الاثنين، 19 سبتمبر 2011

زمن الوشاية


               الألفية الثالثة حفلت منذ عقدها الأول بالكثير المثير الخطر ، واحداثها منذ تفجير برجى التجارة العالمية ، انذرت بأن العالم لم يعد محكوما بذات الأطر والمفاهيم والقوانين والقيم التى حكمته طيلة العقود الماضية ، ومن بين كلما حفلت به الألفية الثالثة يبدو موقع (ويكيليكس) اكثرها اثارة واحد علاماتها البارزة ، فما ظل يبثه من خفايا كواليس الدبلوماسية الامريكية ، هزّ مفاهيم الناس عن الوشاية التى طالما كانت فعلا رزيلا ممقوتا يتحاشى الناس الاقتراب من اولئك الموسومين بها كما يتحاشون حاملى الامراض الخبيثة المعدية ، ولكن هذا الموقع  وبأستعراضه لكثير من احاديث القيادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية للدول التى طالتها تسريباته ، كشف ان الوشاية  لها وظيفة معززة لمكانة اولئك الواشين بمكنونات آرائهم لمتلقين غرباء ،  خاصة اذا كان متلقي الوشاية  احد ممثلى الدبلوماسية الامريكية ، القوى العظمى المنفردة حتى هذه اللحظة .

                 وبالطبع لا يستطيع كائن من كان ان يلوم الدبلوماسية الامريكية التى ظلت تفتح اذنيها لمثل هذه الوشايات التى تخدم مصالحها والتى تاتيها طوعا وطمعا وكرها احيانا ، وبأستثناء امريكا وهؤلاء الواشون فأن حكومات وشعوب البلدان المعنية بهذه التسريبات لاشك هم اكثر الأطراف امتنانا ل (جوليان اسانج) مؤسس موقع (ويكيليكس) الذى قام بنشر هذه الفضائح على الملأ ، وكشف لهم حقيقة تلك القيادات وايضا سوء تقدير تلك الحكومات وشعوبها فى اختياراتهم لحملة امانة مصائرهم .

                   المروّع فى الامر هنا ، ان نكتشف ان هذا السلوك كان فعلا مستمرا على مر الحقب والازمان ولكنه ظلّ آمنا مستترا فى كواليس لم تعد حصينة بعد ان اخترقت وسائل الاتصال الحديثة كل جدرانها السميكة ، والمروّع اكثر ان نكتشف ان الوشاية من اقدم مهن البشر التى لاتحوّج صاحبها من مهارات سوى مرونة اخلاقية عالية وارادة لا تحدها ايديلوجيا او تنظيم اذا كان من الوشاة بمكنون آرائه ، و اتقان فن الاستماع وامتلاك ذاكرة يقظة قادرة على تسجيل كل كبيرة وصغيرة ومن ثم تسويق حصيلة جمعه والتقاطه من احاديث الناس لمن يهمه امرها اذا كان واشيا تقليديا ، وهى مهمة فى مجال السياسة لا تتطلب منه سوى ان ( يندس فى السلطة ليكون معارضا ويندس فى المعارضة ليكون هو السلطة ويحارب السلطة بسلطة اخرى ولا يتبعه احد من فرط ما هو تابع ) حسب قول محمود درويش .

                    و(جوليان اسانج) فى هذا السياق يبدو اكبر وشاة التاريخ ، ولكنه فى ذات السياق يبدو عمليا ابرز دعاة حرية النشر دون اى اعتبار لأى تحفظات ، وهى مسألة لا يحد من خطورتها سوى ان يمتثل المنشغلون بالعمل العام فى طرح آرائهم وافكارهم ومواقفهم حول كافة القضايا وعلى مختلف المحافل بالوضوح والشفافية والعلانية ، فهذا زمن لايجدى معه المواربة والتستر ، فالوشاية صارت صناعة مربحة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...