الخميس، 28 نوفمبر 2013

الشاهد الثالث


                      يقولون ان للقدر تصاريف مبدعة فى الانتقام ، لكنه اعتبر هذا القول محاولة خبيثة من الظالمين لتحييد او تعليق ردة فعل المظلومين الى اجل غير مسمى ، ومضى فى طريق مظلم لا يستطيع ان يرى فيه مجرد لمحة من جمال الحياة ، لم يستطع ان يرى فيه حتى اشراقها واشراقاتها كل صباح ، اصبح خليلا مخلصا لليل ، يبحث فى عتمته عن كهف او مخبأ سرى يجدل فيه حبالا من مسد اعدها ليشنق بها ذلك المسئول الذى سلّمه قرار فصله وشماتته النتنة كانت تتدفق من كل منفذ فى جسده ، من اعلى الى اسفل ، حتى بدا فى نظره (قربة) بأكثر من ثقب ، (قربة) مصنوعة من جلد نتن ، كانت تلقى باقبح فضلات البشر فى تلك اللحظة ، تلك اللحظة التى استولت عليه بالكامل ودبغت عقله وقلبه بالحقد والكراهية والرغبة المنفلتة فى الانتقام .

                     لم يدر ان الكهوف والمخابىء السرية التى يبحث عنها فى عتمة الليل ليكمل مشهد انتقامه المرتجى بعيدا عن خائنة الاعين ، قد سبقه اليها كثيرون على مر العصور ، بعضهم تغلّبت عليهم انفسهم الملهمة بالتقوى فأتخذوها معزلا لهم من ظلم الناس فى الدنيا ومن نصبها ، وحين خرجوا منها ، اضاءوا دروب البشرية بالخير والجمال ، وبعضهم تغلّبت عليهم انفسهم الامارة بالسوء فأتخذوها مطبخا لتغذية الشر المتفشى وباءا على الطرقات ، وحين خرجوا منها كانوا شياطين الانس الذين ينتمى اليهم امثال ذلك المسئول ، المتمترس بعضهم فى اكثر من مفصل من مفاصل الدولة ، هؤلاء لايخيفهم شىء سوى الطهر والعفاف والنزاهة ، فمتى اجتمعت هذه الفضائل فى احد زملائهم صار على الفور عدوا لهم ، وعلى الفور يبدأون العمل على شطبه نهائيا من سجل الوظائف .

                        الوظيفة ، هذا السجن الفقير الذى يشدهك بتفاصيل كثيرة حتى لا ترى تراتبيتك فى سلك العبودية الرسمى ، لا تستحق ان تمارس من اجله هذا الطقس الليلى الذى يأخذك من كهف حاقد الى مغارة ممتلئة بالكراهية الى مخبأ مكتظ بالغل والغبن ، لا تستحق ان تسمح لها ان تشحنك حتى النخاع بفكرة الانتقام ، لاتستحق حتى ولو بدت لك رمزا صغيرا يتيح لك خدمة وطن تحبه ، وحتى لو بدت لك حقا من حقوقك التى يكفلها لك حق المواطنة ، وحتى لو بدت لك معنى زاهيا للكرامة ، فهى فى الآخر ، سلسلة طويلة من القيود التى تمتد حتى حياتك الخاصة وتدمى جسدك وروحك طوال فترة خدمتك ولا تمنحك فى الختام سوى معاش بائس وذكريات بئيسة ، ولكن هذا المسكين لم يفهم ذلك ولم يستطع صبره ان ينتظر عدالة السماء ، بل اخذ يحرق سنوات ما تبقى من شبابه فى ممارسة طقسه الليلى آملا فى ان يكون صباح الغد موعد انتقامه المقدس ، ولكن الصباح فى كل يوم يتركه فريسة لأرهاق السهر الطويل ويغيبه فى نوم عميق بينه وبين النهارات قطيعة تامة .

                          الصباح الوحيد الذى بدا فيه ان قدرته على الانتقام قد بلغت تمامها وانتفض من سريره وحشا مرعبا متلهفا لتنفيذ خطة  انتقامه المحكمة التى راجعها فى عقله طيلة تلك الليالى الطويلة ، اتاه خبر وفاة ذلك المسئول فى حادث حركة شديد البشاعة ، فازداد حقده حقدا على حقد وهرع سريعا ليلحق بمراسم تشييعه ودفنه ، وكان من الغرابة بمكان ان يبقى بعد انصراف المشيعين وهو منشغل بتحديد معالم موقع القبر .

                           بعد ثلاثة ايام ، عاد الى القبر وهو يحمل شاهدا رخاميا كتب عليه (هذا قبر المرحوم ... اسأل الله ان يغفر له ما ارتكبه من مظالم ويحاسبه فيما يخصنى حسابا عسيرا) وغرزه شاهدا ثالثا فى منتصف جانب القبر . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...