السبت، 20 أغسطس 2011

جلابة


                    للمدن الرئيسة فى جنوب السودان سحر خاص ، تتشارك جميعها فى الخضرة والماء ووجوه متعددة الحسن وحى يدعى (الجلابة) تجده فى ملكال و واو و جوبا ، والجلابة هم ابناء الشمال النيلى ، من الذين ضاقت بهم الحياة بعد ان ضاقت عليهم مواعين العمل فى الشمال فلجأوا جنوبا بحثا عن عمل يوفر لهم حياة كريمة ، والقاسم المشترك الاعظم بينهم سواء اكانوا تجارا او حرفيين او موظفين حكوميين او حتى عسكريين ، ان الجنوب كان فى تفكيرهم ملاذهم الوحيد من البطالة والفقر والذلة ، وتأريخهم هناك يكفى  تقاسمهم مع اهل الجنوب الدم واللغة والمعرفة شاهدا على نصاعته ، ويندر ان تجد بينهم من لا يجيد احدى لغات الجنوب ، دينكاوية كانت او نويرية او شلكاوية او لغة الباريا التى تنتمى مع لغات الشمال النوبى لأم واحدة او غيرها ، وظلّت احياء الجلابة عقودا طويلة من الزمن رمزا قويا على قدرة السودانيين بمختلف اعراقهم واديانهم وثقافاتهم على التعايش ، بل بدت احدى ركائز وحدة السودان البارزة ، لذا لم يكن غريبا ان يتجه دعاة الانفصال والعنصريون بخبث شديد الى الزج (بالجلابى) فى صياغات تقف به رمزا كريها للعنصرية والاستغلال والاستعلاء العرقى متحدية بذلك واقعا مغايرا يمشى على الارض شاهدا على عظم التجربة التى انتجها هذا (الجلابى) والمتمثلة فى انجازات اعظمها ولادة اجيال من السودانيين النابهين لا يستطيع الجنوب ان ينكر انتماءها له ولا الشمال .

                     وما يدعو للأسف حقا ، ان ينجرف خطاب بعض المثقفين السودانيين الذين يدّعون مناهضة العنصرية والاستعلاء العرقى ، الى تبنى موقفا يحض على العنصرية والكراهية والحقد والاستعلاء على (الجلابى) كرمز لأبناء الشمال وعلى وجه الخصوص ابناء الوسط والشمال النيلى  ، وهو موقف يدعو للتسآؤل عن سر تماهى هذا الخطاب مع الثقافة التى انتجتها صراعات بعض الاسلاميين على السلطة واستقطبت دائرتها اطرافا سودانية تمت استثارتها عرقيا بمهارة عالية ، تجلت فى اصدارة (الكتاب الاسود) المدعومة بتصريحات مؤججة لصراعات عرقية وقبلية ، ومع تقديرى الكامل لعدالة قضايا هذه الاطراف الا ان الزج بالعرق فى مثل هذه القضايا خاتمته حتما الى المجازر ومن ثم بسط ثقافة التقسيم على اساس عرقى وجهوى ، فلماذا يتناغم هؤلاء المثقفون بمواقفهم من احد مكونات هذا الشعب مع  هذه المشاريع ؟

                      انه لأمر محزن حقا ان تصبح اصوات بعض الاسلاميين المشروخة التى تختزل صراعات السودانيين حول قضاياهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى العرق ، هادية لمثقفين مدركين تماما حقيقة العلّة المنتجة لهذه القضايا وطرق علاجها ، ومحزن جدا الا يدركوا ان صوتهم مهما تضاد مع تلك الاصوات فانه يكمّل فى خاتمة المطاف ذات النغمة النشاذ التى استهدفوها ويؤلف معهم ذلك النشيد الشيطانى الذى يناجى مخيلات كثيرة بمقطع وحيد ينادى بوجوب صعود كل قرد الى جبله ليصير الوطن غابة موغلة فى توحشها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...