الخميس، 29 سبتمبر 2011

ارض هاجر


                  السيدة هاجر هى ارفع بنات ملوك الزمان مكانة ، وأم سيدنا ونبى الله اسماعيل وزوجة ابو الانبياء ابراهيم عليهم جميعا السلام ، وقصتها هى قصة اهل الديانات السماوية فى مشارق الارض ومغاربها ، يتداولونها بتفاصيلها الدقيقة جيلا بعد جيل ، متأثرين بعظمة دلالاتها وما اضافته من نبل القيم والاخلاق والمبادىء لحياة البشرية ، وما يهمنى فيها هنا ، هذه الارض التى بدت لى اكثر المنافى رعبا فى التاريخ ( واد غير ذى زرع ) تحيط به جبال تترآى مثل حرس مهيب تحيط بها صحراء تتبعها صحارى لا شى يرتجى فيها سوى العطش والجوع ، هذه الارض الممسكة بكل خيوط الموت والتى تجلّت فيها رحمة الله وقدرته لأمرأة لم ينقطع حبل ايمانها به وهى تقطع اشواطها السبعة فى غمرة عطشها وخوفها على وليدها ، هذه الارض وبئرها التى رفعها الله من باطن الارض لتنبثق مياهها تحت قدمى ابنها آية زادت ايمانها به ايمانا ، هى كل ما يهمنى فى هذه القصة .

                 دعوة سيدنا ابراهيم ( واجعل افئدة من الناس تهفو اليهم ) استجاب لها الله محمولة على اقدام ( جرهم ) حين وطأت هذه الارض لتبدأ سيرة طويلة مع قداستها ، ومن هنا تبدأ قصتى ، اولها هذه الدهشة التى تصيب المرء حين ينظر الى هذه القبيلة العربية الراحلة بكل خيلها وخيلائها ، نساءها ورجالها ، عدتها وعديدها وقوة لا تخفى مظاهرها على احد ، مع كل هذا الحضور المهيب لهذه القبيلة ،  تقدم سادتها بسمو اخلاق مدهش وادب عربى رفيع يستأذنون امرأة نوبية وحيدة فى هذا القفر ليستقوا من بئر فجر الله مياهها من تحت قدمى ابنها ، فتأذن لهم ، ثم يطيب لهم المقام فيستأذنوها ثانية بذات السمو الاخلاقى وذات الادب الرفيع ، السماح لهم بالاقامة قربها ، فتأذن لهم ، وما يدهش هنا ، ليس هذا الاستئذان الذى بدا اول صك من قبل الميلاد تجلت فيه مفاهيم واخلاق وادب العرب فى المبادىء التى تحكم ملكية الارض بأحالة حق ارض هذا الوادى وبئره لأمرأة وابنها سبق وجودهما عليها حضور هذه القبيلة ، وانما المدهش هنا حقا هو هذا الخلق العربى الرفيع الذى تشبعّت به هذه القبيلة فى اعلاء الحق على القوة .

                   ثانى الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب اوصى قيادات جيش الفتح المتجه الى مصر ، وشدد فى وصيته على امرين ، الاول بألا يتملكوا الاراضى والثانى بألا ينشغلوا بالزراعة ، وهى وصية لاتقف دلالاتها عند اقتصار عملية الفتح على تبليغ الرسالة وانما تعدتها الى التذكير بأحقية شعب مصر فى ملكية اراضيه ، اى ان ملكية الارض ظلت فى اخلاق وقيم ومبادىء العرب قبل الاسلام وبعده ، من الحقوق التى لا يعلو عليها لا بالقوة ولا بالسلطة ولا بالغزو او الفتح ، يعنى انها حق ثابت منذ ان تجلى فى ارض هاجر بجزيرة العرب ولن تغيره القوة بأرضها فى مصر .

                   وهاهو الحجاج بن يوسف الثقفى الذى لم يتورع عن رمى الكعبة (بيت الله الحرام) بالمنجنيق ، لم يتجرأ ان يخرج عن هذه الثوابت وقدم النصح لطارق بن عمرو قائلا : اذا ولاك امير المؤمنين على مصر ( سرد عددا من الوصايا الى ان وصل ) اتق فيهم ثلاثا :
                                         1- نساؤهم لاتقربهم بسوء والا اكلوك كما تأكل الاسود فرائسها .
                                         2- اراضيهم والا حاربتك صخور جبالها .
                                         3- دينهم والا احرقوا عليك دنياك ....
فالأرض ظلّت فى مفهوم الحكم الاسلامى ايا كان فقه حكامه ضمن ثالوث محرم انتهاكها ، تماما مثل العرض والدين .

                   واتفاقية ( البقط ) التى وقع عليها عبد الله بن ابى السرح ، كان من ضمن بنودها ألا يتملك المسلمون اراضى النوبة ، ودارت فى هذا الشأن عدة شكاوى فى زمن الخليفة ( المامون ) دفعت ملك النوبة بأرسال ابنه الى بغداد لعرض المشكلة علىه وسفره الى مصر عند زيارة المامون اليها لمناقشته فى مشكلة الاراضى ، فقيمة الارض عند النوبة ولدى العرب لم تخرج فى نظر حكامهم عن الثالوث المحرم ، وظلت امانة منذ ايام السيدة هاجر والى يومنا هذا وكأنما هى التى عناها رائعنا العظيم ( وردى ) حين غنى ( عربا نحن حملناها ونوبا ) .

                    والذين اضطلعوا على شهادات ملكية الاراضى فى العهد السنارى ، تأخذهم الدهشة للدقة التى تنجز بها ، فبعد تحديد موقع الارض الجغرافى ومساحتها ، يأتى اسم المالك مصحوبا بسلسلة من اسماء الآباء وامهاتهم عن طريق ابيه ، وسلسلة طويلة من اسماء الآباء وامهاتهم عن طريق امه ، لتبدو وثيقة الملكية اشبه بشجرة عائلة او نسب تمتد اجيالا واجيالا ، كل هذا التدقيق يأتى دلالة على ما تعنيه ملكية الارض فى ثقافة هذه الامة على مر العصور .

                   سيدى والى ولاية الخرطوم ، هذه هى قيمة ملكية الارض ، متجذرة فى ثقافة هذه الامة من قبل الميلاد فى شقها النوبى والعربى ، لا نزع فيها حتى فى زمن الفتح والاحتلال ، وملكية الارض لا تمنع الانتاج عليها اذا تعزر على مالكها القيام بذلك لأى سبب ، فثمة مصطلح من كلمتين وجد فيه الناس من زمن قديم حلا لهذا الاشكال ، هو ( ايجار المنفعة ) فهو كفيل بالحفاظ على ثوابت هذه الامة فى تعاملها مع ملكية الارض ، وكفيل بأن يحفظ لمالكها ومؤجرها وسلطات الولاية حقوقهم فى المنفعة العائدة من انتاجها .

الجمعة، 23 سبتمبر 2011

آخر رسالة سعودية لليمن


                    تبدو عودة على عبد الله صالح المفاجئة لليمن ، آخر رسالة سعودية للداخل اليمنى ، وايا كانت المضامين التى تحملها هذه الرسالة ، فأن درجة الغليان فى حراك الثورة اليمنية ينذر انفجارها اراضى المملكة العربية السعودية بنصيب وافر من شظاياه ، خاصة وان الحرب على الحوثيين كانت قد خبأت فى باطنها قدرا من الثأرات تبدو معه استمرار الازمة باليمن سبلا كفيلة بأن تبلغ غاياتها ، ويبدو ان القصف العشوائى العنيف بالأسلحة الثقيلة الذى طال الساحات والشوارع والمنازل والذى قامت به الاجنحة الموالية له داخل الجيش اليمنى كان له حضوره الفاعل فى اسباب هذه العودة المفاجئة ، فالسعودية آخر من يرغب فى انزلاق اليمن الى حرب اهلية تفتح علي حدودها ابوابا من الجحيم .

                     ثمة امل يتراءى خلف هذه العودة بأن تكون المبادرة الخليجية مصحوبة بالتفويض الذى اصدره على عبد الله صالح من مشفاه بالرياض لنائبه للوصول مع المغارضة الى صيغة اتفاق يحقن الدماء  ويفتح افقا سياسيا ديمقراطىا جديدا يلبى مطالب ابناء اليمن ويديم استقرارها وامنها ، ثمة امل ان تكون هاتين المبادرتين الاخيرتين قد صادفهما النجاح وتبقت بصمته الاخيرة عليه ، خاصة وان تصريح الادارة الامريكية المنادى بأنتقال فورى وكامل للسلطة يشىء بأن اتفاقا فى هذا الشأن بين القوى الاقليمية والدولية  قد صادف اخيرا قبولها .

                   وايا كانت الاجندة التى حملتها عودته المفاجئة ، فأن الثورة اليمنية باتت على بعد خطوات قصيرة من اعلان انتصارها ، فصمودها الرائع على الساحات والشوارع لم يبق للنظام القائم شرعية يتكىء عليها ، فهذا الصمود رسالة واضحة وكافية للعالم اجمع بأن ارادة هذه الثورة غير قابلة للكسر ، لا بالعنف المسلح ولا بالدبلوماسية الناعمة ولا بمراوغات السياسة ولا بالضغوط الاقليمية والدولية .

                    فأن كانت هذه الآمال التى تراءت خلف عودته المفاجئة مجرد بروقا خلبا ، فأن عودته لن تكون سوى عودة شبح ينتظره اكثر من قبر تبدو شواهد كل منها قائمة على معظم اراضى اليمن التى لطخ اياديه بدماء ابنائها  .

الخميس، 22 سبتمبر 2011

ازمة ومواقف مأزومة


                   الخطوة التى اتخذتها السلطة الفلسطينية بالتوجه لمجلس الامن للحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية ، فتحت فى آفاق هذه القضية بابا لأزمة جديدة ، بدت جلية فى المواقف الرافضة لهذه الخطوة من امريكا ومن شايعها فى الغرب ، ومن حركة (حماس) ومن شايعها من الاسلاميين ، ومن اسرائيل بالطبع ، اذ ان الخطوة بدت فى منظور هذه المنظومة الرافضة لها ، طيا لصفحة تاريخ طويل من المفاوضات وما انتجته على الارض .

