الثلاثاء، 19 يناير 2016

كابوس مزمن


                    لا اذكر تأريخ بداية هذا الحلم بالضبط ، ولكنه تقريبا ابتدأ فى الفترة التى اعقبت خروجى من السجن ، والسجن  ليس كما يشاهده العابرون ، مجرد مبنى بأسوار عالية تمد اصبعها محذرة الناس ، او بالاحرى تقول لهم لستم احرارا كما تعتقدون ، فأنا هنا قيدكم الثابت ، او انا هنا اقصى مسافة يمكن ان تصلها حريّتكم ، وبعدها ستكونون مساجينا داخلى .

                    والسجن عموما ليس رمزا للبطولة ولا عقابا للجريمة ، ولا كما قال محمود درويش (معلمى الاول فى فقه الحرية) ، انه عالم آخر غارق بكلياته فى الحرمان ، مخاض قاس لولادة الآخر المختبىء فيك ، بأدنى نقطة ضعف فيه واعلى نقطة غضب ، هو مطاردة حامية مع الحنين ، الحنين الى الاهل ، والى  احبة ، الى اماكن ، الى اوقات يحظى وجودك فيها بمعنى جمال الحياة ، وهو ايضا مطاردة حامية بين الرغبة فى الانتقام من منتجى هذا الظلم العريض الذى يمشى بين هذه الجدران العالية ، وبين الجنوح الى التسامح عطفا على ضمور عقل الممسكين بالتشريع والاحكام والسلطة ، واملا فى ان يتيح التسامح مساحات اوسع للوعى ليحد ولو قليلا من الظلم .

                     ما اذكره عن سجن كوبر ، انه حاضنة  لأسوأ مستعمرة للباعوض عرفتها الطبيعة يوما ، ولا تستطيع مهما عانيت من الحمى ان تتخيّل  الحمى التى تسببها منتجاتها من الملاريا ، ملاريا تساكنها وتلازمها آخر سلالة (لايووقة) للجرب ، وكل هذه البلاءات يمكن ان تصادفها فى بيئة متخلفة وغارقة فى توحشها ، ولكنها فى سجن كوبر تبدو غيلانا تمسك أذنيك بغلظة ، وتفتح عينيك على نوافذ ترى من خلالها ، وطنا  غريبا لم تعرفه من قبل ، يساكنك فيه بشر اغراب لم تعرفهم من قبل ، وتسمع بانشطة غريبة ، قادت معظمهم الى هذا الداخل الغريب ، لم تكن تعرفها من قبل .

                    وفى الحقيقة ، كل ما ذكرته اعلاه كان واقعا معروفا بوعى كبير لدى الكثيرين ، وحدى الذى لم اكن اعرف نفسى فى هذا الوطن ، ولم اكن اعرف كذلك هذا الوطن ولا اهله كما يجب ، كل الذى كنت اعرفه عنه ، انه مراتع جميلة فى الصبا وفى الشباب ، ومن هنا بدأ كابوسى المزمن ، من الليلة التى قضيتها خارج اسوار هذا العدو اللدود للأنسانية ، لعنة الله على (كوبر) ذلك الانجليزى اللئيم ، فقد اختار من بين كل المساحات الخالية آنذاك ، هذا الموقع ليبنى عليه السجن ، فى خط واحد مع مدرج مطار الخرطوم ، فكل اقلاع او هبوط للطائرات كأنما يتم على رأسك .

                    والحلم او الكابوس كما لازمنى طوال هذه المدة ولا يزال ، و كما اعيشه كل ليلة ، عبارة عن  فضاء اخضر جميل ، تتوسطه شجرة ممتلئة وفارعة كفتاة رائعة الحسن ومعتدة بقوامها ، وبينما انا فى غمرة استمتاعى بهذا المشهد البديع ، تهب عاصفة عاتية ، تنحنى الشجرة لها فى صبر جميل حتى تمر ، ثم تتوالى العواصف ويتوالى الانحناء ، الى ان صارت الشجرة محدودبة الظهر ، وصوت مخيف يأتى من فراغ غامض  يقول ، ياله من مهبط مريح للنازلات ، ثم يلوح لى من بعيد ، مشهد انفجار سيارة مفخخة فى بلدة عربية ، واذا بشظاياه تتناثر على ظهر الشجرة ، ثم يلوح لى من جديد مشهد بناية تتهدم من قصف جوى فى بلدة اخرى ، واذا بغبارها واتربتها ودخاخينها يغطيان الشجرة ، ثم يلوح لى من جديد مشهد ومشهد من عدة نواحى الارض ، وكلها تنتهى اثارها على ظهر الشجرة ، حتى اذا ساد السكون وتجلّت الرؤية ، اذا بهذه النازلات تنهض وحشا قبيحا بستة اذرع ، يحمل بكل ذراع رمحا بستة رؤؤس ، ويرفعها ليهوى بها فى  قلب الشجرة ، ثم اكتشف فى اللحظة التى تسبق طعنتها ، ان قلب الشجرة هو قلبى ، فأستيقظ مذعورا مرددا ليرحمك ويرحمنى الله ايها الوطن .
                  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

اسرار الخلاص

                    الأسئلة لا تستطيع ان تغطى مجاهيل هذى المخاضة ، لا جدوى من سؤال او اجابة فى حضرة ذاكرة محتلة بالعشق ، ذاكرة كل نوافذها...