السبت، 23 نوفمبر 2013

من ابكى ارض المسيح ؟


                      البابا فرانسيس بابا الفاتيكان ، اكد ان الكنيسة الكاثوليكية لن تقبل بشرق اوسط خالى من المسيحيين ، وذلك فى كلمة القاها بالفاتيكان امام جميع بطاركة الكنائس الشرقية واساقفتها (بى بى سى العربية) ، جاء ذلك بعد لقاء البابا مع قادة كنائس من عدة دول من بينها مصر والعراق ولبنان وسوريا ، وهى الدول التى شهدت مناطقها المسيحية عنفا من ذلك النوع الذى يقود الى التهجير .

                       حديث البابا هذا جاء قبيل الزيارة المقررة له الى روسيا ، القوى العظمى الداعمة للمسيحيين الكاثوليك فى الشرق الاوسط ، والحديث فى مجمله كما ورد بالبى بى سى يشى بحراك مسيحى يجرى بزهد تام فى جدوى اى مساهمة لحل هذا الصراع من قبل المؤسسات الرسمية او من قبل القوى الدينية او القوى الاجتماعية داخل الدول الاسلامية التى تحتضن الاقليات المسيحية كالمذكورة اعلاه ، فثمة تأريخ طويل من حراكات مسيحية اسلامية سابقة سعت لتمكين التعايش الا انها اصطدمت فى خاتمتها بصعود حالات العنف الى مستويات مهددة لوجود الاقليات المسيحية ، وفى هذا اشارة مقلقة للمجتمعات الاسلامية بالشرق الاوسط الى ان حالة العجز التى لازمتها طويلا فى التعامل مع هذه المشكلة ستقودها فى مقبل الايام للتعامل مع حلول مفروضة عليها من الخارج ، ومحاولة تصور ما ستكون عليه مآلات هذه الحلول ، لن يبعدنا كثيرا عن مناخات ميادين الحروب الصليبية التى لا تزال تتدفق حلما داميا من بعض العقل الغربى ، للدرجة التى طفح به يوما الرئيس الامريكى السابق جورج بوش عقب تفجير برجى التجارة العالمية ، فثمة مشهد يلوح فى الآفاق ، تبدو فيه عملية اعادة التوطين باستقطاع الاراضى معركة دامية لا تقل مآسيها وآلامها عن عملية اعادة التوطين بالترحيل القسرى لمجموعات عرقية ودينية تنتمى لثقافة واحدة ، فهذه المجموعات عليها ان تبكى فى كل مرة ذكريات حياتها المرتبطة بارض لن تدخلها ثانية الا كالأجانب .

                         لاشك ان البابا والاخوة المسيحيين الذين شاركونا الحياة فى هذه البلدان ، على علم بالعوامل الداخلية التى فجّرت مثل هذا الصراع العنيف بين مجموعات اسلامية متشددة والاقليات المسيحية ، ويعلمون ان ما طالهم من جراء تلك العوامل التى ولّدت ذلك الصراع العنيف الذى اخترق قدرة المسلمين والمسيحيين فى التعايش الآمن المستقر الذى امتد قرونا من الزمن ، طال ايضا كثيرا من المسلمين بمختلف مذاهبهم ، فهذه قصة طويلة لم تنته بعد ، ولكن لنناقش المشكلة على ضوء العوامل الخارجية ، فالأجندة التى تقف وراءها تسعى  الى اعادة تخطيط العالم استنادا على العرق والدين والثقافة ، فمشروعها لأعادة تخطيط العالم على هذا النحو ، هو المشروع الاقوى الذى يجرى فى الشرق الاوسط والذى تاذت منه الاقليات المسيحية بشدة ، فاذا كان الفاتيكان بكل ما يمثله من ثقل يغطى اكثر من 33 % من مجموع البشرية ، خارج اطار هذا المشروع ، فأن الصراع الحقيقى ليس ذلك الواقع بين مجموعات اسلامية متشددة واقليات مسيحية ، لأن الجماعات الاسلامية فى ظل هذا المشروع لن تكون وفى احسن الاحوال سوى ادوات مضللة لخدمة اجندة غربية تجرى بمعزل عن اكبر مراكزها (الفاتيكان) ، لذا فالصراع الحقيقى هو بين تلك الاجندة الغربية والديانات بما فيها الدين المسيحى ، بمعنى اكثر دقة ، فأن تلك الاجندة تسعى الى قفل خريطة كل دولة عند آخر نقطة وصل اليها دينها الرسمى وشكل فيها غالبية ، او بمعنى اكثر صراحة ، انتهاء عصر التبشير ، على الاقل فى الدول التى يغلب فيها احد الاديان بحيث لا يجتمع فيها دينان ، ويبدو لى اعلان اسرائيل القاضى بيهودية الدولة اولى تجليّات هذا المشروع بشكل طوعى ومتلهف ، والفكرة الاساس قال بها صمويل هنتجتون منذ الثمانينات من القرن الماضى ، (راجع قول صمويل هنتجتون فى مؤلفه صراع الحضارت ص169 الطبعة الاولى من دار الامل للنشر والتوزيع 2006 ، القول وارد بهذه المدونة فى موضوع (دولة الجوهر ودولة الخلافة ) .