                    فالسلطة الفلسطينية بعد ان حرقت من عمرها قرابة العقدين من الزمان فى التفاوض ، كانت حصيلتها مزيدا من العقبات التى تقف حجر عثرة امام قضايا الحل النهائى سواء على صعيد الاراضى الفلسطينية التى لم تكن المستوطنات آخرها او على صعيد اوضاعها الداخلية التى بدا الانقسام سيدها بحكومتيه المتصادمتين بالضفة والقطاع ، لذا تجىء خطوتها هذه فعلا عقلانيا رشيدا يتجه الى اعادة ترتيب اوراق هذه القضية التى اختلطت بشدة وتشابكت خيوطها بأجندة داخلية واقليمية ودولية ظلت تتخذ منها مطيّة لتحقيق مكاسب لا علاقة لها بمواجع الشعب الفلسطينى ، وتكفى نظرة عاجلة لمواقف الرفض هذه لأكتشاف مدى تناقض نظرتها لهذه الخطوة مقارنة مع الوقائع التى تعيشها على الارض .

                     فحركة (حماس) ترى فى قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 ضربة قاتلة للآمال المعلقة على عودة جميع الاراضى الفلسطينية المحتلة ، اى فلسطين قبل قرار التقسيم الصادر فى 1947 ، وان قتل هذا الامل يعنى قفل الباب نهائيا امام عودة اللاجئين الى اراضى 1948 ، وهى رؤية رغم تصادمها بشدة مع الشرعية الدولية التى اصدرت قرار التقسيم الا انها على المستوى النظرى تبدو مبررا معقولا لرفضها خطوة السلطة الفلسطينية ، ولكن اجندتها الجارية على الارض تتناقض تماما مع رؤيتها هذه، اذ كيف يستقيم ان تطلب هدنة مع اسرائيل لمدة اربعين سنة دون اى اعتبار لقضية اللاجئين المحكوم عليهم بهذا الطلب ، الاستمرار فى شقائهم داخل مخيماتهم وعلى منافيهم اربعين سنة معادلة لتيه بنى اسرائيل ، ثم تأتى لتتزرع بهم الآن رافضة لقيام الدولة ، كما ان حكومتها المقالة بقطاع غزة وفى ظل شغفها بحكم القطاع تقوم بدور اقرب الى دور شرطى الحماية لحدودها المشتركة مع اسرائيل ، فموقفها المعلن من هجمات المقاومين من الفصايل الاخرى بأسم الهدنة يكفى، وبالتأكيد سيمتد لمنع اى خطوة لأقدام اللاجئين المتجهة الى اراضيهم القائمة داخل حدود 1948 ، من هنا لا يعدو رفض حماس لخطوة السلطة الفلسطينية سوى ان يكون تعبيرا عن موقف مأزوم يخشى من قيام الدولة على مكاسبه التى صنعتها المفاوضات .

                     اما امريكا فقد كان اقرارها بقيام دولة فلسطينية فى حدود 1967 طفرة نوعية فى ظل مواقفها التاريخية الطويلة على المحافل الدولية المتعلقة بالشأن الفلسطينى ، ولكن ان تقف الآن امام هذه الخطوة وتشترط على قيام الدولة ان تتم عبر التفاوض مع اسرائيل ، عبر ذات المفاوضات التى تولت ادارتها لما يقرب من العقدين واتقنت خلالها اسرائيل احراج اداراتها المتعاقبة بمواقفها المتزمتة من قضايا التفاوض ، للدرجة التى تضاءلت فيها صورتها كقوة عظمى فى اعين الفلسطينيين وشعوب المنطقة ورسّخت فى عقل المنطقة انها من انواع القوة التى لا تصنع حقا ، فأن موقفها هذا مع الفشل الزريع الذى الحقته حكومة نتانياهو الحالية بجهودها وقضى اصرارها على استمرار سياسة المستوطنات بآخر محاولاتها لا يعدو الا ان يكون تعبيرا عن موقف مأزوم تلعب فيه حسابات الداخل الامريكى المثقل بالمشكلات دورا رئيسا ، وتلعب فيه المصالح الاسرائيلية القائمة بثبات داخل عصب السياسة الامريكية دورا اكبر ولا يعدو موقفها هذا سوى ان يكون موقفا مماثلا لمواقف اللاعبين بكرت هذه القضية لتحقيق مصالح خاصة .

                 اما اسرائيل الرابح الاكبر فى لعبة المفاوضات ، تعلم علم اليقين ان المفاوضات فى ظل المؤسسات الدولية لن تتيح لها فرص الانفراد بتمرير اجندة دخيلة على اصل النزاع ، ولن تتيح لها ان تظل المفاوضات لعبة بلا نهاية ، فطول الزمن الذى صاحب هذه القضية وادى الى تراجع العرب عن كثير من مطالبهم التى نادوا بها عقب قرار التقسيم حتى استقرت فى وقتنا الراهن على الضفة وقطاع غزة اللتين كانتا تحت سيادتهم قبل حرب 1967 جعل من عامل الزمن افضل آلية تستطيع عبرها اسرائيل ان تنتزع التنازلات دون الحاجة الى اطلاق رصاصة واحدة ، لذا فهى حتى هذه اللحظة لم تستطع ان تقدم طرحا جديدا يشجع على العودة للمفاوضات ، وانما كرّست كل جهودها لقطع الطريق امام خطوة السلطة الفلسطينية على امل ان تفضى جهودها الى عودة ذليلة لمفاوضات بلا نهاية او تؤدى الى تجميد الاوضاع على ما هى عليه ، نفس اوضاع حالة اللاحرب واللاسلم التى تتقن لعبتها ولكن هيهات ، فقد دخلت القضية منعطفا الله وحده يعلم ما بعده .

                  اقبح صور هذه الازمة ان تكون حركة الفكر والدبلوماسية التى انبنت عليها الآمال فى حل القضية الفلسطينية رهينة داخل اطار وحيد يدعى المفاوضات المباشرة .
                      

الأربعاء، 21 سبتمبر 2011

المفصولون قضية حيّة


                  اثارت عملية اعتقال رئيس اللجنة التنفيذية للمفصولين والتى تمت بمسجد رئاسة الجمهورية قبيل صلاة الجمعة اسئلة مقلقة عن جدوى وفعالية مؤسسات الدولة حينما يصل الحال بالمفصولين ان يتصيّدوا الفرص والمناسبات بما فى ذلك فرصة صلاة الجمعة بمسجد القصر الجمهورى لتقديم شكوتهم لرأس الدولة ، بعد ان استنفدت مساعيهم كافة الشروط المطلوبة لحلها على صعيد السلطة التنفيذية والقضائية والسياسية ، وتثير اسئلة مقلقة حول دور قنوات الاتصال بين الرئيس ورعيته .

                  والخوض فى عملية الاعتقال التى تمت وما تبعها من التحقيقات التى قال بها السيد رئيس اللجنة التنفيذية للمفصولين ، سينحرف بمسار هذه القضية من وجهتها الحقيقية التى يجب ان تمضى فيها الى متاهات مضللة غايتها ان تحجب عن بصر السيد رئيس الجمهورية واصحاب القضية ، القوة النافذة التى وقفت عقبة كأداء امام سبل الحل والمعالجة.

                   ما يهم حقا فى عملية الاعتقال التى تمت ، هو البحث فى خلفيتها عن هذه القوة النافذة التى نجحت فى احاطة هذه القضية بجدران سميكة تعذر اختراقها من قبل قرارات السيد رئيس الجمهورية وقرارات مجلس الوزراء واحكام القضاء الصادرة فى حق بعض اطرافها اضافة لمواقف لجان المجلس الوطنى - السلطة التشريعية الاعلى فى البلد - المؤيّدة لعدالة هذه القضية ، وعملية البحث هذه تهم السلطة القائمة اكثر من المفصولين ، على الاقل لأستعادة هيبة قراراتها المعتقلة بين جدران هذه القوة .

                    من جانب آخر فأن سعى السيد رئيس اللجنة التنفيذية للمفصولين لأستغلال فرصة صلاة الجمعة بمسجد القصر الجمهورى لمقابلة السيد رئيس الجمهورية وتسليم شكوته ، يعنى ان الأمل فى عدالة السيد الرئيس ما زال قائما ، وان القناعة فى قدرته على حل ومعالجة هذه القضية تستحق كل مخاطرة ، فالاعتقال الذى تم وبمنظور امنى يندرج تحت مهام اطقم حماية الرئيس المناط بها تأمين دائرة تواجده من اى اختراق ، ومحاولة رئيس اللجنة التنفيذية للمفصولين هنا تعد مخاطرة كبيرة ولكنها مخاطرة  تشى بأن قنوات الاتصال بالسيد الرئيس فى هذه القضية صارت افقا مسدودا ، وهو ما يثير القلق والمخاوف حول نهج الدولة فى تعاطيها مع قضايا الحقوق من جانب وقضايا الحريات من جانب آخر وما يترتب على ذلك من تبعات مسيئة لصورتها بمعايير العدالة .

                      قضية المفصولين لن تموت وستظل اختبارا عسيرا لشرعية كل الحكومات لأنها قضية تتعلق بالحقوق والعدالة ، والعدل هو اساس الحكم .

الاثنين، 19 سبتمبر 2011

زمن الوشاية


               الألفية الثالثة حفلت منذ عقدها الأول بالكثير المثير الخطر ، واحداثها منذ تفجير برجى التجارة العالمية ، انذرت بأن العالم لم يعد محكوما بذات الأطر والمفاهيم والقوانين والقيم التى حكمته طيلة العقود الماضية ، ومن بين كلما حفلت به الألفية الثالثة يبدو موقع (ويكيليكس) اكثرها اثارة واحد علاماتها البارزة ، فما ظل يبثه من خفايا كواليس الدبلوماسية الامريكية ، هزّ مفاهيم الناس عن الوشاية التى طالما كانت فعلا رزيلا ممقوتا يتحاشى الناس الاقتراب من اولئك الموسومين بها كما يتحاشون حاملى الامراض الخبيثة المعدية ، ولكن هذا الموقع  وبأستعراضه لكثير من احاديث القيادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية للدول التى طالتها تسريباته ، كشف ان الوشاية  لها وظيفة معززة لمكانة اولئك الواشين بمكنونات آرائهم لمتلقين غرباء ،  خاصة اذا كان متلقي الوشاية  احد ممثلى الدبلوماسية الامريكية ، القوى العظمى المنفردة حتى هذه اللحظة .

                 وبالطبع لا يستطيع كائن من كان ان يلوم الدبلوماسية الامريكية التى ظلت تفتح اذنيها لمثل هذه الوشايات التى تخدم مصالحها والتى تاتيها طوعا وطمعا وكرها احيانا ، وبأستثناء امريكا وهؤلاء الواشون فأن حكومات وشعوب البلدان المعنية بهذه التسريبات لاشك هم اكثر الأطراف امتنانا ل (جوليان اسانج) مؤسس موقع (ويكيليكس) الذى قام بنشر هذه الفضائح على الملأ ، وكشف لهم حقيقة تلك القيادات وايضا سوء تقدير تلك الحكومات وشعوبها فى اختياراتهم لحملة امانة مصائرهم .

                   المروّع فى الامر هنا ، ان نكتشف ان هذا السلوك كان فعلا مستمرا على مر الحقب والازمان ولكنه ظلّ آمنا مستترا فى كواليس لم تعد حصينة بعد ان اخترقت وسائل الاتصال الحديثة كل جدرانها السميكة ، والمروّع اكثر ان نكتشف ان الوشاية من اقدم مهن البشر التى لاتحوّج صاحبها من مهارات سوى مرونة اخلاقية عالية وارادة لا تحدها ايديلوجيا او تنظيم اذا كان من الوشاة بمكنون آرائه ، و اتقان فن الاستماع وامتلاك ذاكرة يقظة قادرة على تسجيل كل كبيرة وصغيرة ومن ثم تسويق حصيلة جمعه والتقاطه من احاديث الناس لمن يهمه امرها اذا كان واشيا تقليديا ، وهى مهمة فى مجال السياسة لا تتطلب منه سوى ان ( يندس فى السلطة ليكون معارضا ويندس فى المعارضة ليكون هو السلطة ويحارب السلطة بسلطة اخرى ولا يتبعه احد من فرط ما هو تابع ) حسب قول محمود درويش .

                    و(جوليان اسانج) فى هذا السياق يبدو اكبر وشاة التاريخ ، ولكنه فى ذات السياق يبدو عمليا ابرز دعاة حرية النشر دون اى اعتبار لأى تحفظات ، وهى مسألة لا يحد من خطورتها سوى ان يمتثل المنشغلون بالعمل العام فى طرح آرائهم وافكارهم ومواقفهم حول كافة القضايا وعلى مختلف المحافل بالوضوح والشفافية والعلانية ، فهذا زمن لايجدى معه المواربة والتستر ، فالوشاية صارت صناعة مربحة .

الاثنين، 12 سبتمبر 2011

قيمة الشهادة فى الراهن المصرى


                  اهتمت الميديا العربية والعالمية اهتماما بالغا بأعتزار كل من المشير طنطاوى والفريق سامى عنان عن حضور جلسات محاكمة الرئيس السابق محمد حسنى مبارك للأدلاء بشهادتيهما حول الاوامر الصادرة باطلاق النار على المتظاهرين المصريين التى اودت بحياة عدد منهم ، , وجاء اعتزارهما بسبب الحالة الامنية المحيطة بمصر والتى لا تخفى مخاطرها على احد .

                  وبالرغم من ان شهادتيهما تبدوان فى كل الظروف عاملا معززا لبسط الامن ، بأعتبار ان مثول اعلى سلطة فى البلد امام القضاة فى محاكمة طرفها الآخر السلطة العليا السابقة فى البلد ، يعنى ان القانون فى مصر هو سيّد الاحكام ، وان الناس هناك جميعا متساوون امام القانون ، وان مصر دولة مؤسسات تتمتع سلطاتها القضائية بأستقلالية تامة الى آخر ما يضفيه المشهد على صورة مصر من سمات التحضر والرقى ، وبالرغم من كل ذلك الا انه حينما تكون المؤسسة العسكرية طرفا اصيلا وضروريا فى مثل هذه المحاكمة ، فثمة اعتبارات يجب مراعاتها بعيدا عن ضرورات التمسك بالأجراءات الشكلية المعتادة فى المحاكمات .

                   اولى هذه الاعتبارات ، ان استدعاء اعلى رتبتين فى جيش دولة من دول العالم الثالث للشهادة فى محاكمة طرفها القائد الاعلى السابق لذات الجيش وفقا لأجراءات المحاكم الجنائية امر من شأنه ان يمس كبرياء وهيبة الجيش ، ويقود فى حالة تمسك قيادته بالاعتزار الى صدام بين من بيده القوة ومن بيده القانون ، وكلنا يعلم ان القوة الفعلية فى عالمنا بيد الجيش واذا تعارض امر مع تقاليده وعقيدته فلن يتوانى فى استخدامها للأطاحة به وبكل شىء يقف امامه ، محكمة كانت او نظام حكم .

                    ثانى هذه الاعتبارات ، ان استجابة قيادة الجيش المصرى لمطالب الثورة فى محاكمة قائده الاعلى السابق ورئيس الدولة ، كان من نتائجها مشاهدة الرئيس السابق محمد حسنى مبارك داخل قفص الاتهام من قبل ملايين الملايين الذين تابعوهوا على الفضائيات فى وضع صحى لايليق مشهده بأخلاقيات المنطقة ولا بكرامة قائد عسكرى تغنت ببطولاته مصر زمنا طويلا بغض النظر عن الانتهاكات التى تمت فى عهده على الانسان المصرى ومقدراته ، والمشهد وحده كان كافيا لطى هذا الملف بصورته التى اتسمت بسوء الخاتمة ، علما بأن حديثا طويلا دار قبل تنازله اتجه لأخراج التنازل بما يحفظ له و للقوات المسلحة تقاليدها وقيمها العسكرية التى رصعّت صدره بعديد الاوسمة والنياشين ، فهى استجابة كان من الضرورى ان تؤخذ فى الاعتبار و تعفى الجيش من اى ضغوط جديدة تضعه فى مواجهة  مع حركة التغيير الجارية فى مصر .

                   ثالث هذه الاعتبارات ، ان الحالة الامنية فى مصر تحظى مخاطرها العديدة بأولوية الاهتمام اذ سيتحدد على ضوئها حاضر ومستقبل مصر ، ومع تقديرى الكامل لمشاعر اسر شهداء الثورة ، ومع وقوفى بشدة مع المنادين بضرورة محاكمة الضالعين فى عمليات القتل التى طالت المتظاهرين العزّل ايا كانت مواقعهم السابقة ، الا ان المحاكمة فى ظل وضع يعانى من اضطراب امنى من شأنه ان يضر كثيرا بسير اجراءات المحاكمة وبفرص تحقيق العدالة لتأثير الحالة الامنية على صعيد افادات الشهود والمستندات .

                  فهل تستحق شهادة المشير طنطاوى والفريق سامى عنان كل هذا الاهتمام فى ظل الراهن المصرى المنذر بمخاطر عديدة على صعيدها الداخلى والخارجى وعلى فرص التحوّل الديمقراطى المنشود ؟

الأحد، 11 سبتمبر 2011

ذكرى 11\9 : كراهية ام حزن


                عشر سنوات مرت على العملية التى ادت الى تفجير برجى التجارة العالمية ، وخلّفت آلاف الضحايا من الامريكيين وجنسيات اخرى من العاملين فى البرجين، والذين تصادف وجودهم بالمنطقة لحظة الانفجار ، وبعض اطقم الدفاع المدنى التى خفت لموقع الحادث ، والمسافرين على متن الطائرات التى استخدمت فى العملية واطقمها ، وطوال هذه العشر سنوات ، ازدحم فضاء هذا الحادث المروّع فى كل عام يصادف ذكراه ، بأطروحات مربكة ، بعضها ظل يتناوله فى اطار نظرية المؤامرة التى احاطت الادارة الامريكية وقتها بأسئلة صعبة ولا زال يتوالد منها المزيد بحثا عن اجابات شافية ، لغموض بعض الوقائع المصاحبة للحادث والتبعات التى ترتبت عليه على صعيد الداخل الامريكى وعلى صعيد العالم وعلى وجه الخصوص بالعراق وافغانستان ، وبعضها ظل يتناوله بحرفية عالية لتجييره لصالح صراع الحضارات ، ويزج بالاسلام والمسلمين على خلفيته خطرا محدقا بالمدنية ، وبعضها لم يخرج تناوله للحادث من اغلفة ملفات التجارة العالمية التى احتواها البرجان ، وحدهم ذوى الضحايا ظلوا يعيشون مرارة الفقد والم الحزن فى ذكرى هذا اليوم .
            
                
                  وما يدعو للحزن حقا ان كثيرا من الغربيين استغلوا ذكرى هذا اليوم وملأوا المواقع على الانترنت بفيض من كراهية عمياء للمسلمين والاسلام ، ووصل الامر ببعضهم ان استدل بنصوص غريبة تم نسبتها للقرآن الكريم ليضفى على كراهيته مسحة عقلانية ويشى بان الاسلام دين يحض على القتل والتفجير والدمار وينسون فى ذات الوقت واقعة مبنى التجارة الدولية (بأكلاهوما) الذى قام بتفجيره (تيموثى ماكفى) ، الامريكى والمتشدد فى مسيحيته والذى بذلت معه السلطات ما وسعت ليبدى قليلا من الندم على فعلته وصلت الى حد مقايضته فى ذلك بالسجن المؤبد بدلا عن الاعدام ، ومع ذلك لم يخطر على بال احد المسلمين بأن المسيحية دين يحض على القتل والتفجير والدمار وينتج للعالم مسيحيين ارهابيين يهددون الحياة والمدنية فيه ، لا فى تلك الواقعة ولا فى ما تلتها وآخرها تفجيرات (اوسلو) (بالنرويج) والقتل المروع الذى صاحبها ، فمثل هذه الافعال لا يمكن ان تنتجها الاديان التى تدعو جميعها الى السلام والمحبة والتسامح .

