الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

بالفطرة كان اقوى


             
                        السودان فى فترة الادارة البريطانية خضع لمسح جغرافى دقيق ، وكان مهندسو المساحة خلال تلك الحقبة اسياد الوظائف ، ويكفى حجم الخرط والخرط الكنتورية التى انجزوها عن طبيعة أرض هذا الوطن ، فقد كانوا رأس الرمح والكلمة الاولى والاخيرة لأى مشروع ولأى بناء مقترح ، واذكر ابان عملى بديوان شئون الخدمة فى السبعينات كنا نتعجب من وظائف مخططى المدن المبينة ضمن سجلات مصلحة الاسكان ، وكنا نعتبرها وظائفا نائمة لأنعدام وجود اى خطط اسكانية فى تلك الفترة  تستوجب وجود ذلك القسم بتلك المصلحة الصغيرة وقتذاك ، ولكنى الآن حين انظر لحجم الدمار الذى حاق بكثير من احياء الخطط الاسكانية التى تمت خلال العقدين الماضيين لا املك الا ان احىّ ذلك الكادر من مخططى المدن الذين انجزوا تخطيط احياء الثورات القديمة من الحارة الاولى الى السادسة والى العاشرة ايضا وغيرها ، فقد صمدت هذه الاحياء عقودا طويلة امام غضب الماء فى الخريف .

                              اكثر من مائة خريف مروا على امدرمان القديمة وظلّت صامدة امامه وامام سيوله العارمة ، مبانى من الجالوص المطلية بالزبالة ، وسقوف بعضها من الحصير والقنا وفروع النخيل وقفت متحدية غضبات المطر على مدى قرن من الزمان ، لم يكن يوجد عند بنائها شئون هندسية او مخططو مدن ، فقط اعتمدت على الفطرة ، فطرة تعرف كيف تتقفى اثر السيول فى الارض البور ، وتعرف طبيعة التربة التى تنوى ان تقيم عليها بناءها وبأى المواد تبنيه ، لقد كان بصر وبصيرة اجدادنا اكثر قوة وقدرة وعلم على اختيار مواقع السكن وكان الجالوص ولا يزال اقوى ، فلا داعى لتحميل المواطنين عنف الطبيعة واخطاء المسئولين .

                             غضب الطبيعة امر وارد و معروف عبر القرون ، واخطاء البشر امر وارد ومألوف فى اكثر الدول تقدما ، ولكن هناك من يتعلم من اخطائه ويعالجها بمسئولية ، والمسئولية فى هذه الكارثة التى انتجتها امطار الايام الفائتة التى ذكرتنا بخريف العام 1988 تقتضى ان تعود بالنظر الى لحظة توقيع ذلك القرار الذى اتخذ من ارض تألفها السيول مساكنا لمواطنين خاصة و (ان الماء يظل لمجراه امينا) ، وتقتضى محاسبة من اهدر ثقتهم فى علم ووثائق مؤسسات الدولة المفترض ان قدرتها على معرفة الصالح من الارض للسكن تكفى االمواطن كى يسلّم بعرض المسئولين بالاراضى ويستلم مطمئنا قطعة الارض المخصصة له ، ولكن ان تصبح التكلفة العالية التى تحملوها فى فقد ارواح اعزائهم وسيتحملونها فى مقبل الايام نتيجة لهذا التخطيط الخاطىء ، جزاءا على الثقة التى وضعوها فى المؤسسات المشتركة فى عملية وضع خطط الاسكان ، فهذا يعنى اننا امام مؤسسات تبيع الموت والخراب لمواطنيها وان الفساد هنا قد بلغ تمام قدرته على الاستبداد ، التحقيق فى اسباب هذه الكارثة واجب قانونى واخلاقى ودينى يقع على عاتق الدولة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...