الأربعاء، 26 أغسطس 2015

هرطقات سافرة


                    يحدثنا حسين مروة فى سفره الرائع (النزعات المادية فى الفلسفة العربية الاسلامية ، طبعة الفارابى - الطبعة الثانية 2008 - المجلد الثانى - الفصل السادس ص 389 ( بأن المنهج العلمى يرشدنا الى حقيقة مهمة فى تأريخ تطور المجتمعات البشرية والحضارات ، هى ان التراكمات الكمية ضمن مجرى هذا التأريخ يمكن ان تتخذ اشكالا مختلفة فى تحولها الكيفى . يمكن مثلا ان تتحول الى كيفية سياسية ، او اجتماعية ، او فكرية نظرية ، او الى نوع من العنف الثورى . 

               لقد تابع انجلز اشكال المعارضة الثورية لأقطاعية القرون الوسطى كلها ، فوجد ان الظروف الزمنية كانت تظهر هذه المعارضات حينا فى شكل تصوّف ، وحينا فى شكل هرطقات سافرة ، وحينا فى شكل انتفاضات مسلحة . 

               ان شكل التحوّل الكيفى فى هذا المجتمع او ذاك ، وفى هذا الزمن او ذاك ، انما تحدده طبيعة الظروف الملموسة فى الواقع المحسوس . وربما كانت الظروف هذه مؤهلة وناضجة احيانا لحدوث تحولات كيفية مختلفة الاشكال فى وقت واحد ، اى قد تجتمع فى ظروف معينة تحولات سياسية واجتماعية وفكرية معا ، قد ترافقها انتفاضات مسلحة ، وقد تأتى هذه التحولات تمهيدا لأنتفاضات مسلحة ، وقد يستغنى بها التطور عن اشكال العنف الثورى كليا .)

                      اتمنى ان يستغنى تطورنا السياسى والاجتماعى والفكرى عن اشكال العنف الثورى كليا ، ولكن يظل هذا التمنى فى ظل ظروفنا المعاشة ، مواجها بالمعارضات التى اشار اليها انجلز اعلاه ، وتبدو ظاهرتى الانتفاضات المسلحة والهرطقات السافرة  فى راهننا ، المعوق الابرز امام تطور مجتمعاتنا ، بأعتبار ان التصوف يشكل الاساس الدينى العريض لاغلبية اهل السودان المسلمين ، وهو ليس بذلك الفهم الذى يشكل عائقا امام التطور ، بل يبدو سباقا فى هذا المجال رغم ان معظم نشاطه كما يبدو ، يدور داخل الاطر الاجتماعية بعيدا عن دوائر السلطة وتأثيرها .

                        ولأن ظاهرة الانتفاضات المسلحة كما نعايشها الآن مجسدة فى الحركات المسلحة ، محل نظر ومعالجة محليا واقليميا ودوليا ، فان ظاهرة الهرطقة السافرة التى اخذت فى الآونة الاخيرة تتخذ شكلا طبيعيا من اشكال السلوك الاجتماعى تحتاج النظر بعمق الي المخابىء التى اخرجتها .

                والهرطقة فى هذا السياق ليست تلك التى ارتبطت تأريخيا بالدين فحسب ، فثمة فيديوهات وتسجيلات صوتية وكتابات ورسومات ، منتشرة بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعى والاجهزة المحمولة تتناول مواضيعا مختلفة ، يبدو الحياء معها اثرا من الماضى ، ولكنها وللأسف تبدو تعبيرا حقيقيا عن رفض لواقع مزرى ، وشكلا من اشكال المعارضة لهذا الواقع ، او بمعنى آخر تبدو اكثر الادوات فعالية فى تجريد المجتمع من القيم والمبادىء السامية التى تضبط سلوك الناس فى الفضاء العام ، اذ انه حينما يكون هذا الفضاء العام حكرا لفئة بعينها ، فأن ضوابطه التى صعدت بهم الى قمته بسلاسة ، لن تكون فى نظر المهرطقين سوى وسائل قهر وتضليل واحتيال ، ومن هنا تكتسب شكلها المعارض ، او شكلها المتحرر  من اى قيود ، اجتماعية كانت او غيرها ، وما يخيف فيها ، وبعيدا عن اى ظلال سياسية ، هو ان تصبح ثقافة راسخة فى المجتمع من شأنها ان تعوّق اى تطور حتى اذا تغيرت الظروف التى انتجتها .

                      المجتمع السودانى فى مجرى تأريخه ، محتشد بقدر هائل من التراكمات ، يجب ان تكون مدعاة لتطور سياسى واجتماعى وفكرى ، لا يحوجنا سوى متسع من الحريات لمتسع من الحوارات ، بدلا من ان تكون مدعاة لصراعات بلا نهاية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...