                   يحزننا جدا كمسلمين مقتل الابرياء من ضحايا هذه العمليات ايا كانت اديانهم ومعتقداتهم ، سواء اكان الفاعل مسلما او مسيحيا ، ويحزننا اكثر ان يتغابى العقل الغربى عن قيم ديننا التى تحضنا على فعل الخير ، وتأمرنا ان ندخل فى السلم كافة ، وتذكرنا بأن هدم (الكعبة) - بيت الله الحرام - اهون عند الله من قتل النفس بغير وجه حق ، وان من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا ، وحتى فى حالة من يثبت عليه جرما يوجب قتله ، يحضنا ديننا ان من عفى واصلح فأجره على الله ، فالعفو دائما مقدم لدينا ، فلماذا هذه الكراهية العمياء ؟

                   لا يملك المرء فى مثل هذه الذكرى الا ان يعزى اسر الضحايا الابرياء الذين سقطوا فى هذه العمليات ، ويعزى اسر جميع الضحايا الابرياء الذين سقطوا نتيجة لها فى العراق وافغانستان ، ويعزى اسر جميع الضحايا الابرياء الذين سقطوا نتيجة لمثل هذه العمليات فى جميع بقاع الارض ، وندعو الله ان يلهم الناس جميعا ان يجنحوا للسلم والتسامح .
                 

السبت، 10 سبتمبر 2011

ما بعد اقتحام السفارة


                بعد قيام احمد الشحات احد شباب الثورة المصرية بأزالة العلم الاسرائيلى من مبنى السفارة ورفع العلم المصرى فى مكانه ، يجىء اقتحام السفارة الاسرائيلية يوم امس رسالة ثانية تعبّر بجرأة وحدة عن موقفها من العلاقات بين البلدين ، وهذا التسلسل فى الاحداث تجاه وجود السفارة الاسرائيلية بمصر ينبىء برسائل قادمة تبدو اشدّ حدة وعنفا ، فالعلاقات المصرية الاسرائليىة على المحك الآن .

                 وبلا شك ان الحادثين يعبران وبشكل منظم عن احد مطالب الثورة المصرية التى لازالت تكافح لبلوغ غاياتها ، وهو قطع العلاقات مع اسرائيل ، ويبدو ان هذا المطلب  مع نجاح الواقفين خلفه على اختراق الحواجز الامنية حول السفارة ، والوصول الى اعلى المبنى فى المرة الاولى ، وقلب المبنى فى المرة الثانية ، تدفعه قوة راغبة فى الصعود به الى الحد الذى من شأنه ان يعيد شبح الحرب ليخيّم فى سماء المنطقة الملبدة اصلا بظلاله على جبهاته المألوفة ، فضلا عن ا لزخم الذى اضافه الموقف التركى المتوتر مع اسرائيل حول حادثة السفينة (مرمرة) المرتبطة توتراته عضويا بحالة قطاع غزة الواقع تحت توترات تبعات الحصار التى طالت الحدود المصرية ،  اى ان هناك وضع اقليمى فى ظل الربيع العربى يبدو مواتيا لخدمة هذا المطلب ومد القوة الواقفة خلفه ماديا ، اما الجانب المعنوى فقد ظلت تتكفل به جدران غرف المصريين المحتشدة بصور الشهداء والعلاقات التجارية المختلة التى اقامها النظام السابق مع اسرائيل ومن قبل ومن بعد ، استمرار القضية الفلسطينية على اسوأ من حالها الذى سبق حربى 1967 و1973 .

                   من هنا يبدو هذا الحادث سببا كافيا لمصر بكل مكوناتها الرسمية والسياسية والشعبية ان تفتح ملف العلاقات مع اسرائيل على مصراعيه ، وتتناول تفاصيله بكل شفافية ، مصحوبة فى ذلك بمصالحها ومصالح القضية الفلسطينية ومصالح قضايا المنطقة ، فالعلاقات بين البلدين رغم استمرارها لأكثر من ثلاثين عاما الا انها على الصعيد السياسى و الاجتماعى لم تستطع ان تبنى قدرا ولو ضئيلا من التطبيع فى الشارع المصرى الذى عبىء بجدارة فى مواجهته ، و عززت سياسات اسرائيل العدوانية داخل الاراضى المحتلة وعلى الصعيد العربى والاسلامى من تصاعد هذه التعبئة لتبلغ اقصى مداها بأقتحام سفارتها بالقاهرة يوم امس .

