الثلاثاء، 3 يناير 2012

القدال : بيّنات زائفة


                   د. محمد سعيد القدال اكاديمى معروف ، عمل محاضرا بالجامعات السودانية والعربية ، وهو باحث فى التاريخ ومؤرخ له عدة مؤلفات فى تأريخ السودان الحديث ، وهذا الوصف يبدو كافيا بأن يضفى على اطروحاته التى تناولت احداثا ووقائعا وشخصيات معيّنة فى تأريخنا ، سمة علمية هدفها البحث بتجرد عن الحقائق الغائبة عن تلك الاحداث والوقائع والشخصيات ،

                   فى مؤلفه ( تأريخ السودان الحديث 1820 - 1955 ) وفى معرض حديثه عن الخلافات التى نشبت داخل جمعية الاتحاد السودانى السرية قال ص 311 ( واتخذ الخلاف اشكال ومظاهر مختلفة ، وبينما كان ذلك الخلاف محتدما ، تناهى الى اعضاء الجمعية ان المخابرات اخترقت صفوفها فكانت تلك الضربة القاضية التى ادت الى حلها ، ويقال ان سليمان كشة هو الذى افشى اسرارها مما دفع الشاعر توفيق صالح جبريل الى هجائه قائلا :-
                      
                               سليمان كان بديع الزمان    معانيه ساحرة ساخرة
                              هوى لا يعى ببساط الرياح  وحطّم مرآته الساحرة
                              فباع الضمير بفلس(لولس)   الا اين ذمتك الطاهرة
(وولس هو مديرالمخابرات) انتهى 

                 اذن نحن هنا امام حقيقة مثيرة  قدمها باحث واكاديمى ومؤرخ شديد الاعتزاز بقدرة منهجه فى اكتشاف الحقائق الغائبة ، واستنادا عليه فقد وصل الى حقيقة ان سليمان كشة هو الذى افشى اسرار جمعية الاتحاد السودانى السرية فى عشرينات القرن العشرين لمخابرات الادارة البريطانية التى ادارت شئون السودان فى ظل الحكم الثنائى فى الفترة من 1898 وحتى تأريخ استقلاله فى 1956 ، وان افشائه لأسرار هذه الجمعية ادى الى حلها ، وبنى طرحه هذا على بيّنتين ، الاولى اقاويل مجهولة النسب والثانية ابيات شعرية منسوبة للشاعر توفيق صالح جبريل الذى اجمع الباحثون فى تأريخ تلك الفترة ، انه احد الخمسة المؤسسين لجمعية الاتحاد السودانى السرية ومن بينهم سليمان كشة .

                ولمناقشة هذا الطرح يصطدم المرء فى اوّله بأسئلة محيّرة ابرزها ، كيف تسنى له ان يأخذ بأقاويل مجهولة النسب كحقيقة مسلم بها ويبنى عليها اتهاما شنيعا لرجل ظلّ محل ثقة ومصدرا اساسيا لباحثين كبار امثال البروفيسور محمد عمر بشير والدكتور جعفر محمد على بخيت والبروفيسور احمد ابراهيم دياب والباحثة اليابانية د. يوشيكو كوريتا بخلفيتها الماركسية وغيرهم ممن تناولوا تاريخ تلك الفترة ؟ ما الذى منعه وهو الباحث فى التاريخ ان يخضع هذه الاقاويل لمطارق بحث صارمة بما توفر له من مراجع بحكم موقعه الاكاديمى ليجلى مصادرها ومدى ما تتحلى به من مصداقية ثم مقاربة ما جاءت به مع وقائع واحداث تلك الفترة ونشاط سليمان كشة داخلها للوصول الى صحة تقاريرها من عدمه ، بأختصار ان يجعل منها موضوعا للبحث ، هذا فيما يختص بالبيّنة الاولى .

                اما البينة الثانية ، فهى ابيات الشعر المنسوبة لتوفيق صالح جبريل والواردة بديوانه (افق وشفق) والذى قامت دار الوثائق المركزية بتحقيقه ونشره ، والابيات ضمن قصيدة بعنوان (كش ملك) وردت بالديوان ص 86 كما يلى :-

                               سليمان كان بديع الزمان      معانيه ساحرة ساخرة
                  هوى لا يعى ببساط الرياح    وحطّم مرآته الساحرة
                 ترامت به عاصفات الشجون   وجافته دنياه  والآخرة
                 رتعنا معا فى ازدهار الشباب   وفلك الامانى بنا ماخرة
                 ففارقنا فى ضلال بعيد          وسارت سفينتنا زاخرة
                 بمن كانوا يبتغون الحياة        ونالوا هديتها الفاخرة
                 فباع الضمير بفلس(لولس)    الا اين ذمتك الطاهرة
                 لجأنا اى الله لما بغى          وقتنا عنايته الساهرة
                 معان لها لمعان ماضى        تلألىء آياته الباهرة
                                25\4\1955
هامش(1) للقطعة ثلاث نسخ خطية ورد فى نسخة منها قول الشاعر : من نافذة الفناء .

                 وما يهمنى هنا هذه القفزة التى نقلنا بها د. محمد سعيد القدال من البيت الثانى مسقطا اربعة ابيات ليصل الى بيت القصيد (فباع الضمير بفلس (لولس) ...الخ ، فهذه القفزة تشى بنوايا متلهفة للأتهام ، يعزز هذا القول اصراره على تكرار هذا الاتهام فى مقدمته التى سطّرها للباحثة اليابانية د. يوشيكو كوريتا فى مؤلفها ( على عبد اللطيف - بحث فى مصادر الثورة السودانية ) ثم فى مقال له بجريدة الصحافة العدد (4124) بتاريخ 24 نوفمبر 2004 تحت عنوان ( ثورة 1924 بعيون يابانية ) (2\2) ، وبالرغم من اتهامه بعدم موثوقية سليمان كشة كمرجع ، الا ان الباحثة اليابانية د. يوشيكوكوريتا بنهجها الماركسى الذى يعتزبه د. محمد سعيد القدال لم تأخذ بهذا الاتهام لا فى مؤلفها المشار اليه اعلاه ولا عقب صدوره ، اذ انه وبمعرفتى المتواضعة للمنهج الماركسى من خلال الذين اعتمدوا عليه فى اطروحاتهم امثال حسين مروة ومحمد اركون وغيرهم ، يقتضى ان مثل هذا الاتهام يستوجب البحث عن حقيقته داخل هذه الابيات وداخل الاسماء التى وردت بها وداخل الديوان الذى نشرت به وعلى وجه خاص داخل مقدمته وداخل عالم سليمان كشة وعلى وجه الخصوص علاقته بتوفيق صالح جبريل .

               فقد ذكر محققا هذا الديوان ص 14 تحت عنوان جانبى (اسلوب التحقيق) ما يلى :
(وتزيدعدد مسودات القصيدة الواحدة منها فى اكثر الحالات على ثلاث نسخ والواضح فى كل المسودات والمخطوطات محاولة تصنيف الشاعر لأعماله توطئة لنشرها ، فأبياته مذيّلة فى الغالب بتوقيعه والتأريخ ومكان النظم بالاضافة الى ترقيم الابيات ) وفى هامش ص 86 حيث وردت ابيات قصيدة (كش ملك) محل الاتهام ، اشارا ان للقطعة ثلاث نسخ خطيّة ورد فى نسخة منها قول الشاعر( من نافذة الفناء) وما يبعث على الحيرة والتسآؤل هنا ، لماذا تخلى المحققان عن اسلوبهما الذى اتبعاه فى احاطة القارىء بالأسم الثلاثى للمقصود فى الابيات حينما يرد اسمه الاول فقط او لقبه كما بيّنا ذلك فى ص 16 حتى يعلم القارىء ان المقصود بسليمان فى هذه الابيات هو سليمان كشة وان المقصود بالمرآة هى مجلته (مرآة السودان) التى اصدرها فى العام 1933 ، وعما اذا كانت النسخ الثلاثة لهذه الابيات ضمن النسخ المزيلة بتوقيعه وخطه ام خلافه ؟ اذ ان هذه القصيدة تبدو لى من اخطر قصائد الديوان لما تحمله من تهمة خطيرة لا تطعن فى شخص سليمان كشة فحسب وانما فى شخص توفيق صالح جبريل ايضا ، فضلا عن تصادم معطياتها مع حقائق معلومة اهمها :-
1- ان (ولس) بعد تخرجه من جامعة اكسفورد فى العام 1904 عمل بالسودان فى الفترة من 1905 وحتى 1914 فى وظيفة ادارية بكل من مديرية كردفان والبحر الاحمر ، ثم شغل منصب مدير المخابرات بالانابة فى الفترة من 1914 وحتى 1919 ثم مديرا للمخابرات فى الفترة من 1919 وحتى 1926 تأريخ انتهاء خدمته بالسودان ( راجع د.جعفر محمد على بخيت فى الادارة البريطانية والحركةالوطنية فى السودان 1919-1939 ) .
         
