تحيرنى اللغة المتدفقة بكل جمالها وعوارها وبذاءتها المخجلة ، حين تبحث عن الحقيقة ، واكثر ما يحيرنى ، هذه الحكمة التى تحملها ، ثم تقدمها لك فى صياغة متباهية ، لتحد من فعل او قول او لتحضك الى ذلك ، اهى حكمة فعلا ام خوف مستولد من قهر الحياة ومتغطى بالصياغات المحكمة ؟ ام ترى انها مجرد هروب من الحق ؟ شاعرى الجميل الدوش قال (الحق فى ساحة مجزرة) والهروب من الحق ، هو ان تحتمى من الموت المحتمل بالذل ، هو ان تحتمى بالأسوأ من الموت ، بينما الموت هو الوجه الآخر للحياة ، انه رحلة خارج عتمة هذه الدنيا ، تأخذك الى النور الأعلى ، انه بوابتك الزاهية التى تقودك الى الجمال الخالد ، فالحكمة لغة عذبة كما قصص الحب ، ولكنها تبدو احيانا مجرد وسيط بارع فى منطقه ، يحاور فى عقول اخرستها الحقيقة ، انها محاولة حسنة النية ، تتلاعب باللغة كى تحمى البشر من جنونهم .
فمن اين تتدفق هذه اللغة بعجرفتها واستعلائها وقدرتها المرعبة على الدسائس ؟ هذه اللغة التى ظلّت تنبش فى اسرار الناس عبر القرون ولا زالت ، ولم تتعب بعد ، تتغطى احيانا بكل اكسسوارتها لتخفى وجه الحقيقة او لتكشفه ، تدور وتدور ثم تسقط فى النهاية ، صريعة لجاذبية الفضيحة ، انها الخديعة الكبرى فى حياة البشر ، اشعلت الحروب ، وحرّضت على القتل غيلة ، وجمّلت للخصام طريقا الى قلوب الناس ، وغشتنا .
هذه الفضفاضة حمّالة الاوجه ، غشتنا بأروع مفرداتها عن قصص حب ، توهمنا معها ان الحب هو قدر الانسان الجميل ، وصدقناها ساذجين ، فأكتشفنا لاحقا ان الحب هو عذابه وتعاسته ، وانه لم يكن سوى استثناءا فى حياة الشعوب ، استثناءا قى كل هذا العالم الواسع ، استثناءا مذكورا فى قصص معدودة على الاصابع ، يحفظها صبيان المدارس .
غشتنا بأكثر مفرداتها قوة وحزما ونصاعة وجلاء ، عن العدل الموجود والقائم حكما بين الناس ، ثم نكتشف ان تأريخنا ، ومنذ ان عرف شيئا اسمه الدولة ، وعلى مدى اكثر من الف وخمسمائة عام ، لم يتحقق فيه العدل الا على فترتين لم تتجاوز مدتهما عقدا ونيف ، الاولى على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب والثانية على يد الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز ، وماتا مقتولين ولم يسلما من القيل والقال .
هذه اللغة المخادعة ، المتماهية مع فساد العالم ، قتلت من امسك بحقيقتها ، وطرحها شفافة وهى تنقب فى (السؤال المندس فى اليقين) على قول الشاعر المغربى الرائع كريم شياهنى ، واستدرجته بكل جماله وهو يخوض فى النور ، الى انفاق داكنة ، يتربص فيها حراس الازمنة المظلمة ، ثم ساوت بينه والمجرمين القتلة على المشانق .
هذه اللغة المخادعة لن تعرف معها الحقيقة فى المنشور منها ، لأن الحقيقة ساكنة فى بطن غريقة مختبئة فى السر ، واخرى محاطة بالخوف ومسكونة بالاستعارات ، واللغة الصادقة هى التى يلقى بها صاحبها فى سلة المهملات ، او تلك المحترقة على المواقد ، لأنها لغة خرجت متحررة من تأثير الخوف او تأثير المعايير او متمردة عليها ، ولأنها بهذه الصفات الخطرة ، أعدمها صاحبها قبل الآخرين .
ستجد الحقيقة فى بطن غريقة مسكونة بالخوف ومندسة فى السر ولا سبيل اليها ، ستجدها فى رماد المواقد فأنتظرها الى يوم القيامة لتقرأها ، ستجد الحقيقة مندسة فى خوفك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق