الخميس، 29 سبتمبر 2011

ارض هاجر


                  السيدة هاجر هى ارفع بنات ملوك الزمان مكانة ، وأم سيدنا ونبى الله اسماعيل وزوجة ابو الانبياء ابراهيم عليهم جميعا السلام ، وقصتها هى قصة اهل الديانات السماوية فى مشارق الارض ومغاربها ، يتداولونها بتفاصيلها الدقيقة جيلا بعد جيل ، متأثرين بعظمة دلالاتها وما اضافته من نبل القيم والاخلاق والمبادىء لحياة البشرية ، وما يهمنى فيها هنا ، هذه الارض التى بدت لى اكثر المنافى رعبا فى التاريخ ( واد غير ذى زرع ) تحيط به جبال تترآى مثل حرس مهيب تحيط بها صحراء تتبعها صحارى لا شى يرتجى فيها سوى العطش والجوع ، هذه الارض الممسكة بكل خيوط الموت والتى تجلّت فيها رحمة الله وقدرته لأمرأة لم ينقطع حبل ايمانها به وهى تقطع اشواطها السبعة فى غمرة عطشها وخوفها على وليدها ، هذه الارض وبئرها التى رفعها الله من باطن الارض لتنبثق مياهها تحت قدمى ابنها آية زادت ايمانها به ايمانا ، هى كل ما يهمنى فى هذه القصة .

                 دعوة سيدنا ابراهيم ( واجعل افئدة من الناس تهفو اليهم ) استجاب لها الله محمولة على اقدام ( جرهم ) حين وطأت هذه الارض لتبدأ سيرة طويلة مع قداستها ، ومن هنا تبدأ قصتى ، اولها هذه الدهشة التى تصيب المرء حين ينظر الى هذه القبيلة العربية الراحلة بكل خيلها وخيلائها ، نساءها ورجالها ، عدتها وعديدها وقوة لا تخفى مظاهرها على احد ، مع كل هذا الحضور المهيب لهذه القبيلة ،  تقدم سادتها بسمو اخلاق مدهش وادب عربى رفيع يستأذنون امرأة نوبية وحيدة فى هذا القفر ليستقوا من بئر فجر الله مياهها من تحت قدمى ابنها ، فتأذن لهم ، ثم يطيب لهم المقام فيستأذنوها ثانية بذات السمو الاخلاقى وذات الادب الرفيع ، السماح لهم بالاقامة قربها ، فتأذن لهم ، وما يدهش هنا ، ليس هذا الاستئذان الذى بدا اول صك من قبل الميلاد تجلت فيه مفاهيم واخلاق وادب العرب فى المبادىء التى تحكم ملكية الارض بأحالة حق ارض هذا الوادى وبئره لأمرأة وابنها سبق وجودهما عليها حضور هذه القبيلة ، وانما المدهش هنا حقا هو هذا الخلق العربى الرفيع الذى تشبعّت به هذه القبيلة فى اعلاء الحق على القوة .

                   ثانى الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب اوصى قيادات جيش الفتح المتجه الى مصر ، وشدد فى وصيته على امرين ، الاول بألا يتملكوا الاراضى والثانى بألا ينشغلوا بالزراعة ، وهى وصية لاتقف دلالاتها عند اقتصار عملية الفتح على تبليغ الرسالة وانما تعدتها الى التذكير بأحقية شعب مصر فى ملكية اراضيه ، اى ان ملكية الارض ظلت فى اخلاق وقيم ومبادىء العرب قبل الاسلام وبعده ، من الحقوق التى لا يعلو عليها لا بالقوة ولا بالسلطة ولا بالغزو او الفتح ، يعنى انها حق ثابت منذ ان تجلى فى ارض هاجر بجزيرة العرب ولن تغيره القوة بأرضها فى مصر .

                   وهاهو الحجاج بن يوسف الثقفى الذى لم يتورع عن رمى الكعبة (بيت الله الحرام) بالمنجنيق ، لم يتجرأ ان يخرج عن هذه الثوابت وقدم النصح لطارق بن عمرو قائلا : اذا ولاك امير المؤمنين على مصر ( سرد عددا من الوصايا الى ان وصل ) اتق فيهم ثلاثا :
                                         1- نساؤهم لاتقربهم بسوء والا اكلوك كما تأكل الاسود فرائسها .
                                         2- اراضيهم والا حاربتك صخور جبالها .
                                         3- دينهم والا احرقوا عليك دنياك ....
فالأرض ظلّت فى مفهوم الحكم الاسلامى ايا كان فقه حكامه ضمن ثالوث محرم انتهاكها ، تماما مثل العرض والدين .

                   واتفاقية ( البقط ) التى وقع عليها عبد الله بن ابى السرح ، كان من ضمن بنودها ألا يتملك المسلمون اراضى النوبة ، ودارت فى هذا الشأن عدة شكاوى فى زمن الخليفة ( المامون ) دفعت ملك النوبة بأرسال ابنه الى بغداد لعرض المشكلة علىه وسفره الى مصر عند زيارة المامون اليها لمناقشته فى مشكلة الاراضى ، فقيمة الارض عند النوبة ولدى العرب لم تخرج فى نظر حكامهم عن الثالوث المحرم ، وظلت امانة منذ ايام السيدة هاجر والى يومنا هذا وكأنما هى التى عناها رائعنا العظيم ( وردى ) حين غنى ( عربا نحن حملناها ونوبا ) .

                    والذين اضطلعوا على شهادات ملكية الاراضى فى العهد السنارى ، تأخذهم الدهشة للدقة التى تنجز بها ، فبعد تحديد موقع الارض الجغرافى ومساحتها ، يأتى اسم المالك مصحوبا بسلسلة من اسماء الآباء وامهاتهم عن طريق ابيه ، وسلسلة طويلة من اسماء الآباء وامهاتهم عن طريق امه ، لتبدو وثيقة الملكية اشبه بشجرة عائلة او نسب تمتد اجيالا واجيالا ، كل هذا التدقيق يأتى دلالة على ما تعنيه ملكية الارض فى ثقافة هذه الامة على مر العصور .

                   سيدى والى ولاية الخرطوم ، هذه هى قيمة ملكية الارض ، متجذرة فى ثقافة هذه الامة من قبل الميلاد فى شقها النوبى والعربى ، لا نزع فيها حتى فى زمن الفتح والاحتلال ، وملكية الارض لا تمنع الانتاج عليها اذا تعزر على مالكها القيام بذلك لأى سبب ، فثمة مصطلح من كلمتين وجد فيه الناس من زمن قديم حلا لهذا الاشكال ، هو ( ايجار المنفعة ) فهو كفيل بالحفاظ على ثوابت هذه الامة فى تعاملها مع ملكية الارض ، وكفيل بأن يحفظ لمالكها ومؤجرها وسلطات الولاية حقوقهم فى المنفعة العائدة من انتاجها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...