يمشى نصفا فى الطرقات ، ويؤمن ان نصفه الآخر موجود فى منطقة غائبة عن بصره ، او فى عالم الغيب ، ويوما ما ، ستخرج الى الوجود مثل شمس اشرقت بعد شتاء طويل ، يمشى نصفا فى الطرقات حتى يجفّ حلقه ، يتلفت كنمر جائع يبحث عن فريسة ، فيرى سبيلا هنا وسبيلا هناك محاطة بالعطش ، يحن قلبه ويهم ان يسقيها ، لكنه يخشى البلل ، فيعود سريعا الى طريقه بلافتته البارزة (عليك الانتظار) .
وبدأ يتوهم انه فى مرحلة الشباب ، رأى رجلا وسيما يسير مع زوجة وسيمة الجمال ، ويرتدى زيّا يليق بقصور رئاسية ، ولوهلة تراءى له انه رآها كامنة تلوّح له من صلبيهما ، فأخذ يهىء نفسه للقاء بعد عقد ونصف او ربما اكثر بقليل ، ويقنع نفسه بأنها فترة لا تسوى شيئا مع ترحال الاعراب الطويل فى الصحارى القاسية ، ووقفتهم على مشارف خيام الاحبة .
ولما انقضى عقدان دون ان تصدق رؤيته ، اذّن مؤذّن الناس العاديين فى أذنه ، هيا على الزواج ، واستقبل العالم اسرة جديدة باردة العواطف .
وعلى مدى عقدين ونيف قضاهما انسانا عاديا ، بذات شكاوى الناس العاديين ، وبذات احلامهم الميتة ، التقاها صدفة فى مكان لم يكن يخطر على باله ولا فى اكثر شطحاته انفلاتا ، التقاها بشرا سويا ، ابهى جمالا من تصوير مخيلته المرهفة ، فأستيقظت فى داخله عاطفة وحشية مرعبة ، لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم ، انما تلاحق دقات قلبه المرسلة بعنف الى هذا القادم من احلام نقية فتية ، فصار تمثالا تتدفق من جوانبه عواطف عذبة تبدو بلا نهاية .
لم يسعفه حاله هذا ان يبنى موقفا رزينا ، لا يهدر فيه عاطفته كما اهدر عمره من قبل فى رهان خاسر مع الزمن ، ولا يطلقها بمراهقة مرهقة ، تقضى على ما تبقى من حيوية قلبه ، موقفا جديدا يرتقى بروحه الى ذرى صوفية ، يستمتع فيها بجمال رب العزة والجلالة المتجل فى خلقه ، لم يسعفه حاله بشىء ، فدخل مأسوفا عليه فى عزلة مجنونة ، بالكاد تجده حاضرا ببهائه القديم ، فقط تلحظه سجينا فى عبارة وحيدة يردد فيها صباحا ومساءا ( تأخرت كثيرا) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق