الأربعاء، 5 يونيو 2013

من الجنينة سيرا على الاقدام


                       حكى لى جارى من احدى قبائل دارفور، انه حضر من الجنينة اقصى مدينة فى غرب السودان وحتى الخرطوم سيرا على الاقدام عام 1919  ليلتحق بقوة دفاع السودان ، وروى تفاصيلا طويلة عن مشاركته فى الحرب العالمية الثانية  لم اتوقف عندها كثيرا فقد اسرنى هذا الامان الممتد آلاف الكيلومترات من اقصى مدينة على الحدود الغربية والى عاصمة البلاد ، امان غطى جبالا ووديانا وادغالا وصحارى وغطى جارى حتى لحظة التحاقه بقوة دفاع السودان آنذاك ، الظل الحكومى فى ذلك الزمان كان قصيرا جدا بحيث لا يستطيع ان يغطى 1% من هذه المسافة ، قال لى ان دليله فى هذه الرحلة الطويلة هو اول قرية وصل اليها داخل دار فور ومنها يدلك كبيرها على اقصر الطرق واول القرى فيها ويزودك بما تحتاجه من ماء وغذاء على طول الطريق ، وهكذا استمر الحال مع بقية القرى التى تزيد بعضها فى عطائها بتوفيرها مأوى ليلى ، وقائع اشبه بالأساطير حينما تنظر اليها بعين الحاضر المأزوم ، الآن لا تستطيع ان تبتعد كيلو متر واحد من اى مدينة هناك دون ان تستقبلك الذخيرة من عدة جهات ، ولا عزاء سوى ان نغنى مع سيد خليفة (كانت ايام يا وطنى .. زى الاحلام يا وطنى) .

                        وفى كادوقلى حكى لى نحات خشب سنة 1994 انه كان يأتى من منطقة تقع على حدودنا مع الكونغو ويمر بمئات القرى حتى يصل الى كادوقلى ليبيع منحوتاته الخشبية وكانت اكثرها جمالا ، عصى مزيّنة فى اسفلها بظرف رصاص الدوشكا الفارغ الذى كان يجمعه من تلك البلاد الملتهبة ، ولم يكن يخشى فى الطريق سوى الضوارى التى تكثر بتلك الانحاء وحكى مغامراته معها ذئابا ونمورا وفيلة وثعابينا ، ولم يأسرنى فيها سوى ذلك الامان الممتد من الحدود الجنوبية الى قلب جبال النوبة ، واحزننى ما آل اليه حاله بعد ان صار مقامه بها قسرا بسبب الحرب التى طالتها واستعدت بعض ابناء الجبال على ارضهم وقطعت عليه الطريق الذى الفه عقودا طويلة منذ ان كان صبيا برفقة والده .

                         هذا الامان المذهل كان غطاء السودان لأزمنة طويلة ، ينتشر على كل شبر من اراضيه سلاما وتعايشا رغدا فريدا ، لا يفرز السودانى عن الغريب ، تعدد ثقافى وعرقى ودينى لم يمنعه تأريخ قديم رغم بعض تفاصيله التى تثير الفزع والغبينة من ان يتشكل داخل المدن والاقاليم طيفا سودانيا جميلا مثل قوس قزح ، فكيف تحولّت تلك المدن والمناطق والجهات الى محاضن لحروب لا تنتهى ومصادر للمجازر ؟

                          بؤس الفكر وبؤس السياسة محفزان يتجهان عادة بجماعات هنا وهناك للنبش فى التأريخ بحثا عن ارث تأريخى للنزاع عن ارث للمجازر ، ينبشون فى العرق والدين والثقافة بحثا عن ارث محرك ولا يهم ان كان محركا داميا ومدمرا ، المهم ان يحرك مشروعا هنا ومشروعا هناك لا تفرز احدهما عن الآخر الا بمحيطه الجغرافى او العرقى او الدينى ، فكلاهما يستثير عواطف الابرياء للزج بهم فى محارق طموحات مختلة ، منفلتة ، شرهة لم تنفك تهتك فى نسيج الاوطان لترتق ذواتها الممزقة الخربة  ، هذه المشاريع مهما تزيأت بلباس الخير والحق والعدل والحرية ، فسيتحول السلاح الذى بيدها عند لحظة الاصطدام دليلا شريرا يقود حتى الابرياء الذين هم خارج دائرة الصراع الى رحى المجزرة .

                          انظر الان الى مؤتمر اسمرا للقضايا المصيرية وارى جنوب الوطن قد صار دولة جديدة ، وانظر الآن الى ميثاق الفجر الجديد وارى دويلات تلوح فى الافق ، وانظر الى ما سيتبقى من السودان وارى فرزا جديدا يلوح فى آفاقه لم يسلم منه حتى بيت صغير ، هل ما زال هناك امل فى ان يتجول احد فى هذا الوطن آمنا من اقصاه الى اقصاه كما فعل جارى ام سيصرخ كثيرون : اعيدوا لنا سوداننا القديم ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...