السبت، 30 نوفمبر 2013

امرأة ككل النساء


                      يمر يوميا بعشرات النساء ، وكان قد مر من قبل بمئات منهنّ ، بل مر بآلاف ، وكل واحدة منهنّ تشعره بالرضا وان الدنيا ما زالت ملأى بمن يحتفى بالجمال ، كل واحدة منهنّ حين يراها فى الطريق ، يرى لمحات جميلة عالية التكلفة مصحوبة برسالة قصيرة تقول : التجمّل واجب بشرى ، رسالة تذكرك بقول حبر الأمة عبد الله بن عباس رضى الله عنه وارضاه (كنّا نتجمّل لهنّ كما يتجملنّ لنا) .

                       لكن كل هذا العدد من النساء الذى صادفه لم يجد بينه تلك المرأة التى حكت له جدته عنها فى الطفولة ، ولا تلك التى ضجت بها كتب كثيرة ، ولا تلك التى كانت تلوح له فى صباه كل ليلة على نجمة بعيدة وتختفى ، ثم تظهر وتختفى ، حتى يغلبه النعاس ويأخذه الى صبح مشبّع بالأمل ، ولا تلك التى رسمها بنفسه بكل تفاصيلها الدقيقة وخزّنها فى مخيلته فى اقرب جزء للعين  حتى اذا رآها ، شحذ نفسه وانغمس فيها ، ومع ذلك ظل شعوره اليومى واعدا بان روحه على موعد قريب مع رفيقتها ، رفيقة يعرفها من الحلم ، ويعرف ان بينهما لقاءات سابقة غامرة بذكريات حميمة وبوعود صادقة لم تخب ابدا  .

                        قال لى ان (حياة) كانت جنونه الأول ، وانه بعد خمسين عاما من آخر يوم رآها فيه ، اخذته حالة من العشق المنفلت ، فوجد نفسه يطرق باب بيتها بلهفة وشغف محموم ، وحين علم انها رحلت مع زوجها منذ عقود الى حى بعيد لم ييأس ، وكاد ان يثقب آذان ذلك الحى البعيد بطرقاته الشغوفة ، من فتح الباب كان فتى يرتدى ملابس المرحلة الثانوية ويبدو انه كان عائدا لتوه من حصص مسائية ، سأله : استاذة حياة موجودة ؟ صرخ الفتى : ( يا حبوبة  فى واحد عايزك بره ) لم ينتظر اذنا بالدخول ، كانت تجلس على سرير قرب الباب ، فأندفع نحوها والدمع يملأ عينيه وهو يسألها : عرفتينى ؟

                         اكاد اجزم بأن هذه المرأة عرفت فى تلك اللحظة ولآول مرة فى حياتها معنى الهلع ، لكنه بعد ان حكى لها قصة حبه الاول معها ، بكت واحتضنته كأحد احفادها ، وتذكرت كيف كان هذا الطفل الشقى يتعب امه فى العصريات ويجبرها لتقطع ذلك المشوار الطويل كى تشبع شوقه الى رؤية مدرسته فى الروضة ، واعلم علم اليقين انه لم يكن وحده فى هذا الجنون ، ولا امه كانت وحدها فى مشاوير الشوق تلك ، ولكنه الوحيد من بينهم الذى اشتعل شوقه ثانية مثل بركان راوغ خموله الدنيا سنينا طويلة وانفجر فجأة ، اردف زيارته هذه بأخرى اصطحب فيها امه وزوجته وابناءه وكل منهم يعلم القصة بتفاصيلها ، وبينما هو يترجى فىّ ان نذهب سويا لزيارتها مرة اخرى ، كنت قد سرحت هائما فى قداسة عالم الامهات ذاك .

                         قال لى ان الشعور الذى احسه تجاه مدرسته وهو طفل لم يتعد الرابعة من العمر بعد ، هو ذات الشعور الذى احسّه تجاه زوجته منذ اللحظة الاولى التى التقى بها ، وهو ذات الشعور الذى احسّ به تجاه اخريات صادفهنّ فى شبابه ، ثم تسآل متعجبا : اين اختفن ؟ اين اولئك اللواتى ملأننى بالعشق حد الأعياء ؟

                          خفت ، خفت على ابواب هادئة فى احياء هذه المدينة من طرقات فجائية ، وخفت عليه اكثر من سوء ظن القابعين خلفها ، فمع (حياة) كان فرق العمر عاصما من سوء الظن ، وامتلأت خوفا حد الارتباك والتيه حين ملأت يقينى فجأة فكرة ان جنون العشق هذا خاصيّة حيّة داخل كل انسان ، وان منظومة الكبت والقهر التى اعتمدتها كثير من المجتمعات لن تقوى فى لحظة انفلاته من السيطرة عليه ، فما هو مصدر هذه الجاذبية الهائلة التى تجمع رجلا بأمرأة دون اى اعتبار للسن او العرق او الدين او اللون ، دون اعتبار لأى شكل من اشكال التمييز التى الفتها المجتمعات ؟

                           لا علم لى ، ولكن شيئا ما يكمن فى روح المرأة ، وشيئا ما يكمن فى جسدها ، وشيئا ما يكمن فى عقلها ، او هذا الشىء الموزع فى كل نواحى المرأة هو مصدر الجاذبية ، وتلك المرأة التى طافت بها الحكايات ، وتلك المرأة التى تلوح للمرء ليلا من نجمة بعيدة ، وتلك التى ترسمها فى رأسك ما هى الا امرأة ككل النساء .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...