                    ولكن قبل ذلك لابد من معالجة تداعيات هذا الاقتحام الذى هزّ صورة الدولة المصرية وافقد الثقة فى قدرة اجهزتها الامنية على حماية ارض السفارات وهو امر من المحتمل ان تفضى اقل تبعاته الى زريعة دخول قوات اجنبية للأضطلاع بذلك ، فضلا عن انعكاسات ضعف الحالة الامنية على الصعيد الاقتصادى خاصة مجال السياحة احد موارد مصر المقدرة ، اما اسوأ تداعياته فتكمن فى الوثائق التى تحصل عليها المقتحمون وعرضت بعضها القنوات الفضائية ، والتى من المحتمل ان تطال رموزا على مستويات مختلفة فى الدولة المصرية وداخل القوى السياسية وداخل المجتمع المصرى الذى لن تشفع لديه العلاقات القائمة بين البلدين مبررا لقيام علاقات بين مصريين و اسرائيل حتى لو كان طابعها اقتصاديا مرتبطا بالاتفاقيات الرسمية المعقودة بين البلدين ، فهذا الجانب يستدعى تحركا عاجلا حتى لا يكون ثغرة تنفذ عبرها اجندة تستطيع ان تنتج عددا من الوثائق الزائفة ، من شأنها ان تغرق مصر فى فوضى لا يتمناها احد لها ، فكل ما يحتاجه الامر هنا ، شيئا من الشجاعة والشفافية من الاجهزة المعنية ومن الذين ارتبطوا بمصالح خاصة مع اسرائيل ابان فترة النظام السابق وتحمل المسئولية الاخلاقية لهذه العلاقات .

                      مصر الآن فى منعطف خطر للغاية ، لا يجدى معه اى نوع من المناورات السياسية او الالتفافات على القضايا العاجلة والملحة ، امن مصر واستقرارها هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق امانى وتطلعات شعبها ، فلتوضع كل الاوراق على الطاولة وليتعاون اهل مصر جميعهم على حلحلتها مهما كان الثمن المقابل لذلك .

الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

هؤلاء القتلة


               نشرت دورية (لانسيت) الطبية ، دراسة عن اعداد ضحايا الهجمات الانتحارية فى العراق للفترة من 20 مارس 2003 وحتى 31 ديسمبر 2010 اى خلال الاعوام السبعة التى تلت الغزو الامريكى للعراق وجاء فيها :-

                1- مقتل 12 الف و284 مدنى عراقى من اصل 108 الف و624 قتيلا مدنيا
                2- مقتل 200 من جنود التحالف بينهم 175 امريكيا
                3- اصابة 30 الف و644 مدنيا
(تفاصيل اوفى تجدونها عبر قوقل او بموقع اذاعة العراق الحر)

               الارقام مفزعة وتتحدث عن نفسها وتثير اسئلة اشدّ فزعا عن طبيعة النفس البشرية عندما تنحط الى هذا الدرك من التوحش ، وتدعو للتسآؤل عن هوية العقل الواقف خلف هؤلاء القتلة المتوحشين ، واهدافه التى تتخبى خلف دماء الابرياء ، واساليبه التى جعلت من ارض العراق ( لا رايات للموتى كى يستسلموا فيها ولا اصوات للأحياء كى يتبادلوا خطب السلام ) وانما ساحة مظلمة يتبختر فيها كل قاتل جبان يتصيّد ضحاياه من المدنيين العزّل المسالمين .

                رحلة البحث عن هوية العقل الواقف خلف هذا القتل البشع فى العراق ، تخرج فى اولها بحقيقة اننا امام عقل مسكون بالاجرام ومفتون بالقتل ، تقوده نزعة منفلتة فى عدائها للبشرية وللحياة ، عقل لا يردعه دين ، فضحاياه من كل دين وكل ملة ، لم يسلم منه المسلمون ، شيعة كانوا ام سنة ، ولم يسلم منه المسيحيون ، فلا اهل القبلة بمنجاة من جرمه ولا اهل الكتاب دع عنك اصحاب الديانات الاخرى ، استباح المساجد والكنائس قتلا وتفجيرا وتهديما معلنا بذلك عن احد وجوهه الكريهة ، عدوا للدين الذى تحرّم كل رسالاته قتل النفس بدون حق ، اما عداؤه للبشرية  فصوره اكثر بشاعة بأستهدافه للنساء والاطفال والشيوخ الذين حظيوا طوال التاريخ البشرى حتى فى اكثر عصوره توحشا وانحطاطا بأوضاع آمنة ، يكمن فى الاسواق والطرقات ووسائل النقل ويعتدى على حرمات البيوت عدوّا للحياة بلا منازع .

                هذه هى هوية العقل الواقف خلف الهدر الفظيع للأنسانية فى العراق ، من العار ان يكون ممثلا لجهة سياسية داخل العراق  ، ومن العار ان يقف اهل العراق على اختلاف اطيافهم مكتوفى الايدى امام وحشيته المنذرة بأكثر منها هولا وفظاعة اذا نجح فى الوصول الى السلطة ، ومن العار ان يكون ممثلا لجهات اقليمية او دولية ترى فى الدم العراقى المهدر على الطرقات والمساجد والاسواق قربانا لمشاريعها ايا كانت طبيعة هذه المشاريع ، ومن العار ان يقف العالم متفرجا على هذه المشاهد المخزية للأنسانية ولا يحرك ساكنا بينما مخابراته قادرة على احصاء الآهات فى مخادع الفاجرين ، وعار علينا جميعا ان يصبح المشهد العراقى مناسبة نتداول فيها احصاء الموتى .

                ما يجرى فى العراق وباء قاتل ومدمر و سريع العدوى ، يبدو الحياد فى مواجهته دعوة مريحة الى الانتقال  الى ديارك .

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...