الأحد، 7 أبريل 2013

البحث عن قصيدة


     
                   عند الفجر تخلو طرق هذه الاحياء من اى حركة سوى حركة الدخان المتصاعدة من (الكوش) المتراصة رؤوسا لشياطين تدخن على الطريق ، ويعض الكلاب الهزيلة التى تنبش فى نفاياتها ، ويا لها من نفايات ، ماركة مسجلة لأحياء الحارات الشعبية المنتشرة على ارض هذا الوطن والعالم ايضا ، معالم الطريق فى هذا الوقت من اليوم هى نفس معالم الطريق فى اقصى حى من البلد ، نفس (الكوش) نفس الكلاب ، وشجار بايت يأتيك صداه من خلال شقوق الاسوار او الشبابيك منهكا من عناء نبيح الليل الطويل ، وانفاس مشبعة برائحة العرقى والتبغ والتمباك تأتيك مختلطة برائحة المراحيض التى تزكم الانوف ، وعلى الجدران شعارات معارضة قديمة وجديدة من عينة يسقط والى الجحيم وثورة ثورة حتى النصر واعلانات جمعة لحس الكوع ، وكلها لم تفلح يد الماسح من ازالتها ، وكتابات اخرى مراهقة من عينة (هيثم يحب لانا ) و(حسب الله يحب هيثم) وفضائح مكتوبة على عجل لا تستبين اسماء اطرافها المطموسة بسبب عجلة كاتبها ، وافضل هذه الكتابات واكثرها جمالا كتبت باللون الازرق وبالبنط العريض (سيد البلد) ، تمشى مثلما قال الشاعر العراقى حميد العقابى ( فى الطريق الى البيت لا شىء يسترعى الانتباه سوى المقبرة ) .

                    البيوت ايضا تحمل رائحة شوارعها ، وآثار عراكاتها الطويلة مع الحياة وعراكات قاطنيها مع بعضهم البعض ومع آخرين ، اشجار (النيم) و(دقن الباشا) علامات مميزة ومساكن نهارية للعاطلين ، البيت لا يزال يتلاعب بموقعه فى الذاكرة ، علامته الحيّة الوحيدة التى تعرفها الذاكرة ، امرأة فى العقد السادس تجلس على زاوية الشارع وامامها (صاج) (للطعمية) ليلا وللزلابية فجرا (سلام عليك وانت تعدين نار الصباح) غناها مارسيل خليفة ، وسلام عليك وانت تعدين نار المساء ، يغنيها اطفال الحى ومدمنو عصير البلح ، انها دليل البيت فجرا ومساءا ، اين ذهبت هذه المرأة التى صاحبت اصابعها النار ? ، اتمنى ان تكون قد انتقلت الى تلك الاحياء التى ينزل بعض ملاكها من طوابقها العليا وينظرون الى الاشجار الظليلة المتراصة امام سورها الخارجى ولا يذهب تفكيرهم ابعد من كونها افضل مرابط للحمير ، فثمة عشرة طويلة لا تنسى ، هذه المرأة احق من شرازم الطفيليين الذين تضج بهم تلك الاحياء .

                      تاه عنى البيت وسط  هذه الكانتونات ، هذه المحابس ، هذه المقابر ، هذه الابنية البسيطة التى تهددها بيئتها بالأوبئة وتهددها الحكومات بالاجهزة اذا فكرت يوما بالجمهرة والاحتشاد الاحتجاجى ، ويتزلف لها زعماء الاحذاب والتنظيمات السياسية فى مواسم قسمة الثروة والسلطة ، معظم الكتابات العميقة خرجت منها واليها ، معظم الاغنيات العذبة خرجت منها واليها ، معظم القصائد التى تدفعك فى هذا الفجر تبحث داخلها عن شاعر ، خرجت منها واليها ، معظم النشاط الرياضى صمم لها ومعظم مشاهيره منها ، والمرأة هنا كما قال الشاعر اللبنانى حسن العبد الله (لا لؤلؤة على الصدر ولا اقراط على الاذنين ولا سوار فى المعصم ، رغم ذلك فأبتسامتها تلمع كطن من الذهب ) اى قوة سريّة تلك التى ابقت هذه الاحياء قائمة بعذاباتها وافراحها وافراخها الغفيرة ونشرتها بين الدول والممالك عنوانا عريضا لعبودية قديمة لم تنته بعد؟! تبّت يدها وتب .

                       ما جدوى البحث عن قصيدة تراها امامك قائمة او نائمة بلحمها ودمها ؟ بعد قليل ستشرق شمس يوم جديد ، وهل صحيح ان الشمس تشرق ام ان كوكبنا يدور دورته اليومية على مدارها ؟ لا يهم ، سوف تفوتنى اليوم نشرة الاخبار الاولى ولن اتمكن من معرفة وفيّات اثر علّة لم تمهله طويلا ، ألا يحتج طبيب واحد فى هذا البلد على هذه الصياغة التى تميت الناس بالعلل قبل ان يحتج عليها شيخ مهووس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...