هو عليه ، فبوساطة صندوق النقد الدولى ومؤسسات اقتصادية دولية اخرى ، يعمل الغرب على دعم مصالحه الاقتصادية ويفرض على الامم الاخرى السياسات الاقتصادية التى يراها مناسبة . ولكن مما لا شك فيه ان صندوق النقد الدولى لو اجرى استفتاء فى شعوب لا غربية بشأنه ، فأنه سيفوز بتأييد وزراء المال وقلة من الآخرين ولكنه سينال نسبة لا تفضله على نحو كاسح من كل الآخرين تقريبا ، الذين من شأنهم ان يتفق رأيهم مع وصف جورجى آربتوف لمسئولى صندوق النقد الدولى حين قال عنهم انهم "البلاشفة الجدد الذين يهوون مصادرة اموال الناس ، ويفرضون عليهم احكاما غير ديمقراطية وقوانين دخيلة على السلوك الاقتصادى والسياسى تخنق الحرية الاقتصادية ") .

                        ان فهمى البسيط والمتواضع جدا لوصفات صندوق النقد الدولى بماركاتها المسجلة الخاصة برفع الدعم وتخفيض ميزانيات الفصل الاول والتى اعتادت فرضها على دول العالم الثالث مقابل قروض يظل ثقلها على كاهل الاجيال القادمة اشد وطأة من ثقل الدعم الذى تضطلع به الدولة نحو السلع الاستراتيجية ومتطلبات الفصل الاول ، انها بأختصار اكبر منتج للفقر والفقراء حول العالم .

                         حسنا ، تريدون تحرير الاقتصاد وتحرير السوق ، فالحرية كل لا يتجزأ ، حرروا السياسة من كوابحها وحرروا المجتمع من قيوده ، والا فأن الاستجابة لهذه الوصفة والتباهى بجدواها تذكرنى بقول الشاعر اللبنانى حسن العبد الله ( واطلقت حريتى وذكائى ككلبين بين الشوارع والابنية ، فعادا برأس من المال يشبه رأس امرىء قروى يجوب المدينة بحثا عن الخبز والماء والكهرباء ) .

                     

الأربعاء، 5 يونيو 2013

من الجنينة سيرا على الاقدام


                       حكى لى جارى من احدى قبائل دارفور، انه حضر من الجنينة اقصى مدينة فى غرب السودان وحتى الخرطوم سيرا على الاقدام عام 1919  ليلتحق بقوة دفاع السودان ، وروى تفاصيلا طويلة عن مشاركته فى الحرب العالمية الثانية  لم اتوقف عندها كثيرا فقد اسرنى هذا الامان الممتد آلاف الكيلومترات من اقصى مدينة على الحدود الغربية والى عاصمة البلاد ، امان غطى جبالا ووديانا وادغالا وصحارى وغطى جارى حتى لحظة التحاقه بقوة دفاع السودان آنذاك ، الظل الحكومى فى ذلك الزمان كان قصيرا جدا بحيث لا يستطيع ان يغطى 1% من هذه المسافة ، قال لى ان دليله فى هذه الرحلة الطويلة هو اول قرية وصل اليها داخل دار فور ومنها يدلك كبيرها على اقصر الطرق واول القرى فيها ويزودك بما تحتاجه من ماء وغذاء على طول الطريق ، وهكذا استمر الحال مع بقية القرى التى تزيد بعضها فى عطائها بتوفيرها مأوى ليلى ، وقائع اشبه بالأساطير حينما تنظر اليها بعين الحاضر المأزوم ، الآن لا تستطيع ان تبتعد كيلو متر واحد من اى مدينة هناك دون ان تستقبلك الذخيرة من عدة جهات ، ولا عزاء سوى ان نغنى مع سيد خليفة (كانت ايام يا وطنى .. زى الاحلام يا وطنى) .

                        وفى كادوقلى حكى لى نحات خشب سنة 1994 انه كان يأتى من منطقة تقع على حدودنا مع الكونغو ويمر بمئات القرى حتى يصل الى كادوقلى ليبيع منحوتاته الخشبية وكانت اكثرها جمالا ، عصى مزيّنة فى اسفلها بظرف رصاص الدوشكا الفارغ الذى كان يجمعه من تلك البلاد الملتهبة ، ولم يكن يخشى فى الطريق سوى الضوارى التى تكثر بتلك الانحاء وحكى مغامراته معها ذئابا ونمورا وفيلة وثعابينا ، ولم يأسرنى فيها سوى ذلك الامان الممتد من الحدود الجنوبية الى قلب جبال النوبة ، واحزننى ما آل اليه حاله بعد ان صار مقامه بها قسرا بسبب الحرب التى طالتها واستعدت بعض ابناء الجبال على ارضهم وقطعت عليه الطريق الذى الفه عقودا طويلة منذ ان كان صبيا برفقة والده .

                         هذا الامان المذهل كان غطاء السودان لأزمنة طويلة ، ينتشر على كل شبر من اراضيه سلاما وتعايشا رغدا فريدا ، لا يفرز السودانى عن الغريب ، تعدد ثقافى وعرقى ودينى لم يمنعه تأريخ قديم رغم بعض تفاصيله التى تثير الفزع والغبينة من ان يتشكل داخل المدن والاقاليم طيفا سودانيا جميلا مثل قوس قزح ، فكيف تحولّت تلك المدن والمناطق والجهات الى محاضن لحروب لا تنتهى ومصادر للمجازر ؟

                          بؤس الفكر وبؤس السياسة محفزان يتجهان عادة بجماعات هنا وهناك للنبش فى التأريخ بحثا عن ارث تأريخى للنزاع عن ارث للمجازر ، ينبشون فى العرق والدين والثقافة بحثا عن ارث محرك ولا يهم ان كان محركا داميا ومدمرا ، المهم ان يحرك مشروعا هنا ومشروعا هناك لا تفرز احدهما عن الآخر الا بمحيطه الجغرافى او العرقى او الدينى ، فكلاهما يستثير عواطف الابرياء للزج بهم فى محارق طموحات مختلة ، منفلتة ، شرهة لم تنفك تهتك فى نسيج الاوطان لترتق ذواتها الممزقة الخربة  ، هذه المشاريع مهما تزيأت بلباس الخير والحق والعدل والحرية ، فسيتحول السلاح الذى بيدها عند لحظة الاصطدام دليلا شريرا يقود حتى الابرياء الذين هم خارج دائرة الصراع الى رحى المجزرة .

                          انظر الان الى مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية وارى جنوب الوطن قد صار دولة جديدة ، وانظر الآن الى ميثاق الفجر الجديد وارى دويلات تلوح فى الافق ، وانظر الى ما سيتبقى من السودان وارى فرزا جديدا يلوح فى آفاقه لم يسلم منه حتى بيت صغير ، هل ما زال هناك امل فى ان يتجول احد فى هذا الوطن آمنا من اقصاه الى اقصاه كما فعل جارى ام سيصرخ كثيرون : اعيدوا لنا سوداننا القديم ؟

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...