             فلنبحث فى ظل هذه المعلومة عن الحقائق التى يمكن ان تربط علاقة سليمان كشة (بولس) هذا للدرجة التى تدفعه لبيع ضميره له : -
            الحقيقة الاولى ، ان سليمان كشة بعد استشهاد والده فى معركة كررى ، تكفل به خاله حاج محمود المكى سر تجار مدينة (ودمدنى) آنذاك وعمه ابو فاطمة باكاش التاجر المعروف بكل من سواكن وبورتسودان ، وانه عقب تخرجه انخرط فى العمل التجارى حتى عد فى عام 1919 من اثرياء السودان حسب ماورد فى (رواد الفكر السودانى) لمحجوب عمر باشرى وفى موسوعة البروفيسور عون الشريف قاسم (تأريخ القبائل والانساب فى السودان) ، اى انه لم يكن فى حاجة الى فلوس (ولس) ليبيع ضميره .
      
           الحقيقة الثانية ، ان سليمان كشة وتوفيق صالح جبريل من ضمن الخمسة المؤسسين لجمعية الاتحاد السودانى السرية ،ولم يسبق ان ورد من اى من هؤلاء المؤسسين ما يشير الى اتهام احدهم للآخر بافشاء اسرار الجمعية ، بل ان د. جعفر محمد على بخيت اشار فى مؤلفه (الادارة البريطانية والحركة الوطنية فى السودان 1919- 1939 ) انه تسلم من سليمان كشة وتوفيق صالح جبريل بعض الوثائق والمستندات الخاصة بجمعية الاتحادالسودانى السرية ) كما ان توفيق صالح جبريل على وجه الخصوص كان الوحيد من بينهم الذى تكاد افاداته حول تلك الفترة فى حكم الندرة ان لم يكن العدم ، ولم يسبق ان تسربت منه اى معلومات حتى فى اكثر ايام الدهليز هياما وحزنا وعزلة ، وان اقوى اسباب الغموض التى احاطت بتأريخ تلك الفترة يعزى فى تقديرى الى تكتم اعضاء هذه الجمعية لأسرارها ، فهم اشبه بمغارات سرية لا مداخل لها ولا مخارج منها .

              الحقيقة الثالثة ان مجلة (مرآة السودان) اصدرها سليمان كشة لأول مرة فى 1933 اى فى تأريخ لاحق لتأريخ نهاية خدمة (ولس) بالسودان ، وهى فى حقيقتها مجلة ناطقة بأسم الجمعية وممولة عن طريقها ،

              والحقيقة الرابعة ان توفيق صالح جبريل قال فى قصيدته المعنونة (رجاء الى اخوانى الشعراء والغاوين) والواردة بذات الديوان ص 16 ، حينما عزم جمع قصائده لأصدارها فى ديوان :