                        روسيا لن تستطيع ان تفعل شيئا فى ظل صراعها القائم مع الشعوب المسلمة هنالك كما فى الشيشان ، فهى كقومية كبيرة ، تلتقى مع هذا المشروع فى مسألة اعادة ترسيم الحدود بناءا على العرق والدين والثقافة ، لأنها ترى الوجود الاسلامى المنتشر فى اراضيها وفى دول الاتحاد السوفيتى سابقا ، مصدرا دائما للصراعات والحروب ، ولن تجد سانحة افضل من هذا المشروع للتخلص منهم ، وهو المشروع الذى يجرى هنالك وجسّدته حربها فى الشيشان فى اكثر صوره جلاءا ، وكذلك حروب دول منظموتها السابقة فى مناطق اخرى ، وصار حال المسلمين هنالك مثل حال المسيحيين فى الشرق الاوسط .

                          فالفاتيكان احد اكبر المراكز الدينية فى العالم مثله مثل غيره من المراكز اسهم بوعى منه او بغير وعى فى بناء هذا المشروع الذى يجرى الآن فى اكثر من منطقة بالعالم ، فتأريخ البعثات التبشيرية حافل بسعيها المحموم لتوطيد دعائم الفرز العرقى والدينى والثقافى ، وخير مثال لذلك ما حدث بجنوب السودان طوال القرن الماضى ، حيث شكلّت عقبة كأداء امام اندماجه فى مجتمع الغالبية فى الشمال المسلم ، حتى تكللت مساعيها اخيرا بخروجه دولة ستعانى طويلا من مسألة الهوية فى ظل غابة اعراقه الكثيفة ، فثمة تناغم بين رغبات دينية ذاتية ومشروع اعادة بناء العالم ، فمثلا لا يمكننى ان اتصور بأى حال من الاحوال ان يسمح المسلمون لغيرهم ان يشاركوهم شعائر الحج حتى لو كان لهذا الغير تأريخ قديم فى اداء هذه الشعائر ، ولا اعتقد ان قوى دينية او غربية بخلاف الاقلية من اصحاب الديانات القديمة ستمتلك الجرأة للأحتجاج على هذا الموقف ، فثمة صراع مؤجل حول القدس ينتظر محاكاة الآخرين من اصحاب الاديان .

                           فالرغبات الذاتية هى الثغرة التى ينفذ منها مثل هذا المشروع تماما مثلما ينفذ منها شيطان الشر الاكبر الذى ادمى قلوبنا بما فعله بأقلية الروهينيغا المسلمة ببورما ، فالبوذيون فى كل بقاع العالم يتباهون بقدراتهم  على خلاص الروح من آلامها وفتحها كما يقول شاعرنا ضلفتين على فضيلة التسامح ، لكنهم فى بورما لملموا كل آلام الدنيا وحرقوا بها هذه الاقلية المسلمة واجبروها على مغادرة اراضيها وهو الهدف المبتغى من وراء كل تلك البشاعات التى شهدناها ، فالرغبات الذاتية حينما تتغطى بالدين تتصادم بشدة مع فكرة الخلق التى بيّنها الله عزّ وجل فى قوله (انا خلقناكم شعوبا وقبائلا لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) وللأسف فأن الرغبات الذاتية ظلت حصنا حصينا احاط بكل دين على مر العصور .

                           لقد اهدرت المراكز الدينية من قبل وقتا ثمينا وجهدا كبيرا فى ما يسمى بمؤتمرات حوار الاديان ، فهى فى تقديرى جلسات تنافسية تشغلها الاحصاء والمساحات الدينية لتفادى مواضع الاحتكاكات اكثر من التكليف الحقيقى المناط برجال الدين وهو بسط القيم النبيلة التى جاءت بها الاديان لتهذيب البشرية ، فالاصل ان اى مساحة يغطيها الدين الحق المجرد من الرغبات الذاتية ، ومهما كان هذا الدين فهى ارض تخشى الله وتتعاون على البر والتقوى ولا تأبى اخوانهم فى الله ولا اخوتهم فى البشرية كما قال الامام على بن ابى طالب رابع الخلفاء الراشدين ، وهذا هو المفهوم الذى يجب ان تدعو اليه المراكز الدينية و تبحث فى ضوئه عن اسباب العلة التى عكست مقاصد الدين من الخير الى الشر ، وجعلت منه سلاحا لكل صاحب هوى كم اذاق به البشرية الوانا من الألم والعذاب .

                          كل الانبياء والرسل بكوا من قبل لحال البشرية ، وبذلوا انفسهم رخيصة لتنجوا هذه البشرية من عذابات الدنيا والآخرة ، وكل الارض تبكى الان انبياءها فى ظل الجحيم المشتعل هنا وهناك و ليس ارض المسيح وحدها .
                           

                           

                            

                           

                    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...