الاثنين، 15 أغسطس 2016

المدن السجون


                         ان تشك فى امر ما ،  يعنى ان ثمة غموض يحيط افكارك عند النظر لظاهرة او لظواهر مؤرقة ، وظاهرة كالهجرة من الريف الى المدن ، شغلت تفكير معظم القوى السياسية و الكثيرين من ابناء المدن والريف على السواء ، وسيقت فى شأنها كثير من النظريات والتحليلات والتبريرات ، استقر معظمها على ان اسبابها ناتجة من اختلال فى توزيع مشاريع التنمية وتمركزها دائما فى المدن الكبيرة لتوفر البنيات اللازمة لنجاحها كالطاقة والمواصلات والاتصالات والقوى البشرية المؤهلة ...الخ ، اى ان الظاهرة منتجة بأقتدار من قبل سياسات الحكومات قصيرة النظر ، او هكذا استقرت اسباب الظاهرة فى وعينا الى وقت قريب ، ولا زالت مستقرة فى وعى آخرين عنوانا رئيسا للثورة .

                          لست هنا بصدد تحليل لهذه الظاهرة ، وانما البحث عن مصادر هذا الشك الملحاح الذى يقودنى دائما الى انها مجرد مشروع كونى ، اعد بحرفية عالية من قبل قوى عظمى ، امتلكت مصادر التمويل والتقنية والمعرفة اللازمة والقدرة على انتزاع القرارات حتى من اعدائها ، وفرض شروطها الملغومة بأجندة لن يمض عليها وقت طويل ، حتى تصبح الارض ومن عليها فى خدمتها ، وأهم هذه الاجندة ، الاحتفاظ بأوسع المساحات بورا لمستقبل استثماراتها ، لذا سعت ومنذ وقت مبكر لحشر سكان الارياف داخل المدن الكبيرة ، التى تتمركز فيها الخدمات وسبل كسب العيش ، بفعل الشروط التى يمليها صندوق النقد والبنك الدولى وغيرها من مؤسسات التمويل العالمية .

                          اعلم ان الخوض فى هذا الموضوع يحتاج لوثائق واحصائيات رسمية ودراسات مستفيضة لعينات من السكان النازحين داخل المدن الى آخر ما تحتاجه دراسة علمية موثوقة ، ولكنى اتحدث هنا من واقع ملاحظات عادية لأمرء عايش تطورات هذه الهجرة حتى بلغت مستواها الحالى ، وهى فى تقديرى تكفى للتيقن من صحة مصادر شكى القائل بأن الهجرة من الريف الى المدن وهجرة العقول من الوطن الى الخارج ، عبارة عن مشروع كونى يهدف الى الاخلاء للاحتفاظ بمساحات واسعة من الارض لمستقبل استثماراته .

                          اولى هذه الملاحظات ، اننا ومنذ ان وافقنا على شروط صندوق النقد والبنك الدولى المعلنة منها والمخفية لأول مرة فى النصف الثانى من سبعينات القرن الماضى ، ابتدأ كل شىء مستقر فى السودان يهتز ويبدأ تآكله بمقدار سريان تلك الشروط فى حياة الوطن ، فضلا عما اضافته عوامل الطبيعة كالجفاف والتصحر .

                         ثانى الملاحظات ، ان الحرب التى تعتبر اقوى العوامل المغذية للهجرة والنزوح الى داخل المدن ، فمسبباتها بجانب كونها ضمن الصناعات العالمية المحتكرة لتجارة السلاح وعملاء القوى العظمى المتصارعة فيما بينها على الموارد ، فهى ايضا ناتجة من تطبيقات تلك الشروط سيئة الذكر وآثارها السالبة التى تلقى بها على كاهل اهل الاقاليم .

                         ثالث هذه الملاحظات  ، .انه بعد ان تضاعفت اعداد النازحين نتيجة لخطل السياسات التى انتجتها تلك الشروط مضافا اليها عوامل الطبيعة ، ونتيجة للحرب ، تم التقنين لهذا الحشر داخل المدن من قبل الامم المتحدة بأنشاء مفوضية النازحين ، والتى نادت بألزام الحكومات حول العالم بحق النازحين فى سكن مخطط داخل المناطق التى استقروا فيها عشوائيا ، وهى دعوة حق اريد بها باطل ، فمعظم الحكومات التى عانت من هذه المشكلة ، عاجزة عن الايفاء بأحتياجات سكان المدن القائمة قبلا وفقا لمعايير الكرامة الانسانية ، فما بالك بما فعلته الاستجابة لهذه المقررات الاممية التى حفّزت الآخرين الصابرين على كفاف يومهم بالنزوح للحاق بالحصول على سكن بالمدن ، لم تنه معه معاناتهم بل واجهوا معانات جديدة تطلبت منهم جهودا كبيرة للتأقلم معها خاصة مع نمط الحياة الجديدة فى المدن .

                        يقلقنى الآن ان يكون ثلث سكان هذا الوطن وربما اكثر متمركزون داخل العاصمة ، ومعظم باقى الثلثين داخل المدن الكبيرة بالاقاليم او الولايات ، وباقى مساحات هذا الوطن تركت لمصير مجهول ، وما يقلق هنا ان اقوى الحكومات قدرة على الفعل لا تستطيع ان تلتفت لتلبية حاجات مواطنيها الى ابعد من حدود المدن ، فالحكومة ومواطنيها اصبحوا محصورين داخل هذه المدن ، وما تبقى من ارض الوطن عرضة لأستثمار اجنبى لا استبعد انه متى وضع يده عليها سيمنعنا حتى المرور عبرها ، لنصبح نحن وحكوماتنا مساجينا داخل مدن بالكاد تكفى حاجاتنا لحياة كريمة .

                         

                          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...