الأحد، 30 يونيو 2013

كلام فى الحلم


                     والحلم الذى اعنيه هنا ، هو ذلك الذى يغشاك وانت نائم ثم تصحو وانت على حالة من اليقين ان ما رأيته لن يخرج بأى حال من الاحوال عن كونه رسالة غامضة وغريبة من نوعها ، كتلك التى تقدمها قصيدة او رواية او فيلما سينمائيا ، قد تفهمها سريعا وقد تحتاج الى مساعدة لفهمها من آخرين يملكون مناهجا قادرة على الغوص داخل بنية النص او الحبكة ليستلوا منها الرسالة الموجهة اليك ، ولكن مع الحلم فأن طلب المساعدة قد يضعك محل تحليل نفسى يهز حتى قناعاتك الراسخة فى رؤيتك للحياة والعالم من حولك ، وقد يضعك محل تلاعب من منجمين يرتفعون بك الى سابع سماء ثم يهبطون بك الى سابع ارض ولا تجد امامك  فى خاتمة الرحلة سوى مهرج يجيد اللعب بالكلمات والاساطير ، وقد .. وقد .. ، ولكن لا واحدة من هذه المساعدات تقر بصحة يقينك ان ما رأيته فى الحلم لم يكن سوى رسالة جاءت من الخارج ، من خارج نفسك ومن خارج محيطك الحيوى الذى تتفاعل معه يوميا ، بأختصار ، رسالة جاءتك من عالم آخر ، وان الحلم فى هذا السياق ليس مجرد ساعى بريد او مرسال وانما آلية تواصل ايضا .

                       فرعون يوسف كانت رسالته فيلما مرعبا ، وقسطنطين كانت رسالته من كلمتين ورمز (افتح بهذا) وآلاف بل ملايين الرسائل المحكية فى حياة الشعوب لم تشغل فى التفكير سوى مصدر الرسالة وموضوعها ، لم يلتفت احد الى احتمال ان يكون الحلم آلية تواصل واتصال لم تفلح مداركنا فى الوصول الى تقنيتها بعد ، آلية تربطنا مع عالم آخر ومع عالمنا هذا ايضا .

                        فى الحلم رأيت حجرة عالية الجدران بها حصيرة على الارض عليها لحاف تجلس عليه أمى ، ولم تزد عن قول (اخرجنى من هذا المكان الحار) ثم طار الحلم وطار النوم وطار عقلى فى عش التفاسير ، يومها رأى الناس الهم والغم والحيرة تسير فى الطرقات فتجنبوها ، صديق من الذين اتسعت نفسهم لفجورها وتقواها ضحك علىّ وقال (تصدق بطعام) ، كل المال الذى معى وفّر لى اثنين كيلو لحمة ضأن وكيلو ونصف ارز واربعين رغيفة ، ثم حملت وعائين احدهما ملىء بشوربة ولحم الضأن والآخر بأرز مفلفل واربعة اكياس بلاستيك بكل منهم عشرة رغيفات ومضيت بهم الى اقرب (خلوة) كنت ارى صبيانها على الطريق بوجوه نائرة واجساد تشتكى قلة الغذاء ، بعدها سمعت جبال الهم والغم والحيرة تتكسّر داخلى ثم تتناثر هباءا فى الفضاء ، ونمت ليلتها نوم قرير العين هانيها .

                      وانا فى هناءة نومى ، عرفتها من على البعد ترفل فى بياض فراديسى ، كيف لا اعرفها وهى المعرفة الاولى والحب الاول واحفظ لها ملايين المشاهد والتفاصيل ، حكى عالم سودانى انه لا يزال يتذكر نفسه وهو يرضع فى ثدى امه ، وصدّقته ، فمن هيأت لنا مهدا فى احشائها من الماء حملتنا عليه وهنا على وهن ، ومدّت لنا حبلا سرّيا يغذينا بأفضل ما تشتهيه من طعام وحبلا من مودة لم ينقطع ابدا، لن تنسى ولن تنسى تفاصيل حياتنا معها ، سأعرفها حتى اذا احتشدت عليها مواطن الظلمة ، فستلوح لى هناك ملاكا ملفحا بأبيض فراديسى كما لاحت لى فى هذا الحلم جميلة كما عرفتها وأكثر جمالا مما عرفتها ، لم تقل شيئا ولم تزد عن طلّة بهيّة تسر الناظرين و تركتنى متلفعا بالرضا .

                     لا ابحث عن سر هذه الصدقة هنا كمفتاح لشيفرة رسالة آلحلم، ولا ابحث فى موضوع الرسالة ، فالجوعى مثلما يحيطون موتانا الاعزاء بالحر يحيطوننا نحن الاحياء بالحر والألم والمرارات والغبن ، ولكنى ابحث فى سر الحلم .. سرهذه الآلية
التى تصلنى بأعزائى فى عالم الاموات واعزائى البعيدين فى عالم الاحياء ، يقينى انّ الانسان لا يزال منطويا على خصائص لم يدرك بعد كنهها ، وان ثمة وظائف معطّلة بجسده وروحه قد تكون مفاتيح تشغيلها اقرب الينا مما نتصور .

                  

                      

                        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...