الجمعة، 25 أكتوبر 2013

غار صدقى


                      خيبات العاشقين تحفر عميقا عميقا فى الروح ، وتبنى مزارا سريا اشبه (بتاج محل) يتسللون اليه خلسة عندما يأتى المساء ، وعندما يأتى المساء يبدأ مشوار يوم جديد شديد الوطأة على قلوب مفطورة ، تتحلّق فى غرفة صغيرة ضيّقة اطلقوا عليها اسم (الغار) ، كانت فى الاصل زريبة اغنام تتوسط حوش منزل اهل صدقى ، واستعلت عليها ثقافة الوظيفة الكاذبة ، فتراجعت الاغنام الى ركن المنزل واقام صدقى مكانها (الغار) ، فى هذه الغرفة او فى هذا (الغار) ، تبكى سرا قلوب شابة كل ليلة وتبث شكواها سرا ايضا مع الاغنيات ، ما اتحدث عنه هنا ، وقائع حقيقية لذوات منسية حرقت سنوات من عمرها فى الهيام  مع الاغنيات ، استدعاها الى الذاكرة خبر فريد من نوعه ، ليس هذا وقته ، المهم ان هذه المجموعة كانت حين يتقدم الليل بأقسى اسلحته ، يستدعون السيدة ام كلثوم ، سيّدة اغنية (الغار) المقدسة ، الاغنية التى تفتح مزاراتهم السرية علنا امام وحشة الليل ، انها (فكرونى) ، انا متأكد جدا ، انهم فى تأريخ اذاعة هذه الأغنية كانوا صبيانا يلعبون فى الشوارع لعبات شقيّة ، يلعبونها بلا استحياء بملابسهم الداخلية ، ثم ينامون ملء جفونهم حتى عن شوارد مطابخهم ، ان جاز تسمية تلك (الجخانين) مطابخا ، فما الذى زرع الليل فى نفوس هؤلاء الفتية خصما عنيدا اختاروا له (غار) صدقى ميدانا لمنازلته ، واعدوا له اسلحة تهزم الف ليل وليل ؟

                         لو امتلكت حوائط (الغار) القدرة على البوح بما اسرّه اولئك الفتية فى دواخلهم كما تفعل حوائط (الفيسبوك) هذه الايام ، لشهدت ليالى الانترنت فى السودان سرادق عزاء نوعية ، او لو كان (الغار) حاضرا فى زماننا هذا لصار مقهى اليكترونيا غير محكوم بمواقيت ، فقط يغلقه مدى قدرة الطرف الثانى على السهر ، المهم كل تأريخ (الغار) هذا بما حمله من لواعج العشق ، لم يستطع ان يستثنى تلك القلوب الفتيّة من الانخراط فى طقس زواج عمره قرون من الزمن ، صدقى اكتشف ان له ابنة خالة فى نواحى النيل الابيض فحزم حقيبة واصطحب معه عددا محدودا من كبار اهله وعاد الينا مقترنا بأمرأة لم يرها الا قبل كتب الكتاب بساعات قلائل ،
 وبدون ذكر اسماء ، كانت زيجات البقية على النحو التالى ، الثانى اختارها من خارج نطاق الاسرة لأنها لم تدخل سينما ولم تشاهد فيلما فى حياتها ، والثالث ترك الاختيار لوالدته ، والرابع اختارها قروية من ريف بعيد ، والخامس تعامل مع الامر كأنه يعنى شخصا آخر للدرجة التى كان ينسى فيها اسم خطيبته ، وتعايشوا جميعا فى سلاسة مع هذا الوضع الغريب واصبحوا آباءا يرددون اسطوانات الشكوى ذاتها التى لم تكف عن الدوران عقودا وعقودا  .

                         صدقى الذى كان يدعى سلطان العاشقين ، اول من برع فى استخدام الكمبيوتر ، واكثرهم نشاطا فى التجوّل على الانترنت ، ولا استبعد ان تكون له اكثر من صفحة بأسم مستعار فى كل موقع من مواقع التواصل الاجتماعى ، واعتقد مع قليل من الجزم ان للآخرين ذات النهج ، لكنى واثق تماما واجزم بشدة ان جميعهم اذا دخلوا عالم الاسافير هذا فسيكونوا قد دخلوا بحثا عن رفيق الروح المختبىء فى اعماق اعماقهم ، وليس هذا ما يدعو للمخاوف والقلق فمثل تلك العلاقات النقية اذا بعثت ،لا يمكن ان تؤدى الى هدم اسرة او شرخ فى منظومة الاخلاق ، فالأحترام دائما سيّدها ايا كانت اسباب الفراق .

                          ان الخوف الاكبر والفزع الاكبر والقلق الاكبر ، حدث عندما دخل احدهم صفحته ومن هول ما رآه ، احسّ كأن تيس اهل صدقى قد غرز قرنه فى قلبه فجأة ، وكان صراخه المكتوم داخله يحاكى ارخميدس (وجدتها  وجدتها) ويا لسخرية الاقدار ، فقد هدمت  صرخة ارخميدس هذه مزاره السرى فى رمشة عين ، ثم تدفقت مشاعر اعرفها جيدا من شغاف شغافه تناجى ( من اى سماء هبط علىّ هذا الملاك الأخير) (كيف استطاع هذا الجمال القادم من جنّات عالية ان يلغى تأريخ عشقى كله ويشدنى اليه فى صراط مستقيم ، يشدنى اليه وحده لا غير) (كل اللغات تصطف الآن معى وتعجز ان تقول له ما اريد) وقولا كثيرا يفضح حالة اللوعة  التى اعترته ، و القصة  ببساطة ان مهووسا بالجمال اكتشف صورة امرأة سودانية غاية فى الجمال وغاية فى الابداع ، وقام بمشاركتها مع قائمة اصدقائه حيث جاءت الى حائط احد هؤلاء الخمسة الكبار ، ففجرت فيه براكين العشق الخاملة سنوات وسنوات ، ثم اكتشف لاحقا انها سيّدة وان وعيها لايقل جمالا عن جمالها وان امومتها تشعل حنين المرء الى طفولته الباكرة وحنينه للأرتماء فى حضن رؤوم ، ولم يملك الا ان يضيف الى جراحه جرحا جديدا ويناجى (يا غار صدقى انجدنى) .

                        هذه الوقائع الحقيقية استدعاها الى الذاكرة ، خبر انتشر على مواقع التواصل الاجتماعى يقول ان شيخا سبعينى اتهم بالتحرش على تلميذة فى مرحلة الاساس ، وضبط خطاب غرامى او خطابات لا اذكر كان قد ارسله اليها ، فى بادىء الامر اصابنى الذعر ان يكون المتهم احد مجموعة الغار ، ولكن (سبعينى) طمأنتنى كثيرا وان كنت على يقين انه مستقبل منتظر لهم ، اما الآن ، فأن الفضول يقتلنى لقراءة سطر واحد او جملة او كلمة من تلك الرسالة حتى وان كانت كتلك الكلمات التى كادت ان تثقب طبلة اذنى من كثرة سماعها ، ان الفضول يقتلنى كى اعرف سحر المرأة الغامض الذى ينقلنا من الجمال الى الرعب مباشرة مثلما نقلتنا اولا من السماء الى الارض ، ومثلما نقلت هذا الشيخ المسكين الى رعب معطّن بالفضيحة ، ومن الحب ما فضح !!
                         

                       
 ،  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...