الخميس، 4 نوفمبر 2010

اطباء بلادى

                       فى تلك الاوقات التى تبدو فيها الثانية عبارة عن زمن من الألم ممتد بلا نهاية ، فى تلك الاوقات التى يصير فيها الألم جلادى ومعذبى وجحيمى القائم ، فى تلك الاوقات التى يعتصرنى فيها الألم بلا رحمة ويسحق صبرى وجلدى واحتمالى ولا يبقى منى سوى كتلة من الانين والصراخ ترى فى الموت خيارها الوحيد للنجاة منه ، فى تلك الاوقات التى تغطى فيها الظلمة  افق أحبتى واعزائى واصبح فيها وحيدا مع ألم لا يخف ولا يفوت ولا يموت وترى نفسك لا تسوى جناح بعوضة يطل اطباء بلادى ملائكة نازلة من سموات محتشدة بالرحمة والحنو والرقة ثم يبدأون تفتيشا دقيقا فى كل خلايا جسدك بحثا عن اوكار ذلك الألم اللعين ليقهروه فى معقله ، عندها تأخذك غرابة الأسئلة.. كيف تدلى اليك الموت زهرة جميلة كم تلهّفت الى قطافها ؟ كيف صار الموت رغبة لحوحة والناس تبذل ما فى الوسع وما فوق الوسع لتحاشيه ؟ كيف فات عليك ان هذا الكائن النبيل الذى تمر به كثيرا فى يومك اوقف حياته حارسا امينا لحياتك وحاجزا بينك والألم ؟ وسلسلة طويلة من الأسئلة التى تملأك امتنانا وشكرانا وتقديرا لهؤلاء الاطباء .
                       فى احد نهارات  العشر الاواخر من رمضان الماضى كنت فجأة فريسة سهلة لهذا الغاصب البغيض ، ضرس اعيته رحلة طويلة لفم ذاق مرارات وحلاوات الحياة ، وزادته حرارة الشمس فى ذلك النهار  اعياءا على اعياء وطريق الثورة بالنص بأزدحامه الممتد حتى منطقة الشهداء يضغط على جدرانه مانحا ملايين السوس شقوقا جديدة لأقامة دائمة عامرة بالتكاثر والألم ، حينها كنت اتلّفت جزعا نحو لافتات الاطباء بحثا عن عيادة اسنان حتى اخذنى الطريق الى شارع الدكاترة ، لتلوح امام ناظرى لافتة لم استطع ان اتبين منها سوى عنوانها البارز (عيادة اسنان) فكأنما لاحت لناظرى واحة فى صحراء ، المبنى كان جديدا وكذلك العيادة ، وعدم وجود منتظرين منح المكان سكونا مهيبا ، وموظفة الاستقبال ملتفة بعباءة سوداء يلفها اثر الصيام ، سألتها مقابلة الطبيب الذى لم يسبق لى رؤيته من قبل ، فردت علىّ (الرسوم خمسون جنيها) ، فى نبرتها كان ثمة خيارات ممكنة وفى محفظتى كانت تقبع ثلاثون جنيها لا غير ، احتاج الامر منها مراجعة الطبيب الذين كان وقتها يتحادث مع احد معارفه ، فسمعته يقول لها ( خليهو يتفضل ) لحظتها هتف المكان حولى (وطنى السودان اعز مكان) ،فتحت لى بابا  قادنى الى غرفة واسعة اشبه بصالة ، بها كرسيين يعرفهما من خاض هذا التجربة بأن تأثيرهما على المرء شبيه بتأثير كراسى الاعدام التى تتحفنا بها السينما الامريكية بين الحين والحين ، رقدت على احدهما وثمة رجفة تزحف على معظم جسمى ، همست فى سرى (يا مثبت القلوب) دخل الطبيب الغرفة ، فتفحصته مليا واطمأنيت الى قوة بنيانه ، فقد سبق ان خضت تجربة قاسية مع طبيبة اسنان حالت رقتها دون خلع ضرسى الا بعد حقنى اربعة مرات بالمخدر واخذت وقتا طويلا دفع المنتظرين بالخارج الى البدء فى التظاهر ، فقلت فى سرى لن يستغرق الامر هذه المرة سوى دقيقة ، واستدعيت كل جلدى وانتظرت الى ان يفرغ الطبيب من تحضير ادواته ، جاء وعاين حالة الضرس وقال ان الحشوة هى الحل وكنت واضحا ان الخلع هو الحل ، لكن ثمة خوف دفعنى للتراجع وليته لم يفعل ، مجموعة من الحفارات والكسّارات واخرى لم اتبين اشكالها الا ان الاصوات التى احدثتها اقنعتنى بأن ثمة معركة تجرى هنا الله وحده وهذا الواقف يعلم نهايتها ، استغرقت العملية زمنا طويلا لم يدانينى شك للحظة واحدة ان الطبيب كان مجذوبا بمهنته اكثر من عائدها بل بدا لى انه يعالج فى احد ضروسه بكل حرص واهتمام .
                    انتهت العملية بنجاح وفاجأنى بأنها الاولى فى سلسلة من ثلاثة عمليات ، (اللهم لا اسألك رد القضاء ولا اللطف فيه ولكن قوى عزيمتى لأحتماله ) كان هذا ردى عليه سرا ، وحدد لى مواعيد لمقابلته ، اوفيت بالموعد الاول وكان ساهلا حتى نهايته ، ولكن زوال الألم وضغوط الحياة ومشاغلها انستنى الموعد الثالث والاخيرالى ان فاجأتنى ليلة امس موجة من الألم اشدّ واقوى من سابقتها ولكن هذه المرة رغم شدتها الا ان املى فى زوالها كان كبيرا فقد امتلكت خريطة واضحة تقودنى مباشرة الى مخلصى الا وهو الدكتور احمد على احمد انسان سودانى صميم احزنه احتمال فقدانى لهذا الضرس المؤلم نتيجة لأهمالى فى الوفاء بموعده الثالث والاخير، ولكن مهلا ،وانا فى طريقى الى الشقة التى بها العيادة  رأيت فى اعلى السلم رجلا حيّانى بطيبة تبعث الطمأنينة فى النفس رددت التحية ومنعنى الألم من التعرف على ملامحه ودخلت الى العيادة ،موظفة الاستقبال هذه المرة مثل سابقتها يحيط الادب مودتها فى استقبالك ، عرضت عليها (كرت) المقابلة فبحثت فى دفترها فترة من الزمن ثم ناولته لى ووجهتنى لمقابلته ، لقد كان ذات الرجل الذى حيّانى على السلم وبدا حزينا لأحتمال فقدانى لهذا الضرس الا انه لم يألو جهدا فى عمل الواجب وتحرير روشتة وتحديد موعد قريب ، وخرجت الى موظفة الاستقبال لمعرفة ما علىّ سداده الا انها افادتنى بأن الطبيب لم يأمر بشىء ، تذكرت الحوار الذى دار بينى وبين موظفته الاولى فى المرة الاولى والذى سمعه الطبيب بتفاصيله وبدا لى ان تقديره لكونى متقاعد بالمعاش كان كافيا للتغاضى عن رسومه المستحقة ليس على علمه وجهده ومصاريف العيادة وقيمة اجهزته الحديثة فحسب وانما على ما صرفه علىّ من مواد خاصة بالحشوة وبالتخدير ، شعرت لحظتها ان اطباء بلادى اكثر نبلا وشهامة وسموا مما كنا نظن ، فالتحية والتقدير والامتنان لكل اطباء بلادى فقد رأيت جمال صورتهم فى شخص الدكتور احمد على احمد .
                 اقول قولى هذا والله يشهد بأنه الحق ولا شىء غير الحق سوى انه فى احد وجوهه يبدو  محاولة صغيرة لرد جميل كبير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...