                ان ضاع شعرى (فالمبارك) مرشدى   و(نجيلة) والشاعر ابن رجائى
           لولم ينر (منير)  مبعث ضوئه                 يأتى بنور كالبريق فجائى
           واذا نسيت (فكشة) يدنى المدى          و(الازهرى) الناضر الارجاء
الى آخر القصيدة المحتشدة بأسماء عدة ، وفى الهامش بذات الصفحة ذكر المحققان تعريفا كاملا بالآسماء الواردة بين القوسين فى الابيات ، ومن ضمنهم سليمان كشة المعنى فى البيت الثالث ، فكيف يستقيم ان يأتمن الشاعر توفيق صالح جبريل على ذاكرته من يصفه ببائع الضمير لمخابرات الادارة البريطانية بالسودان ؟ ليس هذا فحسب بل ويمده بقصائده لنشرها بالمجلة ، ففى 21\11\1956 نشر له سليمان كشة بذات المجلة تحت عنوان الى الشهيد عبيد حاج الامين قصيدة منها هذه الابيات :

                    جاهدت لا مثير ما تخشى الردى     وظللت تعمل والانام هجود
                    وأرتك اكتاف الخلود مجاهدا          ما بينى وبينك يا (عبيد) بعيد
ثم ينشر له فى 11\11\1957 قصيدة (شهران سهران ) حينما كان طريحا بمستشفى الخرطوم جاء فيها :

                    طال ليلى برح الالم    وبرانى السهد والسقم
            يا رعى البر الرحيم(اخا)    تؤامين اخت بره عم
           وفتى جلّت مواهبه        مفرد فى طبعه علم
           واخلاء لطلعتهم           يتوارى الداء والسأم
           اين سمار الضحى اجفو   وندامى الكأس اين هم
           ان نأوا والداء يعبث بى   لأدنو والعفو منسجم
  وكل هذه القصائد تأتى فى تاريخ لاحق لتأريخ قصيدة (كش ملك) محل الاتهام ، فأذا كان قد فات على المحققين الانتباه لتصادم مضمونها مع كل هذه الحقائق واهملوا لسبب اولآخر الوقوف والتأنى لتمحيصها والتأكد من صحة نسبتها للشاعر خاصة وان الديوان كان قد تنقل فى رحلة ليست بالقصيرة من يد لآخرى حتى وصل الى دار الوثائق المركزية من لجنة النشر بوزارة الارشاد آنذاك ، فكيف فات على د. محمد سعيد القدال ان يقف ولو قليلا عند هذا التصادم العنيف بين مضمون قصيدة (كش ملك) وهذه الحقائق قبل ان يصدر اتهامه لسليمان كشة ، او على الأقل النظر اليها من خلال بيت الشعر القائل:

                 وهب قلت ان هذا الصبح ليل       ايعمى العالمون عن الضياء
لا شك عندى ان البّينات التى اعتمد عليها د.محمد سعيد القدال فى اتهامه لسليمان كشة بافشاء اسرار جمعية الاتحاد السودانى لمخابرات الادارة البريطانية بالسودان بيّنات زائفة ، وان تلهفه لأصدار هذا الاتهام دون تمحيص او دراسة يثير كثيرا من الأسئلة حول مصداقية اطروحاته حول تأريخ هذه الحقبة مع مثل هذا الحكم المتعجّل ليس فى حق سليمان كشة كأحد المصادر الموثوق بها فى تأريخنا فحسب وانما فى حكمه الغريب القائل بحل جمعية الاتحاد السودانى السرية بناء على افشائه اسرارها للمخابرات دون ان يقدم ما يثبت صحة ادعائه هذا ، اخشى ان يكون تأريخنا قد تعرّض فى كتابته لمثل هذه الاحكام الجائرة التى تتخذ من ابيات شعر اشبه بحجر العصفورين حين يسقط من يد صياد خائب دليلا على صدق اقاويل مغرضة ، فقصيدة (كش ملك) تبدوشبهة الدس فيها اقوى من ان تكون صادرة من شاعر رافق المتهم رحلة طويلة فى النضال من اجل التحرر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...